تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
أضواء الخطر
 لم أكن يوما كاتبا محترفا ولم أتعود الكتابة حسب الطلب، بل تعودت الانصياع لخاطري تحت وطأة ضغط ما حولي ألتقط ما يفيض من فوهة القِدر الذي يغلي، فأرتب البخار والهباء المتناثر في تمتمات حسب الطّعم والرّائحة. فإن وعيت متى وكيف بدأت قلّما عرفت كيف ومتى أنتهي، ولا يكون ذلك إلاّ بعد قراءات ومراجعات عدّة. ولا شيء يشجّعني على نشر بنات أفكاري إلاّ براءتها والصّدق الذي فيها.
اليوم أجدني، أستجيب لدعوة رئيس التّحرير للمشاركة في إحياء ذكرى ثورة 14 جانفي بتمتمات حول الثّورات العربيّة أو ما يسمّى لدى البعض بالرّبيع العربي. وظننتني غير مبال بما اقترح عليّ لمّا كنت بصدد لملمة أفكاري لإعداد مساهمتي بالطّريقة التي تعوّدت عليها و«الرّتوش» المطوّل الذي يلي حتّى يستقيم بنيان النّص بالقدر الكافي وأجدَ نفسي فيما انتهيت إليه. ولكن صدى كلمة «ثورة» تردّد ولزمني وحرّك الأعماق الدّفينة فيّ وخلخل الجبال الثّقيلة على نفسي، فدفعني إلى الكتابة في الموضوع الذي بين أيديكم.  
تجري الأحداث بسرعة مفرطة، سرعة الدّمار الذي ينسف كلّ الجهود وكلّ الآمال. ولكن ماذا بعد سكون البراكين، إلاّ تتململ؟ وهذا القِدر الذي انسدّ صمّام أمانه قنبلة موقوتة مآلها الانفجار إذا لم يتمّ تنفيسه. هل حملت كلمة الثّورة، بما حصل إلى غاية هذا اليوم، المعنى الذي جعلت له ؟ هل حافظت هذه الكلمة على المعنى المتعارف عليه قبل 14 جانفي 2011 أم أنّها أصبحت تحمل دلالات أخرى كان أجدر بنا بيانها واستبيانها.؟
 لا أظن حقّا أن القارئ الكريم لم يتفطّن كم تعقّدت المسائل وتداخلت المصالح وكم تلاعب الخسيس بصدق الفاضل ولا كم ضاع الصّدق في ثنايا المكر والكذب. على هذا القدر وأكثر، كرهت أن يحكمني صادق نبيل رهيف الحسّ لا يكذب، ولو كان بيدي، لاخترته قويّا شديد البأس لا تأخذه رأفة في حقّ البلد. أانطلت على القارئ الفاضل خدعة هذا الرّبيع العربي؟ هل انقلبت الفصول حتّى نعيش الرّبيع في كبد الخريف اليائس المصفرّ والبائس المغبر؟ هذه الصورة السّائدة المخيفة قد تنطبق على دول أكثر من أخرى ولكنّها تنطبق جيّدا على الوطن العربي باعتباره كيانا واحدا يتأثّر ويتداعى بكامله بالسّهر والحمى لاعتلال أيّ جزء منه. ألا يكفيه عبء قضيّة القدس جرحه النّازف منذ عقود طويلة اختلط فيها الأسى بالزّغاريد؟
 تونس فاجأت الجميع وألهمت صادقي العزم حين بقيت ثورتها نبراس أمل رغم صعوبة الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة. «حرّية، عدالة وكرامة وطنيّة» شعار صدح من تونس منذ 14 جانفي 2011 ليتردّد صداه هنا وهناك وترتعد له أركان السّلطة بكلّ البلدان العربيّة. لكنّ الثّمن أصبح باهظا أكثر من كلّ التّوقعات حتّى دخل الشّك. هل يستحقّ هذا كلّ ذلك، فتتصدع وتتهاوى أركان الدّولة؟.
الحرّية وحدها تستحقّ كلّ التّضحيات التي دفعتها الشّعوب لدحر الاستعمار والرّقي إلى الاستقلال وأبرزها المليون شهيد في الثورة الجزائريّة. أمّا الكرامة تستحق أكثر من ذلك بكثير، فهي أغلى ثمنا والدّليل ضياعها بل غيابها بكلّ البلاد العربيّة ولا يعادلها ريالات ولا بترو دولارات. والدّيمقراطية، هذا النّجم الساطع الذي يرنو إليه الجميع لم يدفع ثمن إبعادها إلاّ الحكّام ولكن من جيوب الفقراء والمحتاجين. 
بعد سبع سنوات من اشتعال فتيل الثّورات العربيّة، هل من عاقل يوقظ الغافلين فيرشدهم أنّ الثّورات في العقول ثورات فكر وعلم. هل من ثائر على جهل بعلم وعلى فقر بعمل أعنّاه على حرثه؟ هل من ثائر على ظالم شددنا أزره بشدّة الحجّة والبرهان حتّى يستقيم عدله؟ كل الثّورات تستحقّ اسمها وأسماها العفويّة رادعة للظّلم وناشدة للكرامة. وثورة بلادي، ألم تبدأ عفويّة لنصرة مظلوم ودرء إهانة ؟ أم أنّ التّونسي تعوّد تشغيل أضواء الخطر على لسان الكاتب والمفكر توفيق بن بريك، أي تعوّد تشغيل غمازات السّيارة الأربع لا لإسعاف مريض ولا لنقل حامل في حالة وضع، بل فقط للوقوف في مفترق الطّرق لاقتناء علبة سجائر. 
هذه الصّورة المقتبسة حقّا تناسب التّونسي قبل وبعد الثّورة ولكن لا يمكنها أن تنسينا شهداء هذه الثّورة ولا وكم على قارعة الطّريق استباح جاهل شرف عالم جليل. ولا ضحايا الإرهاب ولا الخسائر الأخرى التي تكبّدها كلّ التّونسيين جراء طمع الانتهازييّن والمهرّبين وتجّار الحروب إذا ما نظرنا إلى ما حصل بالعراق ويحصل بسوريا واليمن وليبيا .
كلّ ثورات بلادي بدأت عفويّة وتستحق اسمها. ولكنّها انتهت إلى تبديل مواقع والكلّ يهان في إنسانيته. هذه فوضى ولكنّها ألا توحي في النّهاية بحراك داخل هذا القطر العربي وأنّه دليل حياة لا موت ودليل وعي لا تأتي من ورائه إلاّ تلك الكرامة الجوهرة المفقودة؟ 
الثّورة لا تستحق اسمها إلاّ لما يكون هدفها الوحيد المنشود « الإنسان»، وشرط أن لا يسكب عصير الكرامة شرابا يُسْكِر المراهقين عطشى السّلطة والتّسلط.