قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
يوسف يحصل على الثمرة الأولى من حيلته
 الآن يدخل على يوسف إخوته للمرة الثانية جالبين معهم أخاهم شرطا مشروطا من العزيز ـ وهو يوسف نفسه ـ حتى يظفروا بكيل يواجهون به السنين السبع العجاف. الآن ظفر يوسف بالخيط الرفيع الذي يتمكن به من إستجلاب أبيه وبدأ وميض من النور يملأ عليه أركان غربته ووحشته وهو الوزير المطاع المكين الأمين. دعني أعود بك إلى دحض التأويل الأسطوري أن الدخول من أبواب متفرقة يحول دون العين والحسد. أخبرنا سبحانه أن طاعتهم لأمر أبيهم لم يحل دون حجز أخيهم كما سيمرّ معنا الآن ولو كان الأمر أمر حسد وعين لما كنّا في حاجة إلى قوله : ما كان يغني عنهم من الله من شيء. لم تصبهم عين ولا حسد ولكن أصابهم حبس أخيهم. سياق القصة هنا لا يستجيب لهذا ولا يستوعبه لأنه سياق معركة طاحنة بين الناس وبين الفاقة من ناحية وبين يعقوب وبين أبنائه حول أثرتهم وحسدهم لأخيهم يوسف حتى غيبوه وتربصهم بالآخر. بالحيلة إذن ظفر يوسف بأخيه الذي سيكون مفتاحه إلى أبيه. آواه إليه وأخبره بأنه أخوه سرّا عن إخوته ثم بدأ في المرحلة الثانية من معركة الحيل والمراودات إذ أشغلهم في أثناء التجهيز بالميرة وخبّأ متاعا ثمينا من أمتعة الملك سرّا في رحل أخيه الذي يريد إستبقاءه وأذن لعمّاله أن رجال هذا الرحل سارقون. كذب واضح ولكنه الكذب المباح بل هو الكذب الواجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ما لم يطعن في حرمة الإنسان. صدم الإخوة وحقّ لهم إذ أنهم ضحية حيل ومراودات يرون أثرها ولا يعرفون سرّها في قصة ممتلئة بالأسرار. لم يعبأ يوسف بالصدمة وزاول الحيلة مرة أخرى إذ بدأ بتفتيش أوعيتهم هم ولو بدأ بمتاع أخيه الذي خبّا هو بنفسه متاع الملك فيه لإفتضحت الحيلة وتسلل إلى إخوته الريب. خطة من الحيلة والمراودة محبكة جعلت الإخوة في حالة ذهول وشرود لا يملكون سوى إبداء النقمة على هذا الشقيق ـ شقة أحادية الجانب ـ أنه كان مفتاح تزودهم بالميرة فإذا به يتحول إلى مفتاح فضيحة لهم وأيديهم سفلى. إمتلؤوا عليه حنقا وإسترجعوا التاريخ البعيد فهمزوا في يوسف نفسه وهو معهم يعرفهم وينكرونه. المناسبة ليست مواتية لتصحيح الأمر من قبل يوسف فلاذ بالصمت وراحوا يتوسلون إليه أن يحبس أحدا منهم إذ أن السارق المحبوس مستعار من أبيه الشيخ الكبير الذي سبق له أن فقد إبنه الصغير. لك أن تتصور الآن بكل جوارحك الحالة التي يغرق فيها إخوة يوسف بل هي ورطة خانقة
العبرة الأولى : كما تدين تدان في هذه الدنيا سنّة مسنونة
مازال يوسف يدير الخطتين بتلازم. خطة إستجلاب أهله وأبيه من فلسطين إلى مصر وخطة إدارة الأزمة الإقتصادية. مازال يتوسل إلى ذلك بمنطق السورة وقانون القصة أي الحيل والمراودات. يجب أن نعود الآن إلى سنوات طويلات حيث كانت أيدي الإخوة هي العليا إرادة وحكما وكانت يد يوسف الطفل الصغير هي السفلى يتوسل فلا يرحم. قبل سنوات كان هؤلاء الإخوة أنفسهم يهمّون بقتل هذا الطفل الصغير ثم ينزلون عند رأي أخيهم الآخر فيعدلون عن قتله إلى جعله في جبّ ثم يرجعون إلى أبيهم عشاء يبكون وملامح الكذب أشد حمرة من الدماء التي لوثوا بها قميص يوسف. بعد سنوات ـ هي طويلات وقصيرات في الآن نفسه ـ يعاد المشهد كله بأسره وبكل عناصره. يوسف الآن هو صاحب اليد العليا وهو الذي يقرر مصير الإخوة وها هو يخالف القانون الملكي نفسه عقوبة للجاني ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) وهاهو أخوه الشقيق الذي جاء بالحكمة التي أنقذته من القتل إذ إقترح عليهم يومها أن يجعلوه في جب إحتمالا لأدنى الضررين لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. الأخ الذي إستقبلوا حديثه يومها بشيء من عدم الرضى هو اليوم في جانب أخيه فهو يعلم الحقيقة أن يوسف أخوه وأن الإتهام بالسرقة مسرحية جادة لا هزلية تحمل في أحشائها مصالح ستعود باللطف على الإخوة أنفسهم. وهاهم الإخوة الذين كانوا في حالة قوة وبطش بالأمس هم اليوم في حالة ضعف وذلة يتوسلون معاقبتهم بالحبس بدل حبس أخيهم فلا يغاثون. أجل. كما تدين تدان في هذه الدنيا سنّة مسنونة وقانون إجتماعي صارم ولكن الناس عندما يكونون في حالة بطش يتقمصون نظرية نهاية التاريخ إذ يغفلون هذا الناموس : وتلك الأيام نداولها بين الناس. قصص يسوقها الوحي تتلى على أسماع الناس لعلهم ينتهون عن البطش والقمع والحيف والقهر والظلم ويخوّفهم أن الذي يصيبون به الناس سيصابون به عمّا قريب
العبرة الثانية : أرسم خارطة حياتك ورتب فيها أولوياتك
ماذا لو ثارت الحمية في يوسف وهو يتهم بالسرقة دجلا فدخل طرفا في الخصومة وأبان عن هويته الحقيقية وجادل إخوته أنه لم يكن يوما سارقا وهم يتهمونه بالسرقة في مشهد مهيب؟ قالوا : إن يسرق ـ أي هذا الأخ الشقيق ليوسف ـ فقد سرق أخ له من قبل وهم يعنون يوسف الذي هو بينهم ولكنهم لا يعلمون أنه هو. الذي يمنع يوسف من الإنتصار لنفسه وهو متهم بالسرقة هو أنه رسم خطة حياته فيما بقي له من عمر وهي خارطة متركبة من جزءين أولهما استقدام ذلك الشيخ الكبير الذي حيل بسبب الكيد والحسد دونه ودون إبنه الصغير وثانيهما حسن معالجة الأزمة الإقتصادية الطاحنة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط مهتبلا وجوده في الحكم ضمن نظام لا إسلامي ولكنه يحاول تطعيمه بالعدل قدر الإمكان. والعدل هو أس الإسلام وأس الحياة. 
لمّا كانت تلك الخارطة في ذهن يوسف واضحة جلية فإن التشويش عليها من لدن أي صارف أو قادح لا يعدّ إلا حماقة حاشا يوسف أن يتورط فيها. لو ثار لنفسه وعرضه في ذلك المشهد لفسد كل شيء ولما إستقدم أهلا ولا عالج أزمة. هذا درس مهم جدا للناس بصفة عامة والشباب الذين لم يخبروا الحياة بصفة خاصة. عبرة عنوانها أن محاولة إرساء العدل والحرية في مؤسسات دستورية ليست مهمة جيل واحد ولا حكومة واحدة بل هي مهمة أجيال من بعد ما تعرضت الدولة ـ التونسية مثلا ـ على إمتداد أزيد من نصف قرن كامل إلى خطة في الإتجاه المعاكس بالتمام  والكمال أي محاولة إرساء القهر سياسيا وإجتماعيا وإقتصاديا وبسلطة الدولة وسيف القانون. يعيب بعض الناس على بعض رجال الثورة أنهم لا يغيرون القوانين بسرعة وأنهم لا يثورون ضد مظاهر من الفساد والإرتشاء إستعر لهيبها من بعد الثورة نفسها وأنهم يرضون بالعمل مع رجالات من النظام البائد وأنهم يبتسمون في وجوه البغايا ويصافحون مع وضع خطة تجفيف المنابع ويدعونه إلى عضوية حكومة وطنية أصلا. وما إلى ذلك من مئات من القضايا والمسائل التي لا تندرج قطعا إلا تحت القهر والحيف والظلم إبتداء ومبدأ. ولكن ماذا لو فعل أولئك الرجال مثل ذلك؟ أليس ذلك هو مبتغى أعداء الثورة؟ أليس يكونون كمثل يوسف في هذا المشهد لو نسي أنه اليوم رئيس وملك وزعيم ولم يعد ذلك الطفل الصغير الموضوع في جبّ أو ذلك الرقيق الذي يباع  ويشترى أو ذلك الشاب الذي يؤثر الطهر على الفاحشة فيزج به في السجن.. 
