وجهة نظر

بقلم
الهادي بريك
ماذا خسرت تونس بإعدام الحركة الإسلامية ؟
 بمناسبة مرور سبع عجاف على إنطلاق شرارة الرّبيع العربي يطيب لي أن أزفّ شآبيب أمل لا يموت إلى كلّ إنسان حرّ. نخطئ عندما نعدّ أن ثورة 2011 هي الضّربة القاضية بيننا وبين قوى القهر محليّا ودوليّا أو أنّها ستمضي بلا إنتكاسات أو أنّها ستلغي قانون التّدافع الذي به تولد الحركة ثم بالإصطفاء ينتخب الأصلح.
كيف إستحالت الأقحوانة غثاء أحوى؟
المشاركة الشّعبية في البلاد العربيّة التي جدّت فيها الثّورة لم تتجاوز جزءا واحدا من عشرين جزءا. الدّولة العربيّة دولة قويّة تعتمد الآلة الإرهابيّة وحالة الصّمت المفروض والتّبعيّة الخارجيّة ثم على الإنسحاب الشّعبي. لم تعمّر الخلافة الرّاشدة عدا ثلاثة عقود فحسب ثم هيمن الأمر حتّى إجتراح نظريّة الشّوكة والغلبة والسّيف وإمامة المفضول بما داس على الشّرعية السّياسية. ما زلنا نعيش على وقع مؤتمر «يالطا» الذي نحت إستحقاقات الحلفاء ضدّ المحور. إنهيار المنظومة الإشتراكيّة حطّم التّوازن الدّولي وجعل الولايات المتحدة الإمريكيّة تنفرد بالقيادة. صعود الصّحوة الإسلاميّة إلى سقوف سياسيّة كبرى سيؤجّج الحرب الباردة السّاخنة. أنّى لربيع عربي أن يزهر وخلاصة وضعنا كما عبّر عنه «برهان غليون» في كتاب له منذ عقود أسماه ـ وأصله بالفرنسيّة ـ : «الدّولة ضدّ الأمّة؟» تظلّ للثّورة العربيّة حسناتها إذ أيقظت الأمل و كسّرت حاجز الخوف وجرأت الإنسان على المقاومة. فتحت الثّورة باب الأمل ولكن طريق العمل طويل وشاقّ.
 تونس المتفردة تؤنس مجددا
تونس بلد صغير وناء. فرادة تونس بإحتضانها أوّل معلم علمي أي الزّيتونة المعمورة ولولا أنّ بورقيبة طمسه لدوّن المؤرّخون اليوم أنّ تونس هبة الزّيتونة. من رحم ذلك الصّرح العلمي الأعظم ولد أبو الفقه السّياسي «عبد الرحمان إبن خلدون» واللّغوي الأكبر «إبن عرفة» والفقيه الأصولي الأعظم «إبن عاشور» وغيرهم كثير. فرادة تونس في التّنوع الفكري الذي جعل المنتظم الثّقافي والسّياسي معا يحتضن الشّيوعي والإسلامي والقومي واللّيبرالي والدّستوري وغيرهم. ذلك التّنوع عمّر نصف قرن كامل دون أن تهرق قطرة دم واحدة عدا مرّة واحدة في الجامعة وللجامعة مناخها الخاصّ. إذا كان لا بدّ من مبدإ المقارنة لطلبة العلم فإنّ عليهم أن ينظّروا ذلك التّنوع التّونسي السّلمي بما عليه أكثر البلدان العربيّة التي ما أثمرت عدا التّطرف الوهابي مدفوع الأجر أو التّكلس الذّهني تديّنا تقليديّا أسطورياّ خرافيّا مشكلته الوجوديّة مع الجنّ وليس مع الإنس.
ثورة تونس تحتاج إلى حركة إسلامية
بمنطق المقارنة نجحت الثّورة التّونسية، ويعزى نجاحها إلى عوامل داخليّة وأخرى خارجيّة. من العوامل الخارجيّة أن تونس نائية عن رحم المعركة السّاخنة وأنّ ثروتها الإقتصاديّة ليس فيها ما يغري. من العوامل الدّاخليّة الحصافة التي عليها النّخبة السّياسية التّونسية بصفة عامّة وليس سرّا أنّ أموالا إماراتيّة تتدفّق بغير حساب على بعض الرّموز وأنّ بعضهم وهو في موقع القرار رفض تلك العروض المغرية . حزب النّهضة له الفضل الأكبر في الحيلولة دون مصير كئيب آلت إليه كلّ بلدان الثّورة تقريبا. أكثر الإرهابيين في البلاد العربيّة هم تونسيّون ولا يغفر لنا هذا كآبة الحقبة النّوفمبريّة. 
