تحت المجهر

بقلم
الخامس غفير
في إفريقيا تجربة تحول نحو الديمقراطية
 ليس بين الحلم والواقع إلاّ مسافة قصيرة، إذا توفّرت الإرادة الصّادقة، والعمل من أجل تحقيق الأمل الذي ينهيه الأجل، والنّية الحسنة، وصدق الطّلب، وتوافرت العوامل الموّجهة لتحقق نسبتها إلى أرض الواقع، فاقتران الحلم بالأمل وحده دون إرادة تسنده، لهو من وجهة نظر «إرنست بلوك»، صورة من صور التّمني والخيال السّلبي، الذي لا يرقى إلى مرتبة الواقعي المؤمن بضرورة ربط كلّ أمل بعمل وفعل وقدرة على التّنفيذ. وعيا بهذا الترابط،  يحكي لنا التّاريخ القريب أنّ رئيس إحدى الدّول الإفريقيّة كان غارقا في الفساد متماديا في غيّه، مبالغا في قهره وجبروته لأبناء وطنه، وفي لحظة من اللّحظات استيقظ من سباته العميق وسعى للرّجوع إلى رشده، والتّحرّر من عبوديّة نزواته، ومخالفة هوى نفسه التي بين جَنبيه.
انحنى أمام جموع من الفُضلاء الذين توسّم فيهم المساعدة والمساهمة في الإنقاذ، نعم إنقاذ البلاد من الكوارث المحدقة بها، والمساعدة في بعث الحياة في هذه الأرض بعدما أعلن أمهر الأطباء بدنوّ أجلها، منذرا بموتها....
توبة سياسية و إجتماع طارئ
استدعى الرّئيس جميع الأطياف السّياسية والنّخب الفكريّة، وأعلن توبته السّياسية أمام الجميع، وعرض عليهم التّفكير الجدّي في مصلحة الوطن والمواطنين عبر إيجاد حلول  للأزمات التي تخنق البلاد جرّاء فساده، طالبا منهم العفو والصّفح عنه....
ماض حزين ذاك الذي يحتفظ به سجلّ تاريخ البلد، قمع، وإرهاب، ونهب، واختفاء قسري، ومع هذا الماضي البئيس اشتعلت فتيلة الأمل لتفكّر في المستقبل الجميل، مستقبل ظلّ راقدا مع الأحلام الحزينة، لكنّه هذه المرّة اتخذ قبلته انتظار لحظة اللّقاء مع أولى خيوط الفجر، إنّها بداية الإعلان عن لحظة الإنتقال من زمن الاستبداد إلى زمن التّوافق السّياسي والدّرس الدّيمقراطي... 
استيقظ هذا القادم من غفوته وأسرع لمعانقة البشرى بميلاد الضّمير وأوبته، وأعلن الماضي عن بداية هروبه إلى ماضي ماضيه بأرديته السّوداء فزعا من نور الحقيقة التي لم يعد يحجبها غربال.
طمأنة و توافق 
قدّم الجميع للرّئيس جميع الضّمانات بعدم محاكمته، واحتفظوا له بجميع ممتلكاته، توافق سياسي فريد وعمل إيجابي وجريئ، أعلن عن قبوله وحفز الجميع على المبادرة إلى إعداد اقتراحات وبرامج في الموضوع بعيدة عن الخطب الإنشائيّة، أوراق تتضمّن مشاريع وحلول فعليّة، بعيدة عن الشّعارات الرّنانة والعبارات المتعالية عن واقع الشّعب وتطلّعاته ...
تلقّى الرّجل منهم كلمات دافئة، فهو لم يعد من الذين يبحثون عن مخابئ تظلّل عروشهم وتحفظ لهم استمرارهم. تصفّح سلوكه السّياسي وتاريخه الملثّم بالجحيم، وقف حائرا وانخرط في قراره، صفع بسمته الصّفراء التي كان يوزعها على المساكين من الفقراء في المناسبات والحفلات الرّسمية.
كانت المدّة كافية لإعداد الأوراق والأبحاث على الأقل في هذه الفترة، التحق الجميع بالمكان المقرّر فيه المؤتمر، افتتحه بخطاب رسمي أمام الحضور الذي تمّ اختياره بعناية فائقة، دام حوالى ستّ ساعات، وبعدها توارى الرّجل إلى الخلف مُتابعا ومُلاحظا  ومُدَقّقا، وكان يُكسّر بين اللّحظة والأخرى نظراته بامتشاق كأس من الماء ويعيده إلى المنصّة كلّما أزال الغصّة، ولاحظ الحضور تفاعله الإيجابي مع المبادرات والإقتراحات انطلاقا من قسمات وتعبيرات وجهه، ممارسا تجربة جديدة، وللحظة غريبة، إنّها لحظة الانعتاق..