لو نسي يوسف في هذا المشهد ذلك لسقطت خطته مزدوجة المطالب كلها في الماء كما يقال اليوم. لو انتصر لنفسه في ذلك المشهد لانتصر لأنّه فعلا لم يكن سارقا ولكن من بعد إطفاء غليله وإرواء عاطفته ماذا يكون الحال؟ أليس يكون منال أبيه منه بعيدا ومناله من أبيه أبعد؟ عنوان هذا الدرس هو أن لرجال الثورة أن يسلكوا مسلك يوسف أي يترفعوا عن الأشواك الموضوعة أمامهم و بوعي ويقظة فهم اليوم لم يعودوا في المعارضة بل في لبّ الدولة وسقوطهم يعني سقوط الدولة وسقوط الدولة يعني العودة إلى شريعة الغاب حيث تسود شريعة أخرى يعبّر عنها التونسيون بقولهم الدارج : «حوت يأكل حوت وقليل الجهد يموت». 
لك أن تقول أن اليوم كذلك : حوت يأكل حوت .. صحيح هذا. ولكن أكل الحوت الأكبر اليوم للحوت الأصغر يتم بخفاء وهو يخشى الحصار ولو تواصل المشوار الدستوري لضيق حوله الحصار ولذلك هو يبغي سقوط الدولة بإسقاط رموزها ليخلو له جو الفوضى ومناخ العبث. لا أظن أن إستيعاب هذا حكر على السياسيين أو من على شاكلتهم فهو أمر معقول مفهوم ميسر لكل أحد. ولكن المشكلة هي في السير الغوغائي الضوضائي وراء كل ناعق من ناحية وهو ما يسمى اليوم الثورجية الفارغة . ومن ناحية أخرى يتطلب هذا وعيا وصبرا ومصابرة لأن ما بني من حيف وقهر وجور بمؤسسات وقوانين وتحالفات على إمتداد أزيد من نصف قرن لا يمكن إعادة بنائه على أسس العدل والقسط إلا بمثل ذلك من الزمن أو أكثر.
العبرة الثالثة : لا تأخذنك الرأفة الكذوب في مشهد إحلال العدل
لم يتهيب يوسف من تعديل قانون ملكي معروف عنوانه : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك. أي أن السارق في القانون المصري المعمول به في تلك الأيام لا يؤخذ رهينة بل يسترد المسروق وربما يعاقب السارق أو شيئا من ذلك القبيل ولكن رهن السارق بالكلية أمر يخالف القانون وليس الملكي المصري فحسب بل هو مخالف للقانون الفطري الذي عادة ما يكون هو المحدد الأكبر لأي قانون وضعي حتى يندرج تحت قيم القسط. الذي شجعه على تغيير ذلك القانون في هذه الحالة هو أن إخوته أنفسهم ـ ربما لفرط الشعور بأنهم في حالة مظلومية إذ اتهموا بالسرقة وهم فعلا بريئون منها في هذا المشهد ـ صرحوا بذلك قائلين : من وجد في رحله فهو جزاؤه. لذلك لم يتهيب من تعديل القانون فعدله ليكون ذلك خادما لخطته في إستجلاب أبيه. كما أنه طعّم ذلك التعديل بأمر آخر مهم جدا يخفف من وطأته وهو أنه آوى إليه أخاه المطلوب لأول فرصة إختلاء به فأوضح له الأمر وبذلك ضمن جانبه وبقيت المعركة ـ معركة الحيل والمراودات والكيود ـ مع إخوته. 
ماذا لو غلب الألم والحرج على يوسف في هذا المشهد أنه يتهم إخوته بالسرقة وهو أول من يعلم أنهم منها بريئون؟ يوسف هنا هو كمثل الطبيب الجراح الذي يؤلم مريضا وهو يعرف أنه يؤلمه ولكنه يواصل إيلامه لأنه يعرف أن ذلك الألم سيعود عليه بالنفع. مشاهد صعبة وعسيرة في الحياة نتعرض لها ولكن لا يقطعها إلا الذين لا ينسحقون تحت وطآت الألم برأفة. الرأفة في محل الحزم خرم كالبطش في محل الحلم ظلم. المهم هنا هو أن الضحية المباشرة ـ أخوه الحبيس المتهم بالسرقة ـ يفهم ما يجري حوله وما عدا ذلك من عناصر المشهد يكفي فيه أن الأيام القابلة أدنى بؤسا على الأقل حساب مقدر فلا يمكن أن تسبغ أردية الرضى على كل الناس.