ما كشفت عنه الثّورة من أزمة قيميّة أخلاقيّة شعبيّة عامّة حتّى إستحالت ظاهرة إجتماعيّة وليست طارئة من الطّارئات. مخّ هذه المقاربة هو أنّ ما تعرّضت له الثّورة التّونسيّة من محاولات دكّ ودحر داخليّة سواء كانت في المنتظم الحزبي والسّياسي والإعلامي والنّقابي أو كانت في العمق الشّعبي إنّما مردّه إلى تلك الأزمة القيميّة الحارقة. مشاكلنا مهما كانت مستعصية نتغلّب عليها بالصّبر والتّكافل وعامل الوقت وتبدّل الموازين من حولنا إلاّ حالقة واحدة وهي حالقة الأزمة القيميّة الأخلاقيّة المستفحلة شعبيّا حتّى أضحى التّونسي ـ إلاّ قليلا ـ هو عنوان الأنانيّة والمادّية والفرديّة لا يبالي بالعدوان والقتل والجريمة وتعاطي المخدرات بيعا وإستهلاكا معا وقطع الرّحم والإساءة للجوار والغشّ والخديعة والكذب والنّفاق لأجل بلوغ مأربه المالي وتحقيق ما يصبو إليه . صحيح أنّ البلاد تعرّضت على إمتداد نصف القرن المنصرم وخاصّة في عهد المخلوع بن علي إلى تصحّر قيمي أخلاقيّ لم تشهده بلاد عربيّة وإسلاميّة والأصحّ منه أنّ خطّة تجفيف المنابع آتت أكلها وزيادة وأنّ إستبعاد الحركة الإسلاميّة الإصلاحيّة من السّاحة أسلم النّاس إلى ذئاب شرسة نهمة جعلهم يشرئبون إلى من « يربح المليون» وغيره من البرامج الفضائيّة التّافهة التي عمّقت في النّاس الأنانيّة القاتلة والمادّية المجنونة. كلّ ذلك صحيح ولكن تبيّن كذلك أنّ الهويّة الإسلاميّة بمركبيها الدّيني واللّساني لم تكن عميقة عمقا موضوعيّا مقاصديّا صحيحا إذ كانت هويّة تقي صاحبها الكفر ولكنّها لا تقيه الوقوع في المزالق الكبرى المخلّة بالكرامة والتي لا تصنع حياة بل تصنع موتا روحيّا. بروز التّيار السّلفي المشوّه بكلّ فصائله المدخليّة والجهاديّة لبّس على النّاس تدينهم وجعلهم في حيرة وفي خوف أيضا. في تلك التّضاريس التونسيّة : منابع مجفّفة + سلفيّة مزوّرة ومدفوعة الأجر سعوديّا + إعلام فاسد مفسد يجرئ على الرّذيلة ويرغب في الجريمة + غياب لصوت إسلامي إصلاحي سلمي .. نشأت الثّورة فكان عليها أن تبادر إلى معالجات قيميّة أخلاقيّة لا بدّ منها حتّى تشيد البناءات الديمقراطيّة والإقتصاديّة على قواعد صلبة ولكن إشرأبت الأعناق كلّها تقريبا إلى مواطن النّفوذ أملا في أنّ إمتلاك ناصيته يسير وسريع ومن هناك ينطلق قطار الإصلاح. وكلّما طوينا عاما حتّى إكتشفنا أنّ الذي يليه أشدّ عجفا. صحيح أنّ الله يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن ولكن الأصحّ منه هو أن إمتلاك ناصية السّلطة لتكون أداة إصلاحيّة أمر يحتاج إلى عقود وفي أثناء ذلك ينشأ النّاشئ في الأسرة والفضائيّة والمدرسة والمعهد والكلّية والإدارة والشّارع على قيم أخلاقيّة فاسدة تصنع منه وحشا كاسرا وذئبا نهما
لماذا تحتاج ثورتنا إلى حركة إسلامية ؟
حزب النّهضة لم يعد حركة إسلاميّة ليس بالمعنى العقدي أو الفكري أو الدّيني، لا مؤسّسة ولا أفرادا ولكن بمعنى الإصلاح القيمي والمعالجة الأخلاقيّة التي كانت تمارسها قبل عقود والتي أثبتت بالتّجربة التاريخيّة المحقّقة نجاعتها في لجم المدّ الشّيوعي الماركسي الذي كان يهيمن على السّاحة الفكريّة والثّقافية والنّخبة كما ساهم في لجم المدّ الأسطوري الخرافي تديّنا تقليديّا مشكلته مع الأولياء الصّالحين وليس مع الفقراء والمحتاجين. 