يصدقها حتى ولوكانت كذبة سالكة من أودية العقل اللاّواعي وهاربة منه ،يتبنّاها بشغف ولهف ،حتّى ولو وقف الوطن لرفض الطّلب معلنا تمرّده على الحرّية والكرامة والعدالة الإجتماعية.
إنّ خطاب الطمأنة الذي تلقّاه الصّاحي جعله يتطلّع إلى عصر جديد، عصر بدون مشنقة وبدون أيدي الجلاّدين الذين كانوا ينتظرون الأوامر العليا لامتهان الموت والتّعذيب بأبشع صوره، لن يسمع مرّة أخرى قرقعة المفاتيح وهو يرافق حرّاس السّجون وهم يفتحون أبواب السّجون لإستنطاق الأبرياء والمعتقلين السّياسيين الذين اكتظّت بهم مساحات وجدران العنابر والغرف....
مخرجات التّوافق السّياسي الفريد
تمّ الإتفاق على ضرورة العمل على إنجاح هذه التّجربة النّوعية،حُسم في النّقط الخلافيّة، وذهب الحضور إلى تطويق النّقط العالقة على جميع المستويات، حقّق المؤتمر أهدافه وأحكم القبضة على التّغيير المنشود وقبض على الآليات التي تُسهم في تحسين صورة البلاد،لم يعد التّفكير في الماضي الحزين هو سيّد الموقف،بل صار الجهد الفكري منصَبا على وجوب تحمل عبء المحافظة على هذا المُكتَسب، وممارسة فعل التعميم لهذه التّجربة وتوسيع أنصارها عبر العالم لتحرير الإنسانيّة، ولإنقاذها من ربقة الإستعباد والإستبداد والعضّ والقهر والجبر.
بدأ التنفيذ باحترافيّة عالية بعدما تحرّرت الطّاقات المبدعة التي كانت مطمورة ومختفية، وتمّ إشراك أهل التّخصص بعيدا عن التّضخيم الإعلامي، يجري هذا كلّه دون علم من أيّ أحد سوى الصّاحي والمؤتمرين من أهل السّياسة والتّخصّص والنّخب الذين طلّقوا المزايدات السّياسية والمتاجرة في معاناة الشّعب، وقطعوا مع جميع الممارسات التي تسعى لتسويق الوهم، الآن نستطيع القول، جمعهم الهمّ بعدما كان الصّراع بينهم حول الكمّ ( الشّرعية التاريخيّة)،أو حول الدّم(عدد المناضلين الذين سقطوا في معارك الدّيمقراطية وحقوق البشر)، لم نعد نتحدث عن ضياع الوطن والشّعب بين الكمّ والدّم، بل الهمّ هو الذي بات يجمع جميع الأطراف والأطياف مدخله الأساس ميثاق وطني جامع يؤسّس لمستقبل بدون إقصاء، وبعيدا عن الحربائيّة والدّيماغوجيّة المقنّعة بقناع المكر و«الديموحراميّة»...
وانتصرت الديمقراطية ...
جاءت فترة الانتخابات بعد سنة من العمل،أجريت في موعدها كما جرى الاتفاق، لم يسجّل أي خرق قانوني لصناديق الإقتراع،كانت النّزاهة والشّفافيّة والوضوح كما يحكي أهل السّياسية هي العنوان الأبرز لها.
تمّ الإعلان عن النّتائج في وقتها دون تأجيل وتسويف،حدثت المفاجأة حصل ما كان منتظرا لعدّة عقود، ترى ما الذي حصل ووقع ؟
بخلاف المشهور والسّائد عندنا، كان الرّئيس وفخامته هو من يحصل على ما نسبته تسعا وتسعين في المائة من عدد الأصوات، نجاح باهر وبالأغلبيّة السّاحقة، الرّئيس عندنا أخرس لسان معارضيه، وهُزم الجميع أمام إنجازاته، والكلّ تأخّر عن اللّحاق به في معركة انتخابيّة هو من يملك جميع تفاصيلها وهندستها، انهزم الحاكم الصّاحي في هذه الانتخابات التي أريد لها أن تكون نزيهة وبدون «كولسة» مسبقة، وغير مفصّلة على مقاس الحاكم، بل هذا الأخير هو من ضَمنَ لها النّزاهة والشّفافية، وشيّد لها صناديق زجاجيّة على مرآى ومَسْمَع من الجميع، وحرّر لها الإعلام، وفتح لها حرّية التّغطية والمتابعة.
انهزم الصاحي وربح الوطن، وغنّى في عرس الدّيمقراطية، رقص الشّعب رقصة النّجاح، نجاح التّجربة، واستبشرت الأحزاب السّياسية خيرا بهذا المولود، وبدت البسمة والفرحة على مُحيا النّخب وصُنّاع القرار السّياسي بالبلد.
