تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
خيوط العنكبوت
 لم يتلق دعوة ولم يرغب في المثول بين يدي من وجدهم حوله. كل الأعين ترمقه بابتهاج شديد وكلّ الأيادي ممتدّة لتتلقفه مستبشرة بمقدمه. هل رآهم؟ هل تعرف عليهم؟ هل تمعّن في تفاصيل وجوههم؟ هل عرّى عريهم وعرف ما يبطنون. لا ليس بعدُ. كيف له أن يعي كلّ هذا في يوم واحد؟. لكي يرى لابدّ أن يكتب على لسان الكاتب الإيرلندي جون ماكغرين. وليكتب لا بدّ أن يعيش ويواجه الشّمس من شروقها إلى غروبها وأن يترقّبها حتّى مطلع اليوم الجديد. 
لم يحمل المستقبل لديهم شيئا من رائحة التّفاؤل وبقي غامضا وملتبسا لا ينبئهم إلّا بالبؤس والشّقاء بدليل ملامحه التي لا تختلف عن واقعهم. ولا يدفعهم هذا المجهول إلاّ لإضمار الذّعر الذي يفضحه صدى الحقيقة النّابع من الأعماق يسأل هذا القادم الجديد، لماذا أتيت؟ وما الذي دفعك للمجيء؟ ولكن اليوم ما دمت أتيت، مرحبا، أهلا بك وسهلا في حضرة الوطن عاريا كما أتيت ترتجف من شدّة البرد، جائعا تتلهّف لالتقام أوّل ثدي يدسّ إليك. لا تخف، إنّها الأم الحنون، لها من الأثداء بعدد الرّضّع فلا تخشى جوعا ولا عطشا. المهم أن تنتظر. 
وها هو ينتظر في قاعة عريضة فسيحة لا يرى لها حدودا وسط عدد غفير من المنتظرين مثله، منهم من نفد صبره وبان عليه الملل والضّجر ومنهم من اعتاد الانتظار وأصبح يعيشه ويستثمر فيه. 
من هناك في آخر القاعة ممرّات تفضي إلى بوّابة تفتح على المجهول. اصطفّ وتزاحم الوافدون أمام أعوان تفتيش بدأ يراهم منذ مدّة كلّما اقترب أكثر حتّى بدأ يحفظ تحرّكاتهم المنتظمة واستطاع اقتطاف الأسئلة الموجزة التي يسترشدون بها عن هويّة المرشّحين للفرز. وكلّما تفتح البوّابة ليمرّ منها أحد يُسمع من خلفها تارة هيجان بحر وتارة أخرى هدير محركات وأزيز طائرات تمزّق الفضاء من فوقهم.
جمع الأسئلة المحتملة في استمارة ولكنّه لم يجد لها الأجوبة التي تناسبها. من أين له أن يعرف في هذا الفراغ المبهم؟ كلّ ما يعرفه هو ما يتذكّره منذ أن نزل من العتمة عند أول بصيص نور. وها هو اليوم استعد ووقف مرتبكا أمام عون التّفتيش الذي أرجع له استمارته التي لم تعن له شيئا قائلا: «البلد في حاجة إليك يا ولدي. ماذا تفعل هنا وطريقك غير هذه الطّريق. اذهب إلى الجانب الآخر وابحث عن البوابة رقم ستة (6)».  تشجع لأول مرّة وسأل العون عن البوابة التي أمامه. فأجابه باقتضاب شديد «هذه البوّابة حديثة العهد. فتحت ولم نعرف كيف نغلقها. المقبل نحوها مولود ومغادرها مفقود» ثم واصل كلامه مرشدا «اذهب يا ولدي إلى بوابتك عدد ‹6› أوّلا ثمّ ‹12› ثمّ ‹18› ولا تتراجع حتى تُفتح لك كلّ الأبواب. ولا تنسَ البوابة العشرين فستبقى تنتظرك وإن بعد عمر طويل.
تراجع دون انتظار إلى الوراء يشقّ طريقه بين أمواج من البشر كأنّه في يوم الحشر –لا عفوا مرّة أخرى فهو لا يعرف يوم الحشر بعدُ- لكنّه يعرف يوم السّوق الأسبوعيّة والأسواق العشوائيّة على قارعتي ووسط الطريق. استوقفته حلقات مرّة حول رجل يبيع الكلام فلم يفقهه وأخرى حول بائع أدوات منزليّة وأخرى حول عجوز تشكو ضيق حالها. وأطال المكوث مع جمع من الأطفال التفوا حول امرأة يصغون إليها بكلّ انتباه فرآهم يتسلّقون المراتب متشبّثين بخيط الأمل المتدفّق بانسياب من بين شفتيها كما ينساب الخيط من بين أنامل حذقت وصل جدائل الصّوف بطرف المغزل فيقضمها ولا يُلفّ الخيط حوله إلاّ رقيقا مسترسلا. الخيوط تتدفق من شفتيها ومن جوارحها تلامس السّماء وتراقص أشعّة الشّمس فيعلّق الأطفال عليها أحلامهم شالاة وبيضاوات وسوداوات تشدو أنغاما على مقام فرحة الحياة.
لم يعرف كم لبث ولكنّه لم يشعر بالزّمن يمرّ. ووجد نفسه هناك غير بعيد في قاعة الانتظار الطويل أمام عدد غير قليل من المنتظرين تعوّدوا الدّخول والخروج من البوابات. هم الوحيدون الذين يعلمون ما يدور خلف هذه البوّابات فتراهم فرادى يصطادون التّائهين لإرشادهم مقايضة فيبيعونهم التّحرر من سجن الفاقة بالتّأفف والزّهد. كما انتصب آخرون في حلقات قمار نشروا شباكا من خيوط العنكبوت ونصبوا مائدة التفوا حولها ينهشون بنهم وشره كبيرين ما علق بفخاخهم. 
 لم يجد بُدّا من البقاء مع هؤلاء وقد كشف مكرهم، فسارع بالابتعاد حتّى رأى تجمهرا أمام بوابة كتب عليها «الفصل الخامس من الدّستور : على كلّ مواطن واجب حماية البلاد والمحافظة على استقلالها وسيادتها وعلى سلامة التّراب الوطني. والدّفاع عن حوزته واجب مقدّس». ووجد نفسه بين أنداده أمام تلك البوّابة عراة إلاّ من الحياء ينتظر مع المنتظرين، وكلّما أدخل أحدهم يسمع من خلف الباب «مبروك على تونس».