إضاءات أدبية

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من ثورة الأدب إلى أدب الثورة
 توطئة:  
إنّ النّاظر في الأدب بما هو ممارسة جماليّة فنّيّة يمدّ جسور العلاقة مع الواقع قبولاً ورفضاً وتعبيراً عنه بواسطة الخرافة والأسطورة. والعلاقة لا تخلو من الأوجه التّالية: السّبر والاستنساخ والانعكاس والمحاكاة والتّحويل والمشاكلة. فما الواقع؟ هل هو موضوعيّ أم ذاتيّ؟ وكيف السّبيل إلى تغييره؟ ويبدو أنّ المعرفة كلّما اتّسعت زادت دوائر الإمساك بالواقع، وزاد الاطّلاع على وجهه الخارجيّ. 
والمهمّ أنّ كلّ سرديّة تشكّل واقعاً خاصّاً بها. ولعلّ من الوهم اعتبار أنّ الواقع كيان ذو وجه واحد يمكن الإمساك به. ذهب بول واتز لاويك في كتابه «واقع الواقع»  إلى:«أنّ مفهومنا اليوميّ الاصطلاحيّ للواقع وهم نقضي جزءا كبيرا من حياتنا في إثباته. وإن أدّى بنا ذلك إلى إخضاع الوقائع لمفهومنا الخاصّ للواقع، بدل أن نمضي في المسار المعاكس. ومن أخطر الأوهام أن نعتقد أنّه لا يوجد إلاّ واقع واحد. فما يوجد حقّا إنّما هو روايات مختلفة من الواقع قد يكون بعضها على طرفيْ نقيض، وهي جميعاً من آثار التّواصل وليست انعكاساً لحقائق موضوعيّة وسرمديّة.»   
إنّ الواقع الذي تكرّسه الممارسة الأدبيّة يتحوّل إلى ما يشبه العادة المعيشة والخروج عليها سيمثّل بالضّرورة ثورة أدبيّة. والأدب في جوهره ممارسة متمرّدة تكسر القوالب التماساً للحرائق التي تخلّفها التّجارب الوجوديّة والمعرفيّة، ولعلّ أبا القاسم الشّابيّ هو المدشّن لهذه الثّورة العارمة في ردّة فعله الحادّة على الباكين من أجل آثار الحبّ المتسبّب في طول اللّيل وسيستبدله بالبكاء من أجل الوطن. ولئن شارك الشّابّيّ بقيّة الشّعراء في حدث البكاء، فهو يخالفهم في أسبابه، وقد بنى مطلع قصيدته «تونس الجميلة» على جدليّة الهدم والبناء من خلال أسلوبيْ النّفي والإثبات: 
«لستُ أبكي لعسف ليل طويل ** أو لربع غدا العفاء مراحهْ
إنّما عبرتي لعسف ليل طويل ** قد عرانا ولم نجد من أزاحهْ».
ولعلّ من المفارقات أنّ الثّورة التي هزّت أركان النّظام التّونسيّ وخلخلت البناء الاجتماعيّ وقد كانت حصيلة تأثير حاجة اجتماعيّة وازتها تأثيرات أدبيّة وفنّيّة وإعلاميّة، بالرّغم من كونها تسلّلت بصعوبة من تحت وطأة الاستبداد، فإنّ لم يوازِ هذه الثّورة اهتزاز لعروش السّكون الأدبيّ، بالرّغم ممّا وفّرته الثّورة من حرّيّة في التّعبير. فالثّورة التي فاجأت الجميع لم يلحق بركبها كمّ يوازي حجم الانقلاب الذي حصل في نظام الأشياء والقيم، وإن ظهرت عناوين غير قليلة لملاحقة المدّ الثّوريّ المنفلت في الأرض من أمثال رواية  «نقمة المهمّشين» للطيّب الطّويلي ومسرحيّة «تشريقة» تأليف ليلى بالرّحومة وإخراج عبد الحميد بوشناق. فماهي العوالم الرّمزيّة المشكّلة لأجزاء هذا العالم الأدبيّ رواية ومسرحا؟ وماهي القضايا المشار إليها؟ 
إنشائيّة الثّورة: 
تنبع قيمة العمل الأدبي من خلال الأساليب والصّياغة المعبّرة عن المضامين العليقة بالثّورة قيما وأهدافا. إنّها عوالم يلتبس فيها الخيال بالواقع المعيش ويختلط  فيها الرّمز بالحقيقة صور أدبيّة وفنّيّة ووجدانيّة عاطفيّة ومادّيّة حسّيّة. وهي في الأغلب نصوص تهدم ما شاء لها أن تهدم من تصوّرات وعلاقات وأفكار سائدة وتبني عوالم أخرى تطمح إلى بنائها. إنّه منشود على نقيض العالم الموجود. ولعلّ ضرورة الدّراسة تقتضي نماذج تطبيقيّة. 
