شخصيات

بقلم
رشيد الذاكر
سعيد بن عامر رضي الله عنه شخصية تستوقف الكبار
 الملك بالدين يقوى، والدين بالملك يبقى، وموارد الأمور تشتبه، وفي مصادرها يتضح اليقين، وإذا ضَعُفَ السلطان قوي الشيطان، ولا يَسْلَمُ على الناس أحد، ولم يجتمعوا في الرضا على بشر(1).
نحتاج إلى الحكام والأمراء ليخدموا الناس ويقوموا على تحقيق السعادة لهم من جهة الأمن والغذاء وكل سبل الراحة: يدفعوا عنهم الظلم، ويردوا بعضهم عن أذية بعض، غير أن الأمور انعكست عندما تمكن الملوك من عساكر وأجناد، يحمون ظهورهم، فتحولوا من خَدَمٍ إلى مخدومين، ومن دافعين للظلم إلى كبار مُمَاِرسِيه حتى لَيُظًن أن الولاية لا تعني إلا الظلم والاستبداد. لكن تبقى الحقيقة ناصعة كما كانت، ويعود أناس عندما يُولُونَ الحُكْمَ إلى منبع الحقيقة لأن الباطل لا يصير حقا لاتفاق الناس عليه، كما الحق لا ينقلب باطلا لاختلاف الناس فيه(2).
نماذج من الناس عندما تتمكن لا تُرى فيها إلا شموسُ معارف الوحي المتجلية في مثل قوله تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور»ِ(3) 
هذا النموذج المفرد الذي يُسَاقُ الحديث عنه بين أيديكم هو من الصحابة الكرام ممن ضَمِنَ لهم القرآن مقْعَدَ صدق هناك عندما كاشفهم بقوله جل شأنه «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (4)  فهو: سعيد بن عامر بن جذيم بن سلامان بن ربيعة بن سعد بن جمح بن عمرو(5). وأمه أروى بنت أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس(6). أسلم هذا الصحابي الكريم كما تشير مختلف الروايات قبل خيبر، وهاجر فشهدها وما بعدها(7)، وقد كان إسلامه خلال فترة معاهدة صلح الحديبية (8)، وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم كافة المشاهد بعد خيبر، ولعله كان بعد هجرته من أهل الصُفة الذين كان مسجد رسول الله مأواهم ليلا ونهارا، فلم تكن تعرف له بالمدينة دارا (9). وقد ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حمص جاء في تاريخ دمشق: دعا عمر بن الخطاب رجلا من بني جمح يقال له: سعيد بن عامر فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا فقال: لا تفتني يا أمير المؤمنين قال: والله لا أدعك، والله قلدتموها في عنقي وتتركوني(10).
وقد قبل هذا الأمير الجليل مهمة الولاية ليكون خَادماً لكل من تحت إمرته من الناس تأسيا بأنوار المصطفى صلى الله عليه وسلم المُشِعَةِ من مثل قوله « إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها»(11). واستشعارا لهذه المسؤولية كان سعيد بن عامر رضي الله عنه إذا خرج عطاؤه ابتاع لأهله قوتهم وتصدق ببقيته، فتقول له امرأته: أين فضل عطائك؟ فيقول: قد أقرضته (12).
بل الأعجب من هذا ما تسمعه أُذنيك الآن: «لما قدم عمر حمص أمرهم أن يكتبوا له فقراءهم فرجع  الكتاب، فإذا فيه سعيد بن عامر، قال: من سعيد بن عامر؟ قالوا يا أمير المؤمنين أميرنا، قال: وأميركم فقير قالوا: نعم، فعجب وقال كيف يكون أميركم فقيرا أين عطاؤه أين رزقه قالوا: يا أمير المؤمنين لا يمسك شيئا قال فبكى عمر» 
لن يبكي عمر رضي الله عنه وحده، بل كل من وقف على حياة هذا الأمير سوف يبكيه، سيبكي  ويتمنى لو عاد الزمان إلى الوراء وكنا من شعوب ورعايا أمير الخلافة العمرية بحمص – رفع الله البلاء عن أهلها-وعندما ترى شكاوى أهل زماننا من حكامهم في الطعام والشراب والسكن والعمل لتصاب بالدهشة والذهول، مِنَ الذي شكا منه أهل حمص أميرهم إلى خليفتهم العادل: عمر بن الخطاب: قالوا نشكو أربعا: 1) لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار 2) و لا يجيب أحدا بليل 3) وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا 4) ويغبط الغبطة بين الأيام-يعني يغشى عليه-  فجمع عمر بينهم وبينه فكان جوابه على الشكايات الأربع ما يأتي: 1) ليس لأهلي خادم فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر فأخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم، 2) إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل، 3)  ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها فأجلس حتى تجف  ثم  ألبسها فأخرج إليهم من آخر النهار، 4)  شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة، فقالوا أتحب أن محمدا مكانك فقال والله ما أحب أني في أهلي وأن محمدا يشاك بشوكة، ثم نادى يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلا ظننت أن الله تعالى لا يغفر لي بذلك الذنب أبدا، قال فتصيبني تلك الغبطة.  فقال عمر، الحمد لله الذي لم يخيب فراستي فيك(13)
توفي رضي الله عنه سنة عشرين من الهجرة(14). والحقيقة أنه لم يُتوف بل غاب فقط عن عالم الحسّ والشّهادة، وحياته الحقيقية في إدارة الحكم لازالت مستمرة وستبقى مفتاح خير لمن أراد أن يكون واليا وليس جابيا، كما ستبقى شاهدة على خيرة الإنسان إبتداء ونزوعه عن الشر، كما سوف تكون شاهد صدق عما يفعله الإسلام في نفوس متبعيه وهو ما عبر عنه عمر بن عبد العزيز في مقولته النيرة عندما أرادت الشُّرَط السير أمامه: «تنحّوا عني ما لي ولكم، إنّما أنا رجل من المسلمين»(15) .
الهوامش
(1) الإعلام بمناقب الإسلام، للشيخ أبي الحسن العامري، درا الكتب العلمية. ص78  
(2) نفس المصدر ص80  
(3) سورة الحج، الآية 41  
(4) سورة المائدة، الآية 119   
(5) الطبقات الكبرى ، لابن سعد، دار الكتب العلمية 7/ 280   
(6) معرفة الصحابة لأبي نعيم، دار الوطن للنشر، الرياض (1419-1998) ص 3/ 1292   
(7) الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، ترجمة سعيد بن عامر 3/93    
(8) وقد وقعها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ستة من الهجرة   
(9) الإصابة في معرفة الصحابة 3/93، وكذا معرفة الصحابة 3/1292  
(10) تاريخ دمشق لابن عساكر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1415-1995) 21/145   
(11) صحيح مسلم رقم الحديث: 1825   
(12) معرفة الصحابة لأبي نعيم 3/ 1292  
(13) تاريخ دمشق 21/161  
(14)الإصابة في تمييز الصحاية 3/93  
(15) صفة الصفوة: لابن الجوزي، دار الحيث (1421-2000) ص 1/365