قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
حررتهم الثورة
 سبع سنوات مرّت على نجاح الثّورة فى تونس وقد كان نجاحها قياسيّا حيث لم تدم فى الزّمن سوى بضعة أسابيع ما بين أوّل مظاهرة في مدينة سيدي بوزيد وآخر تجمّع بشري حاشد في الشّارع الرّئيسي لتونس العاصمة. لقد قيل في الثّورة التّونسية الكثير وكتب عنها أكثر وامتّد صيتها إلى القارّات الخمس، وما فتئ يقال عنها وفيها أكثر. هي أقصر الثّورات من الناحية الزمنيّة وهي أقلها كلفة من النّاحية البشريّة والأهمّ أنّها الأساس من حيث الانتقال بالدّولة وبالثّورة من حراك منفلت إلى آخر مؤسّس، فهي الثّورة الوحيدة التى استطاعت أن تؤلّف بين مقتضيات الوجود الضّروري للدّولة ومقتضيات الحراك الثّوري الذي يقتضي الجموح والانفلات.
لم تكن الثّورة حينئذ حدثا عاديّا بل كان عنصر المفاجأة هو العنصر الغالب إبّان اندلاعها وأثناء أحداثها الملتهبة، لقد كان لحادثة احتراق البوعزيزي قصب السّبق فى ايقاد فتيل الثّورة ولكنّها لم تكن العامل الوحيد لاندلاعها. ومن كان من المتابعين للشّأن السّياسي فى حينه كان لا بدّ أن يتوقّع حدوث أمر ما نتيجة طول المدّة التى مضت على حكم المخلوع من جهة ونتيجة الضّجر الذي بدأ يظهر شيئا فشيئا من آل المخلوع وذويه بسبب هيمنتهم على كلّ القطاعات الاقتصاديّة والماليّة للدّولة دون أيّ رادع أو رقيب.
اندلعت الثّورة دون قيادة وربما دون أفق واضح، ومن كان من غير الموالين لها كثيرا ما يحتجّ بهذه العفوية وبغياب القيادة الواضحة لها لكي يطعن فيها ومن هؤلاء من يرى فيها مجرّد مؤامرة ودفع بالبلاد نحو المجهول وحتّى نحو الانهيار والخراب. ولكن هل غاب عن هؤلاء أنّ النّظام الذي كان يحكم البلاد لم يكن يسمح مطلقا بأيّ حراك مهما كان نوعه ولا كان يسمح ببروز أيّة قيادة فاعلة يمكن أن تقود الجماهير مهما كان حجم هذه القيادة، بل إنّ فترة الحكم الطويلة لم تزد النّظام إلاّ تقوقعا على نفسه ولم تزد زعيمه إلاّ اعتدادا بقوّته ومبالغة فى إظهارها، ماتت السّياسة مبكّرا وانفصلت الدّولة عن كلّ حراك سياسي وأصبح همّ الزّعيم أن يحكم من دون معارضة وأن يحكم حتى يموت.
لم تفشل الثّورة لأنّها كانت مُفاجِئة للنّظام ولا لكونه لم يقمعها بالقدر الكافي كما يروّج الكثيرون ولكنّها نجحت لأنّ هذا النّظام وصل مرحلة الإفلاس التّام من النّاحيتين السّياسيّة والجماهيريّة ولو لجأ رأس النّظام حين اشتداد الثّورة إلى حلول أكثر دمويّة لزاد الثّورة اشتعالا ولكانت عواقب فعله كارثة عليه وعلى البلد. لقد نجحت الثّورة فى وقت قياسي لأسباب متعدّدة ومعقّدة أيضا، أمّا التّعقيد فقد اختزلته السّاعات الأخيرة للثّورة وما سبقها من غموض وأمّا  الأسباب فمنها ما كان يعتمل فى صدور الكثير من التّونسين من حقد وكراهيّة تجاه نظام الحكم ونمطه منذ ماقبل صعود المخلوع إلى كرسي الرّئاسة والذين ازدادت كراهيتهم للنّظام بعد أن كشّر المخلوع عن أنياب أشدّ دمويّة وجبروتا من سلفه. ومنها أنّ من التّونسييّن من يئس من النّظام الحاكم بعد فترة من الـتّأمّل والأمل أعقبتها خيبة ومرارة حين أصبح العمل السّياسي محضورا تماما مثله مثل أيّ عمل ثقافي أو اجتماعي لا يروق للنّظام ولا يدور فى فلكه. ومنهم من لم يكن من أهل السّياسة ولا كان من المهتمين بالشّأن العامّ ولكن النّظام القائم هو من دفعه إلى المعارضة أو إلى اتخاذ مسافة تجاهه بسبب ممارساته القمعيّة أو بسبب الصّورة التى ما فتئت تتشكّل فى وعي النّاس عن تحوّل الدّولة إلى غنيمة شخصيّة للرّئيس وحرمه وآلهما دون رادع ودون حدود .
