في الصميم

بقلم
عادل دمّق
حقيقة التقوى
 الناظر في تعريف التقوى يجدها متشابهة/مختلفة بحسب مشرب المعرف ومذاقه ومذهبه، وحتى تجاربه الشّخصية. أمّا الجوامع المشتركة التي تجمع بين كلّ التّعاريف المذكورة فهي:
-1 بناء التقوى على الإيمان.
-2 النّظر إليها كأنّها من المكمّلات والمتمّمات والتّحسينيات.
-3 انطلاقها من ظواهر التّقوى، وليس من التّقوى نفسها.
هذه التعاريف المذكورة هي التي حدّدت نظرة العقل الإسلامي التّقليدي (العقل التّقليدي للمسلمين المتشكّل خلال القرون الطويلة) لمفهوم التّقوى، الأمر الذي أدّى إلى النّظر للتّقوى كمرادف للزّهد، والمتقّي كمرادف للزّاهد مع مرور الزّمان.
ولا شك أنّ هذا انحراف دلاليّ طرأ على معنى التّقوى. ولاختلال موقع التّقوى في الأذهان بسبب الانحراف الدّلالي المذكور، فقد أصبح من المألوف البحث عن درجة تقوى الإنسان في مستوى زهده. وهنا بالضّبط ظهر الخلل الكبير حيث لم يلاحظ غياب التّقوى الحقيقيّة، ممّا أدّى إلى ظهور تدهور أخلاقي حاد في المجتمعات الإسلاميّة؛ إذ امتلأت ساحة «البطولة» بزُهَّاد بمعزل عن التّقوى والإحساس بالمسؤوليّة.
وإذا أردنا شرح ذلك بمثال فإنّه من الممكن تشبيه حال «المتّقي» بمعناه المنحرف ببيت حافل بأفخر الأثاث ومرصّع بأجمل الصبغات، ولكنّه يريد أن ينقضّ على من بداخله عند أخفّ هزّة لكون البيت خاليا من الأعمدة.
التقوى كـ «إحساس بالمسؤولية»
إنّ مؤلف «معجم مقاييس اللّغة» الذي يهتم بدراسة أصول الكلمات العربيّة يعرف فعل «وقى» الذي تشتقّ منه التّقوى: «منع الشّيء بشيء خارج عنه ممّا يؤذيه ويضرّه»، ولها (للتقوى) علاقة مع القويّ والقوّة والقوت الذي يعني الزّاد.
إنّ البذرة الحقيقيّـــة في كلّ حبّة ليست هي البذرة نفسهــــا، وإنّما الجزء الصّغير المسمـــى بـ «الرّشيم» الذي لا يعـــادل إلاّ واحــــدا في العشرة من نفـــس البذرة أو الحبّة. والجزء الخارجي للبذرة بمثابة «تقوى» الرّشيم لكونه واقيا له من المؤثّرات الخارجيّة. وعند التقاء الرّشيم مع التّراب تظهر الحاجــــة إلى الــــزّاد (القوت) للتّبرعُم. والقوت الأوَّلِي للرّشيم (أي واقيه) قد وُضع في طياته من قبل خالقه سبحانه وتعالى.
ويأتي فعل «اتقى» بمعنى «وضع مانع بين شيئين»، أو بعبارة أخرى «جعل وقاية بين شيئين» في الأصل اللّغوي. وخير دليل على ذلك ما روي عن عليّ رضي الله عنه في وصفه لشجاعة الرّسول صلّى الله عليه وسلم في الحروب: «كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه». إنّ معنى «اتقينا» الذي عناه عليّ رضي الله عنه هنا لهو معنى «التّقوى» اللّغوي بالضبط.
تعني «الوقاية» الاهتمام والعناية بـ «الوقاية والحفظ والحذر». ولكن من الضّروري ملاحظة أنّ معاني «الوقاية والحذر» تتعلّق بالمظهر الخارجي للتّقوى أكثر. وإنّما التّقوى الحقيقيّة لا بدّ أن تستقرّ في أعمق الأعماق أي في القلب الواعي، فضلا عن ذلك فإنّها لا بدّ أن تكون «شيئا واقياً للإنسان بتزويده وتغذيته».
« إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» [1]!
ذلك لأنّ كلّ «وقاية وحذر» لا يعني التّقوى. فإنّ الفرار ـ على سبيل المثال ـ سبيل من سبل الوقاية من الخطر، ولكن لا يذكر «الفرار» بين معاني التّقوى بطبيعة الحال. بل المعنى الذي يسود في التّقوى هو «الوقاية بالتّغذية التّرجيعيّة» وليس «الوقاية بالفرار».