نقمة المهمَّشين:
يقول الفنان التشكيلي ميلان كونديرا إنّ الرّواية لا تفحص الواقع بل الوجود، والوجود ليس هو ما جرى بل هو «حقل الإمكانيّات الإنسانيّة».  
أصدر الطّيّب الطّويلي رواية عن الشّركة التّونسية للنّشر وتنمية فنون الرّسم بتونس سنة 2012 بعنوان نقمة المهمّشين وإذا باح العنوان لأوّل وهلة بمضمونه بما وسمه به المؤلّف من وضوح، فإنّ المتتبّع للمسار الرّوائي يشدّه الأسلوب السّردي الممتع بلغة عربيّة سليمة مشرقة سلسة واضحة المعاني، بها انغرست الرّواية في جسد الواقع. وقد عالجت قضاياه المعيشة الحارقة بما فيها من ضروب التّناقض بين الدّيني والدّنيوي بين الانتهازيّة والمبدئيّة وبين الصّدق والغشّ.
ولقد توسّلت الرّواية للاحتيال على القارئ بواسطة السّخرية البادية في لعبة الاسم والمسمّى حيث يحمل الاسم في طيّاته مسمّى يناقضه في الدّلالة، وخذ لذلك مثل دلالة اسم «العربي» الّذي يحافظ على صلاته ويتفانى في إعانة غيره حتّى ولو كانت هذه الإعانة غشّا في الامتحان. ثمّ إنّ هذه الشّخصيّة قد جمعت بين الغَناء المعنوي، مبدئيّا، والأدبي وفقر الجيب من المادّة حاله حال العرب الأغنياء بتراثهم وثروات بلدانهم وفقر حالتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وخذ لذلك أيضا مثل المعنى الجاري في اسم صديقه سليم الّذي سلم من الرّسوب وإن كان على حساب صديقه العربي كما سلم في كلّ مرّة من التّفطّن لغشّه في الامتحانات قدر سلامته من عناء البطالة بفضل الرّشاوى التّي دفعها أبوه إلى عمود من الأعمدة الّتي تقوم عليها الوزارة، وإليك كذلك اسم ‹›عم ّالنّوري›› الّذي لا نور له إلاّ نور التّقاليد والتّقليد للأجيال السّالفة.
وقد عالجت الرّواية بهذه الطّريقة السّاخرة قضايا الواقع المعيش بكثير من التّوفيق بين التّناقضات في القيم وضروب السّلوك الّتي اجتمعت طبيعيّا وانصهرت في أتون هذا الواقع. فـ«المصائب تختفي دائما خلف الوجوه الطّيّبة». عُري وسرقة ونهب وكذب وغشّ وانتهازيّة «سُرق ثدي الإسلام المذهّب منذ ستّين عاما ومن يومها خجلت النّساء أن يسترن نهودهنّ مادام النّهد الأقدس تعبث فيه الأيادي النّجسة.. سُرق شرف الأمّة.. ومن يومها ملّت النّساء من الحديث عن الشّرف..» 