تونس بلد عربي، والعرب كانو الأبعد عن الثّورة رغم أنّهم كانوا مولعين بكلمة «ثورة»، فقد سمى جمال عبد الناصر انقلابه على الملك فاروق بالثّورة وكذلك فعل القذافي بعد انقلابه على الملك اللّيبي ومثل ذلك فعل الأسد المقبور بعد انقلابه فى سوريا حين سمى الانقلاب ثورة تصحيحيّة. وكلمة «ثورة» لها وقع خاص عند الماركسيّين العرب إذ تذكّرهم بالثّورة البلشفيّة ولها وقعها عند الإسلاميّين العرب أيضا لأنّها تذكّرهم هم أيضا بثورة كانت ذات طابع إسلامي وهي الثّورة الإيرانية ولكن تونس رغم صغر حجمها وقلّة احتفاء شعبها بكلمة «ثورة» هي من أهدت العرب جميعا أوّل ثورة فى تاريخهم الحديث، ففتحت لهم بذلك أفقا رحبا لم يكن متاحا لهم النّظر إليه قبل ذلك رغم أنّ بورقيبة حاول أن يقتل فيها كلّ منزع ثوري ورغم أنّ المخلوع حكمها بعقل المافيا وأساليبها.
لتكن ثورة مفاجئة ولتكن ثورة الهامش المنفلت بلا قيادة  ولتكن ما تكون، فقد كان لها قصب السّبق ونيشان الرّيادة وهي الثّورة الوحيدة التى أحدثت زلزالا مدوّيا امتد أثره بعيدا حتّى وصل إلى سوريا بعد أن اكتسح مصر وليبيا واليمن ولولا قوّة البطش التى جوبهت بها الثّورة السّورية لكان وقع الزّلزال أشدّ. إنّ من طبيعة الثّورات الانتكاس ومن طبيعتها الغلوّ والمغالاة وربّما كان من الطّبيعي أن تنتصر الثّورة المضادّة على ثورة لم يشتدّ عودها أو انفضّ عنها حرّاسها ولكن العبقريّة وحدها من تصنع الإستثناء متى توفّرت العزيمة الصّادقة،لذلك لا خوف على الثّورة التّونسية لأنّ حراسها كثيرون وهم أيضا ليسوا خلوا من العبقريّة.
لقد ظلّ هذا البلد يحكم بعقل سياسي يناوئ الإسلام السّياسي بغضّ النّظر عن كلّ ما يمكن أن يقال عن هذا الإسلام السّياسي، بل إنّ الحكم الذي كان قائما قبل الثّورة كان يعدّل ساعته وفعله وحتّى مزاجه انطلاقا من عدائه الشّديد للإسلامييّن وقد أفلح فى حياكة نخبة ثقافيّة وسياسية كلّ همّها مناوأة الإسلاميّين وهرسلتهم بكل الطرق. كانت الثّورة فعلا تحريريا لكلّ الطّاقات ولذلك فقد كان من الطّبيعي أن يكون الإسلاميّون أكبر المستفيدين من هذا التّحرر إذ رفعت عنهم الأغلال والقيود التى كانت تغلّ حركتهم وتدفع بهم إلى الهامش ولذلك استطاع هؤلاء أن يعيدوا تنظيم أنفسهم ويستعيدوا قوتهم، والأهم من كلّ ذلك أن يستطيعوا التّكيّف مع الثّورة وإعادة ترتيب الأولويّات داخل البلد ليتغيّر المزاج من مقاومة الاسلاميّين وهرسلتهم إلى الإعتراف بهم قوّة على الأرض لا غنى للبلد عنها ولا بناء ولا سياسة ولا تغيير من دونها. لقد استطاعت الثّورة وحدها أن تدفع بالاسلاميّين إلى المقدّمة وأن تجبرهم على احترام شروطها فى الواقع وفى المآلات. لقد كانت الثّورة مفاجأة للإسلاميّين ولم تكن عليهم وليقل مناوِئوهم ما يقولون، فلن يكون لهم القول الفصل، لقد ألقمتهم الثّورة حجرا ولكنهم يستكبرون.