وفي غياب تاريخ كهذا ستبقى سابقة تاريخيّة ستسمّر عبر تسلسل زمني يعطيها قيمة، ممّا يعني أنّ في السّريرة سيسكن هاجسٌ جديدٌ بأنّ الريّادة المحقّقة ستحتاج إلى من يرعاها ويحميها من عبث العابثين،ومن عيون المتربّصين بالدّيمقراطية الوليدة.
ربح الوطن...و تحقّق الحلم
تطوّرت البلاد تطوّرا نوعيّا، ولمس المتابع البَون بين الأمس ولحظات اليوم، وأسّست النّخب من الفضلاء للحظة الوداع والفراق بدون دموع على الاسترقاق والعبودية المختارة، بل بابتهاج وفرح وسرور، ارتفع منسوب الحرّية بالبلاد في المجالات المتعدّدة، كالصّحافة والإعلام، وتغيّرت لغة المناهج التّربوية،كما تمّ تعميم الوعي السّياسي، والنقاش الحرّ، وحرّية ابداء الرأي، والاختيار، ولم يعد الوعي السّياسي مركّزا في أيدي فئة معيّنة من أهل المال، والجاه، والسّلطة.
ولم يعد الحاكم يسُوس البلاد بتفويض «الهي» أو بانتمائه القبلي، بل أصبح الحكم «أرضي»، والآن استقر الأمر على أنّ الفيْصل الذي يرجع له الأمر في أيّ إختيار أو فعل في المجتمع هو الشّعب الذي رضي بفصل السّلط ، وآمن بالدّيمقراطية الحقيقيّة كآلية من آليات التّدبير، وكتجربة انسانيّة يستفاذ منها، وكدرس في التّعددية السّياسية أو الحزبيّة، والحقّ في المعارضة والجهر بالحقّ والإختلاف والتّعبير، وانخرط فعليّا في ضمان التّداول السّلمي على الُحكم، وبات صاحب الرّأي والمشورة في تنظيم الخلاف الدّائر بين الأحزاب والنّخب وأبناء الوطن حول القضايا المصيرية للبلاد.
أمام هذه المكتسبات الجديدة، استعاد الشّعب ثقته في ذاته و تخطّى الحواجز القديمة التي كانت من صُنْع العهد البائد، فذهب إلى التّفتيش عن تاريخه وأرشيفه ورفع شعار المحاسبة أولا للحاكم المستبدّ، والمحاكمة لمن أفسد واستكبر وأتْرَف فيما سبق.
فحتّى لا تحصل الرّدة على ما تحقّق من انجاز وتطور، ولكي لا تقع الإنتكاسة على التّجربة الفريدة، بدأت تخرج بعض الفلتات الإعلاميّة التي تتحدّث عن الأسباب الكامنة وراء هذا التّغيير الذي خرج بالمجتمع من المرحلة الظّلمانية.
هنا بالضبط كَبُر الصّاحي في أعين الجميع،وصارتْ له مكانة كبيرة في قلوب أبناء جلدته، واكتسب رمزيّة لا تقدّر بثمن من طرف الشّعب، وتحوّل من عدوّ إلى صديق، وانتقل من الإنسان البعيد عن الجماهير الشّعبية إلى الرّجل القريب من رموش أعين الفضلاء والمواطنين قاطبة. كم هي المسافة قريبة، إذن، بين حلم ظلّ حبيس التّأجيل، وواقع ليس عصيّا على التّعديل والتّغيير شريطة التّسليم بجدوى تبجيل العمل وتعجيل المؤجل، لعلّ علامات النجاح تخفي تدريجيّا معالم الإخفاق. ألم يقل العروي في كتابه «من ديوان السّياسة»: «الإخفاق وارد...لكنّ النجاح أيضا وارد وبالقدر نفسه، وإلاّ لما فكّر في الأمر أحد».
تهنئة و أسئلة
هنيئا لدولة البنين، وتحيّة عالية لنخبها وللإرادات الصّادقة بهذا البلد الذي قدّم درسا للعالم في التّغيير السّلمي من إفريقيا، فهل تستطيع نخبنا السّياسية أن تسير على هذا النهج وتنحو نحو هذا المنحى الفريد؟ هل بإمكانها أن تتخلّى عن صراعها الإديولوجي المقيت وتتّجه نحو تبنّي منهج البناء الدّيمقراطي كأساس للفعل والتّغيير وتأسيس عمل مشترك يعود عائده على الشّعوب التي أضناها الإستبداد، والظّلم، وقتلها الإنتظار والقلق من المستقبل المجهول؟ هل يمتلك حكامنا الجرأة للإعلان عن توبتهم السّياسية والأخلاقيّة ؟ هل الحاكم العربي قادر على التّخلي عن امتيازاته وكبريائه ليرتمي في أحضان شعبه بدل الخضوع لسياسة الإستكبار العالمي وتنفيذ خططها واستراتيجيتها القائمة على تثبيث الإستبداد وتجزيء الأوطان العربيّة والإسلاميّة وقتل روح المقاومة فيها؟