وهكذا أضحى الفاسد في المستوى الأخلاقي يتمتّع بمباهج الحياة والصّالح يُحرم منها، والّذي يزيد الطّين بلّة هو رواج بعض المبرّرات النّابعة من سوء الفهم للدّين كالّذي قاله أبو العربي للعربي: «يا بنيّ، أتثيرك تفاهات الدّنيا؟ ما عند الله خير»، وإن لم يسلم العربي ذاته من هذا النّوع من المبرّرات حينما اعتبر أنّ قتله للشّيخ الهارم هو قضاء وقدر: «وآمن بأنّ موعد وفاة الهرم هو موعد قدري لا مجال لتغيّره..»  كما أنّ الذكّي المجتهد يرسب في اجتياز امتحان الكاباس، على عكس عادته في بقيّة الامتحانات، والغبيّ الكسول ينجح في هذا الامتحان وينجرّ عن ذلك بطالة العربي وعمل صاحبه ولقد استطاع العربي أن يحمل في ذاته تناقضا رهيبا بين المحافظة على الصّلاة وارتكاب جريمة القتل طمعا في أموال الرّجل العجوز الّذي يحيا بمفرده. وإذ سارت الحركة السّرديّة على هذا المنحى، فللقارئ أن يتساءل لماذا لجأ العربي إلى آخر الحلول وهو الجريمة النّكراء، والحال أنّ الأعمال غير العمل الّذي يرغب فيه وهو التّدريس متوفّرة ثمّ إنّ الحبّ مع من تعلّق بها قلبه وهي «هادية» كان بالإمكان أن يهديه سواء الحياة المستقيمة المستقرّة. وينجيه من عذاب التمزّق والانهيار في هوّة التّمزّق الوجودي جرّاء البطالة: «ما قضيّتك؟.. ما دورك؟.. تُرى لو لم تولد هل كان العالم سيتأثّر في شيء؟ .. وإن مت من الأكيد أنّه لن يحزن عليك أحد.. سيقولون ارتاح وأراح.. كومة من العزاء» .
لقد انحدر هذا الفتى الّذي يُسمّى بالعربي من عائلة بسيطة يقوم على شؤونها أب غير ذي يسار، كان قد فقد زوجته وعمل على تربية ابنه وتدريسه، ورغم نجابته وتفوّقه في الدّراسة فقد اصطدم، بعد تخرّجه، بجدران العلاقات الجائرة والرّشاوى فضرب في الحياة متحدّيا لنواميس الّدين، وإن بدا ممتثلا لها ظاهريّا، ومتجاوزا للأخلاق والقوانين فقتل وسرق وزنى وأضحى واحدا من النّاس كما بدوا له وانخرط في حركة الواقع أخذا وردا فعاقر الخمور بأنواعها وعاشر المومسات متظاهرا بالرّفاهة المزعومة: لباسا أنيقا وسيّارة وشقّة مستأجرة في شارع ابن خلدون متنكّرا للتّقاليد الّتي تندرج ضمنها علاقته بهادية ولقد جرّ عليه هذا المسلك مزالق عديدة كالموقف الّذي أوقعته هادية فيه إزاء شمس لمّا فاجأته ودخلت عليهما الشّقّة.
إنّ هذه الرّواية تُعدّ مغامرة في الوجود يمثّل فيها الآخر الشّرّ كلّه بما يمثّله من حصار وأذيّة للذّات إذ «المشكل في الآخرين» وإن تمزّق الوعي أحيانا بين الكراهيّة للآخرين حينا ومحاسبة الذّات حينا آخر: «ولكنّ الدّاء في طمعي ولهوي وانحلالي». إنّها مغامرة عاشها العربي بعد تخرّجه أستاذا في مادّة العربيّة باعتبار أنّ الحياة لجّ من الغرائب والعجائب على حدّ عبارته. وهذه اللّجج تتقاذف التّونسيّين بأسرهم، إذ يعاني أبناؤهم البطالة وتنتشر الأمّيّة ويتخبّط المجتمع في الفقر والمرض، وقد قرأ الرّاوي هذه الأزمات كلّها في مغزى التّكالب على الدّجاج في مناسبة الاحتفال برأس السّنة الميلاديّة حين تساءل عن دلالة هذا الرّمز في قوله : «ما هي الحكمة يا ترى؟ .. لعلّ في ذلك إشارة إلى الاحتجاجات الّتي تقع الآن في تونس.. يريدون القول: إنّه في هذه اللّيلة المباركة يتمّ ذبح التّونسيّين كالدّجاج». 