يظهر ممّا سبق أنّ «الوقاية والحذر» الواردين في تعاريف التّقوى هما من المعاني التّالية لها؛ لأنّهما (الوقاية والحذر) ليسا سببي التّقوى، وإنّما نتيجتيها.  ولا بدّ أن يكون المعنى الأصلي للتّقوى شيئا يتمخّض عنه «الوقاية والحذر»، وهو الوعي، وكما قال الإمام الشّافعي ـ رحمه الله فإنّ «التّقوى إنّما تكون على من عقلها».
كما يُغذّى الرّشيم الصغير داخل البذرة/الحبّة بـ«الزّاد» (السّويداء ـ endosperm) المخزون في طياتها لكي تصبح شجرة، كذلك تتوجّب تغذية الإنسان المتّقي بوعي خاصّ لتحقيق «الوقاية والحذر». وقد أطلق العالم الياباني الخبير في مجاله «توشيهيكو إيزوتسو» على ذلك الوعي الخاصّ «الإحساس بالمسؤوليّة». وحاول إيزوتسو أن يجد جواباً على سؤاله «ما هي التّقوى» في كتابه الموسوم بـ «الله والإنسان في القرآن» الذي درس فيه جملة من المفاهيم القرآنيّة من زاوية علم الدّلالة، حيث قام بدراسة استعمالات كلمة التّقوى في الشّعر الجاهلي الذي يعدّ الأعمال الأصيلة الأوليّة التي وصلت إلينا، فانتهى إلى معنى كلّي يدور حول محور كلمة «المسؤوليّة».
إن العلاقــة الوطيدة بين التقــوى والمسؤولية تضع التقوى في موضعها الحقيقي من حيث المعنى اللّغوي والمفهومي. وعليه فإنّـــه سيصبــح مــن الممكــن التّمييــز بين المؤمــن الذي يتصــرّف «دون الشّعور بالمسؤوليّـــة» والمؤمـــن الذي «يتصرّف بالمسؤوليــة». إنّ أقلّ التّقــوى هي المسؤوليّــة تجاه أدنى مخلوق في الكـــون، بينما أكبرهـــا المسؤولية تجاه الله العلّي الكبير .
هدى للمتقين، وليس تقوى للمهتدين.!
ماذا تقول الآية الثّانية من سورة البقرة؟ هذا سؤال يكشف في الوقت ذاته عن الانحرافات الدّلالية في أذهاننا لمفهوم التّقوى.
لننظر أوّلا  ماذا تقول الآية: «الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ» [2]
إن عبارة «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ» لا تجعل الهداية أساس التّقوى، وإنّما تجعل التّقوى أساس الهداية. ولو كانت الآية جعلت الهداية أساس التّقوى لكانت الآية هكذا: «تقوًى للمهتدين». وإنّ كافة تعاريف أهل البيان والعرفان لكلمة التّقوى تجعل الهداية أساس التّقوى. وإن صحّ ذلك فإنّه مناقض مع الخطاب الموجّه للكّفار في سورة الشّعراء «أفلا تتّقون».
والقول «إن كان الإنسان متّقيا فهو مهتدٍ، وإن كان في حاجة إلى الهداية فليس بمتقٍ» هو نتيجة لعدم الملاحظة بالحقيقة الواردة في الآية المذكورة.
لا شكّ في أنّ التّقوى رحلة خالدة تعبّر عن لامحدوديّة قدرة التّطور للوعي الإنساني. ذلك لأنّ الإحساس بالمسؤوليّة عمليّات تطور متداخلة، تشكّل نقطةُ نهاية لإحداها نقطةَ انطلاق للأخرى، حيث يوصل الكافر إلى الإيمان، والمؤمن إلى الإحسان، والمحسن إلى الإيقان، والموقن إلى العرفان وهكذا...
تتحدّث الآية الثّانية من سورة البقرة عن تقوًى تسبق الهداية وتكون سببا لها. والتّقوى التي تسبق الهداية هي «أخلاقيّات المسؤوليّة». والإحساس بالمسؤوليّة الذي هو القوّة الدّافعة لتلك الأخلاقياّت يوصل الإنسان إلى عتبة باب الهداية. ولو قمتم بتدقيق مراحل حياة معتنقي الإسلام (المهتدين) للاحظتم تلك الحقيقة على الإطلاق.
وأحسن مثال يدلّ على أنّ التّقوى قبل الهداية هي «أخلاقيّات المسؤوليّة» هو تلكما الآيتان اللّتان تصفان شخصيّة الرّسول صلّى الله عليه وسلم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم»[3] و«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْلإيمَانُ»[4]
وإذا أمعنّا النّظر في الآيتين معا ندرك بوضوح أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلم هو شخص كان على خلق عظيم قبل معرفته ما الكتاب ولا الإيمان. إذن فما هو الخلق العظيم الذي يمكن الحصول عليه قبل المعرفة بالكتاب والإيمان؟ هو الشعور بالمسؤولية ذاته الذي دفع بمحمد بن عبد الله إلى عتبة باب «غار حراء» بينما كان تاجرا يشتغل بأعماله في مكّة المكرمة. وهو سيشعر بعبء هذه المسؤوليّة إلى درجة سيجعل منه «محمدا رسول الله رحمة للعالمين» صلّى الله عليه وسلّم إلى الأبد!