حزب النهضة إختار طريقا آخر وهو الطريق الأصح رغم أنّ الفراغ الذي تركه خلفه فراغ رهيب. ليس بوسع الدّولة برموزها القديمة حيال الملف الدّيني أن تغذّي الثّورة بالوازع الأخلاقي الذي يعمل على تخفيض معدّلات العنوسة والطّلاق وترذيل الإنجاب والشّذوذ الجنسي والقتل والإغتصاب وتعاطي المخدّرات جهارا نهارا في المدارس الإبتدائية. الدولة الآن ليست في حرب ضدّ التّدين ولكنّها لا ترشده وهو في حاجة إلى مشروع ترشيدي كبير تجهز له مؤسّسات ومعاهد وإطارات وميزانيّات. الشعب نفسه إنزلق في غالبيّة كبيرة منه إلى تلك الأزمة القيميّة الأخلاقيّة الحالقة إذ لم تعد الأسرة هي الصّانع المهمّ في حياة الإنسان ولا المدرسة التي أفلتت من سلطان المعلم.
نحو حركة إسلامية جديدة
الشّوط السّياسي الدّيمقراطي حقّق خطوات ناجحة إلاّ أنّنا أوتينا من الجبهة الدّاخلية التي لا يبنى أيّ مشروع في الحياة إلاّ على أساسها المتين. نحو حركة إسلاميّة وسطيّة معتدلة متوازنة فكرا بل يكون من الأنسب أن تكون تونسيّة قحّة على المستوى المذهبي إحياء لأصول المالكيّة الجديرة بترشيد تديّن مقاصديّ موضوعيّ ثاقب وذلك بسبب فرديّتها الإستصلاحيّة ودون أن يحجب ذلك التّنوع المطلوب سواء دينيّا حقّا وطنيّا لليهود التّونسيين وغيرهم أو عقديّا لمن شاء أو مذهبيّا حقّا وطنيّا كذلك للإباضيّة وغيرهم. نحو حركة إسلاميّة لا سياسيّة بالمعنى الحزبي ولكن الإهتمام بالسّياسة اليوم شرط مشروط لمعالجة الحياة والتّدين نفسه. حركة إسلاميّة مهمّتها العظمى هي نفخ الرّوح القيميّة والأخلاقيّة في مجتمع قطعت أوصاله كثيرا بهويّته اللّسانية والدّينية معا على معنى أنّ تلك الوشائج لم تعد تمنع من تقحم الجرائم العظمى التي ضربت في مؤسّسة الأسرة نفسها فضلا عن مؤسّستي الرّحم والجوار. حركة إسلاميّة لا حزبيّة ولا تنافس على السّلطة ولا تخوض الإنتخابات بإسمها ولا بالوكالة ولا تلغي جهودا كبيرة من مؤسّسات دينيّة وعلميّة رسميّة وأهلية ولا تسيء إلى أحد ولا تبخس جهد أحد ولا تنحاز إلاّ إلى القيم الإسلاميّة المجمع عليها أو إلى تونس وثورتها . 
حركة إسلاميّة تزاول القول الحسن البليغ بما تيسّر لها وتتوسّل إلى التّوعية القيميّة بالكلمة المجردة والفنية بكل صورها المشروعة وبالقلم والكتاب فلا تصطدم مع أحد ولا تكره أحدا وتعمق قيمة التعدد. حركة إسلاميّة لا تمارس الإفتاء ولا تكفير أحد ولا تفسيقه ولا تبديعه. حركة إسلاميّة إصلاحيّة لا سياسيّة ولا حزبيّة ولكن يحسن بها جدا أن تحمي ممّا يليها الإرث المالكي والزّيتوني وتلقّحه بما هو مفيد ووافد. 
الإصلاح عمل جامع والإصلاح الجامع لا بدّ له من أسّ قيمي أخلاقي لا تتولاّه الأحزاب ولا حتّى الدّولة بل يتولاّه المجتمع. المجتمع كتلة لا يمكن أن تقوم بوظائفها إلاّ بتفرّغ بعضها لمثل هذا وبعضها الآخر لغيره. ذلك ما يمكن أن يساهم في إنقاذ تونس وثورتها وزيتونتها وإرثها المالكي عسى أن تنقشع غمامة التّوازانات المنخرمة في أجل محتوم.