ولقد غلبت في هذه الرّواية زاوية النّظر من الدّاخل حيث يختنق القارئ لاختناق الشّخصيّة الّتي يحاصرها الرّاوي ويعلم عنها السّرّ وأخفى لولا بعض التّشويق الوارد في بعض الأحداث الّتي تُخرجها الحركة السّرديّة مخرجا يشدّ القارئ إلى ما ستؤول إليه هذه الأحداث، ولولا بعض الجيوب الّتي يفتحها الرّاوي في جسد الواقع وهي الأحلام والأزمنة المفترضة في النّوم، يقول:«يرى فيما يرى النّائم أنّه في جنّة خضراء فسيحة». ولولا الحوار الّذي خفّف من ضيق تلك الزّاوية وخفّف من ضغط الرّاوي على الشّخصيّة ومصداق ذلك قول الرّاوي:«كان يمشي شريد الذّهن مذبذب الفكر». وكذلك«كان التّجاهل يؤلمه، والتّعالي الّذي يُقابلونه به يحزّ في نفسه.. ولكن مع ذلك كان يشعر في كلّ مرّة بارتياح كبير..»  وكذلك قوله:«لم يستطع أن يحادث ‹هادية›.» وكذلك قوله: «كم اشتاق إلى الكتابة.. لمثل هذا خُلق .. إنّه الشّيء الوحيد الّذي يفعله دون أن يملّ منه..»
لقد صوّرت هذه الرّواية مسيرة ذات متقلّبة بين النّقمة على الأوضاع القاهرة اجتماعيّا وماديّا وبين الرّغبة في التّغيير ولاسيّما عندما رأى العربي بأمّ عينه التّململ الّذي شقّ صفوف الشّباب والجماهير وهي تجوب الشّوارع محتجّة على الاستبداد والاستعباد فلاقى هذا الأمر صدى في فؤاده وهو الشّخص الّذي لم يناضل في حقيقة الأمر لإرساء هذا الوعي الرّافض والممهّد للثّورة وإنّما اختار طريق الانتقام والإجرام وردّة الفعل غير الواعية والمنفعلة بدلا من اتّباع نهج الفعل الواعي المثمر والإيجابي وقد أشار الرّاوي إلى هذه العوامل المتصارعة في ذات العربي بقوله: «يشتعل أحيانا مثل بركان هادر ثمّ ينطفئ فجأة» .
إنّ الطّريف في خاتمة هذه الرّواية، هو أنّ وجدان العربي قد التحم بالحراك الثّوري الهادر وعانقت عاطفته التّوق إلى التّحرّر يقول على سبيل المثال: «راقه العَلَم الشّامخ وطرب لصوت رفرفته وزاد من هيجانه وشعوره بالهيام والانتماء» ولذلك أضحى متيّما بالعَلَم ورمزيّته يُقبّله قبل أن ينام وقد بلغت الخاتمة قمّة التّوفيق عندما غابت شمس المستبدّ لتترك المكان لشمس تونس البلد المحرّر الطّليق، يقول الرّئيس المخلوع: «منيش شمس بش نشرق». ثمّ إنّ شمس العربي القديمة كذلك تعود إلى مثواها الأخير مضحّية بنفسها وحياتها من أجل النّور البادي في الاستقامة وحبّ الخير للآخرين من خلال رمزيّة هادية الّتي ظلّت حيّة في منجى من عصف الغادرين. إنّها صفحة الثّورة والثّورة المنشودة الّتي في ضوئها تتمّ الهداية الحقيقيّة إلى معانقة الحرّيّة.  ولعلّ ذلك ما بدا واضحا في رواية «نقمة المهمّشين» وقد أردفها الطيّب الطّويلي برواية أخرى عنوانها «الشّعاع»  تنشد المزيد من الحريّة والانعتاق وهو ما يجسّد قولة ميلان كونديرا الفنّان التّشكيلي الايطاليّ: «تصاحب الإنسانَ الرّوايةُ على الدّوام وبإخلاص منذ بداية العصور الحديثة، حيث سيطر هوى المعرفة عليه، فدفعه ليدرس الحياة العيانيّة ويحمي نفسه من نسيان الكائن فأخذ يضع عالم الحياة تحت ضوء مستمرّ، كي يكتشف ما يمكن للرّواية وحدها، دون سواها، أن تكتشفه. هذا هو الذي يبرّر وجودها، إنّ الرّواية التي لا تكشف جزءاً من الوجود لا يزال مجهولاً هي رواية لا أخلاقيّة، فالمعرفة هي أخلاقيّة الرّواية الوحيدة». وإذا كانت الرّواية تحتاج إلى أرضيّة أخلاقيّة فهل نجد الأمر ذاته في المسرح باعتباره عملا يرتكن إلى سرديّة غير بعيدة عن سرديّة الرّواية؟
المــسرح
لئن تعدّدت الأعمال المسرحيّة التي أوحت بها الثّورة فإنّنا نتّخذ أنموذجاً  دالاًّ على كثافة لحظة فنّيّة تختزل أزمة المثقّف من خلال تقلّص المدّ الثّوريّ الذي بشّرت به بوادر الثّورة وبداياتها. 