الأساس الذي يقوم عليه تصور الرّسول صلى الله عليه وسلّم للإنسان
إنّ القرآن هو الذي بنى تصوّر الرّسول صلّى الله عليه وسلم للإنسان، لذلك فهو تصوّر صحيح مطابق لواقع الأمر. وكان الرّسول صلى الله عليه وسلّم يدرك حقيقة «هدى للمتّقين» حقّ الإدراك، ولا ينظر للتّقوى كعمليّة تحصل بعد الهداية، وإنّما يراها كعمليّة واسعة النّطاق تشمل ـ إضافة إلى ما بعد الهداية ـ ما قبل الهداية أيضا.
ولتوضيح رؤيتنا حول الموضوع إليكم هذا المثال:
- يدور بين الرّسول صلى الله عليه وسلم وحكيم بن حزام؛ ابن عم خديجة رضي الله عنها والذي أسلم عام الفتح وعمره 60 عاما، وعاش بعده 60 عاما أيضا الحوار التالي: « أي رسول الله! أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال: أسلمت على ما أسلفت من خير!»[5] 
إن الأعمال الصالحة التي عملها حكيم بن حزام بدافع «الإحساس بالمسؤولية» قبل الهداية هي السّبب أو الوسيلة التي أوصلته إلى عتبة باب الهداية.
إليكم مثالا آخر حول إيصال التّقوى قبل الهداية صاحبها إلى عتبة باب الهداية:
إن «صعصعة بن ناجية»؛ جدّ الشّاعر العربي الشهير «الفرزدق»، كان من الذين أدركوا عهدي الجاهليه والإسلام معا. وكان من أجود العرب حيث كان يقوم بفداء الفتيات اللاّتي يريد أهلهن أن يَئِدوهن في عهد الجاهلية. وكان قد أنجى بهذه الطريقة حياة 360 من الفتيات بحسب بيانه هو. ولعله كُنِّي بـ«النّاجية» بسبب ذلك. فهذا الرّجل البطل العظيم الذي يستحقّ لقب ضمير الجاهلية ينقل لنا حوارا مماثلا دار بينه وبين الرّسول صلّى الله عليه وسلم: «قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهليّة، فهل لي فيها من أجر؟ قال: وما عملت؟ قال: أحييت ثلثمائة وستين موؤودة أشتري كلّ واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك أجره إذ من الله عليك بالإسلام»[6]
وعندما قال النّبي «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا» كان يقصد به الذين يتصرّفون بدافع الإحساس بالمسؤوليّة في تصرفاته قبل هدايته أي اعتناقه الإسلام. وعندما دعا النّبي صلّى الله عليه وسلم لعمرين انطلق من نفس الدّافع: «اللّهم أعزّ الإسلام بأحد العمرين: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام ـ يعني أبا جهل». ونرى ذلك أيضا في قوله عليه السّلام: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه».
خلاصة القول: إنّ التّقوى هي ظهور الفطرة الإلهية في الوعي، أي: يكون الإنسان قريبا من التّقوى بقدر ما يحفظ الفطرة المودعة في نفسه أمانة. ولذلك فإنّ الإحساس بالمسؤوليّة المتمثّل في التّقوى يشمل الوعي بالأمانة والمديونية أيضا. وعندما يتجاوز شعور الاهتمام بالأمانة لدى الإنسان على مستوى معين يحرّك فيه الإحساس بالمديونيّة تجاه صاحب الأمانة، الأمر الذي يثير الفضول لمعرفة هويّة الدّائن. أمّا الفضول فيدفعه إلى البحث، والبحث إذا تجاوز حدّا معينا يوصله إلى الهداية. وهذا هو معنى الآية الثّانية من سورة البقرة «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ».
من غير الممكن أن يكون من يقول «ما لي» متقيا، كما يستحيل أن يقول المتّقي «ما لي».
الهوامش
[1]  سورة الأعراف - الآية 201
[2]  سورة البقرة - الآية 1 و2.
[3] سورة القلم - الآية 4
[4] سورة الشورى - الآية 52
[5] البخاري، الزكاة، الرقم: 1369؛ مسلم، الإيمان، الرقم: 123؛ مسند أحمد، المجلد الثالث، الرقم: 434.
[6] المعجم الكبير، الطبراني، الرقم: 7412، فتح الباري، الرقم: 5630.