إنّ كلّ الحضارات العريقة خلّدت أفكارها الوجوديّة الكبرى من خلال مسارحها الشّاهدة على ذلك وقد انطلق المسرح التّونسيّ منذ مطلع القرن العشرين. واضطلعت المراكز الدّراميّة والفنّيّة بقفصة والكاف وتونس بأدوار مهمّة في ترسيخ الوعي الفنيّ المسرحيّ إنتاجا وإخراجا وجهود الفاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي ومنصف السّويسي أيضا تدلّ على إضافات جريئة. وقد عانى هذا القطاع أيّام الاستبداد من التّضييق لما يُعلَم من خطورة تُناط به من نشر الوعي وبعد الثّورة ظهرت العديد من المسرحيّات التي تُعَدّ ثمرة طبيعيّة للتّحوّل الاجتماعيّ والسّياسيّ ومن هذه الأعمال مسرحيّة «تشريقة» الفاضحة لواقع المثقّف البائس اجتماعيّا ونفسيّا ومادّيّا. فماهي الوسائل التّقنيّة التي نهضت عليها هذه المسرحيّة؟ وماهي القضايا التي تناولتها؟
إنّ «تشريقة» ويعادلها باللّسان الفرنسيّ La Cération ومعناه التّشظّي والانحلال إلى مكوّنات جزئيّة صغرى. ومعنى ذلك أنّ كلّ بنية وكلّ علاقة مكوّنة للمجتمع التّونسيّ قد انحلّت ممّا يتعذّر لمّ شتاتها.
ظهرت هذه  المسرحيّة إلى الوجود سنة 2016 وهي من إنتاج «التّياترو» من إخراج عبد الحميد بوشناق ونصّ ليلى بالرّحومة وتنفيذ ليلى بالرّحومة ومعزّ بالرّحومة وطارق بالخشين.
إنّ هذه المسرحيّة ذات أبعاد فنّيّة تعود إلى المسرح الملحميّ البريختي ومسرح القسوة التي تعود جذوره إلى النّاقد والمسرحيّ الفرنسيّ أنطونين آرتو والتّيار الفنّيّ العامّ الذي تندرج فيه مسرحيّة «تشريقة» هو تيّار نشأ بعد الحرب العالميّة الثاّنية، يقوم على تمزيق المعلّقات المركوزة في الشوارع وإعادة تلصيقها وِفق مقتضيات ذوقيّة مخالفة ومغايرة وهي عمليّة تفكيك وتركيب تذكّر بألعاب البازل من أجل تقوية قدرات التّخييل لدى الأطفال. وهذا التّصوّر ليس بعيدا عن أفكار المدرسة الدّادائيّة في اعتماد التمرّد على المنطق والمعقول في الأشياء وفي العالم لإحداث جمال نابع من العشوائيّة والفوضى الخارجة عن القواعد والانضباط بما هو سائد. وقد تضمّنت المسرحيّة عناصر فنّيّة ورقيّة مجسّدة لصور عبثيّة تُمزَّق تمزيقاً في إشارة إلى رفض الواقع والثّورة عليه. لأنّه من جنس الواقع الذي كان سائدا قبل الثّورة.
إنّ المسرح الملحميّ ينمّي العقل في المشاهد ويحترمه أثناء الأحداث المسرحيّة لأنّه لا يوجّهها ولا ينقدها سعياً وراء المصالحة بين النّاس وعقولهم المغتربة عنهم تحت تأثير الآلة والمادّة والقهر الإداريّ. ولعلّ التّعرية والفضح اللّذين يقوم بهما المسرح الملحميّ هما العلامتان البارزتان في هذا التّوجّه المسرحيّ من خلال الحوار الذي يتحوّل بدوره في منظور آرتو ثقلا على الفعل المسرحيّ بإزاء الحركة والحدثيّة، إذ الأولويّة للفرجة وليست للنّصّ المثبت. فالإشارة صوتيّة كانت أو حركيّة إيمائيّة أهمّ من الكلمة. والسّمع والبصر داخل الفضاء المسرحيّ هما السّبيلان المشتغلان، فالمسرح عند آرتو خارج النّصّ.
وعندئذ يتدخّل التّعبير بالجسد أكثر من اللّسان. وهكذا لا تنحصر الفرجة داخل الرّكح، وهو عين ما تجسّد في «تشريقة»، ممثّلون من جيل واحد عاشوا الثّورة التّونسيّة، امتلؤوا بالرّغبة والتّحدّي والإرادة حيث تتدخّل أبعاد «مسرح القسوة» في الانشداد إلى حبّ التّمرّد على قساوة الواقع لتحرير القوى الكامنة في المشاهد حيث تكمن إنسانيّة الإنسان في عواطفه وأفكاره وإرادته الخلاّقة. والقسوة نزعة فكريّة صلبة تتجاوز وعي الضّرورة فهي الصّرامة الثّاوية في الحتميّة. ولكن ولادة الكيان شاقّة وقاسية. وليست فكرة القساوة محصورة على الفنّ المسرحيّ فحسب، بل هي تطال كلّ أصناف الأدب، وانظر إلى رواية «الكيتش» للصّافي سعيد التي جاء فيها هذا البيت الذي سكنته طليقة «كمال أتاتورك»  لطيفة خانم والذي كان بمثابة غرفة العمليّات التي تنطلق منها أبشع العمليّات القذرة في لعبة الرّبيع العربيّ.. برز ذلك في توصيف خوسيه بلانتيرو لإلياهو دانيال حين قال «وراء كلّ يهوديّ أسطورة يجرّها معه إلى حيث ذهب لكيْ يصنع أسطورته». 
ولقد كشفت «تشريقة» تناقضات الثّورة التّونسيّة وواقعها في مستويات عديدة في الجوانب المادّيّة كالبنى التّحتيّة والبناءات الفوضويّة. والمعنويّة كالعلاقات الإنسانيّة والذّوق والجمال واللّباس والعنوسة والتّبعيّة السّياسيّة لدول متكالبة على التّدخّل في الشّأن الوطنيّ، ومنها دول الخليج. إنّها مسرحيّة تمازج بين الضّحك السّاخر وألم المآسي الاجتماعيّة والسّياسيّة. فهو النّقد والمسرحيّة ضحك ثائر والمسرحيّة ثائرة بالأساس على الضّحك المجانيّ الذي ساد في المسرح التّونسيّ في الفترة الأخيرة.
فالمسرحيّة رمزيّة نقديّة ملتزمة في حرص على إبراز رؤية وموقف، رؤية جماليّة وموقف ساخر. ولعلّ هذه المزايا هي التي رشّحت هذا التّوجّه المسرحيّ إلى الارتباط بالحياة. ووجود المرأة جزء مهمّ في إبراز هذه الدّفقة الحيويّة. امرأة تفارق النّظرة المعياريّة والماهويّة لتعانق وعيا جديدا به تتحدّى التّهميش والتّحقير في جمع بين الأنوثة والجمال من جهة، والوعي الحادّ بالتّحدّيات من جهة أخرى. 
لقد تعالت الأصوات من أماكن في رمزيّة إلى كثرة التّجاذبات وعمّقت الأضواء، هذا المنحى التّعدّدي في كسر للنّمطيّة والتّفرّد الذي يكرّسه الزّعيم الأوحد.
لغة المسرحيّة
اعتمدت المسرحيّة لغة تونسيّة معروفة وسهلة من أجل الإفهام والتّفهيم دون السّقوط في التّعليميّة المحضة. وقد كانت الأصوات الموسيقيّة بالغة التّأثير من خلال التّعبير المنسجم مع الحركة المسرحيّة ممّا أوجد إيقاعاً متسارعاً ولغة عامّة منتجة للمعنى تظافرت فيها الحركة والإشارة والكلمة والضّوء والموسيقى. فأفضى ذلك كلّه فضحاً لواقع الثّورة التّونسيّة المغدور والمنقوص انكساراً وانحداراًّ. ومن وراء ذلك رغبة متأصّلة في بناء واقع حالم سعيد وجديد تتقلّص فيه الفوارق والتّناقضات. مسرح تحرّر من التّهميش ويريد تحرير الممثّل والمشاهد من كلّ قيْد وتكبيل للإرادة.
على سبيل الخاتمة:
إنّ الثّورة شعلة متفجّرة في مجالات عديدة والفلاسفة والأدباء هم الذين يرشّدون الانفجارات المتعدّدة. إن قبل حصولها وإن بعدها.
ومن ثمّ يتكوّن مخزون نفسيّ وفكريّ وثوريّ  يؤرّخ للثّورة قدر ما يضمن استمرارها وقد يحوّل الأدب التّجربة إلى قول يشبه الحكمة وانظر إلى ما قال نجيب محفوظ في رواية ثرثرة فوق النّيل: «الثّورة يخطّط لها الدّهاة وينجزها الشّجعان ويغنمها الجبناء». وإذا كان المطمح الأكبر للثّورات هو معانقة المطلق الإنسانيّ في إقامة العدل والحرّيّة، فإنّ الفعل الأدبيّ هو المؤهّل الأكبر لتخليد هذه القيم في آثار فنّيّة مختلفة رسماً وروايةً وقصّةً وشعراً ومسرحيّةً وفلماً.
 ولمّا كانت التّجارب في الثّورات تُنبئ بتوجيه المدّ الثّوريّ إلى خدمة رأس المال وخدمة الأنظمة العميقة، فإنّ الحركة الإبداعيّة هي الحارس على باب الخيانات والغدر وضامن بقائها على السّبيل السّويّ لتحقيق التّقدّم بالوعي الثّوريّ وتعميره زمناً طويلاً. فهربت ريد يقول في كتابه (حاضر الفنّ): «أن نمارس الفنّ هو أن نقلب عربة التّفّاح»، أي قلب الأوضاع السّائدة في الشّارع حيث الواقع المعيش، وعندئذ تستمرّ الثّورة في الوعي بها إلى مطامح وأفكار دائمة تتجاوز هرم الاحتياجات اليوميّة والمطلبيّة الآنيّة. وعلى هذه الصّورة تتقدّم المجتمعات وتتطوّر. لقد سارع اتّحاد الكتّاب التّونسيّين بإصدار كتاب في جزأيْن أسماه بديوان الثّورة سنة 2011.  جُمع فيه أغلب ما قيل في الثّورة من عذب الكلام. وأصدرت المكتبة الوطنيّة أخيرا مؤلّفا أسمته بكتب الثّورة فمثّلت هذه الجهود محاولة جادّة لتوفير مادّة أدبيّة وفكريّة صالحة للدّراسة والنّقد والتّطوير، إلاّ أنّ سيرورة الإبداع مازالت سابقة على الحركة النّقديّة ممّا ينقص من فاعليّة العمل الثّقافيّ من خلال الغياب المتعلّق بتعميم فوائده وترشيد الوعي الإبداعيّ الكامن فيه.