إثراء للنقاش

بقلم
سامي الشعري
في الثورة معنى
 أحببت أن أنبّه أوّلا أنّ ما يمثل أمامكم الآن ليس إلاّ الجزء الأول من مقال حال طوله بينه وبين نشره كاملا. لذلك سوف يقتصر الأمر في هذا الموضع على «عوائق» تدبّر المعنى، وربّما ينشر الباقي (والذي رسم تحت عنوان «في الرّقائق») معالجا بعض مقتضيات استدعاء «المعنى» في/ حول الثورة.
«إنّ الحدث قد يضيء ماضيه الخاصّ، ولكنّه لا يمكن قطعا أن يستخلص منه» 
هناك أمر ما مؤرّق، أو هناك حدث، أمر ما وقع ولكن وقوعه كان «واقعة»، وقعا احدث منعطفا ومنعرجا. لم يعد بالإمكان إذا أن «نقابله» كموضوع نقسمه ونؤلف عناصره من جديد، حسب تقدير اعتباطي تظهر فيه تحكمية الذّات دون ضرورة ما تسوق السّياق، دون خيط ناظم هاد إلى سواء السّبيل. لعلّة ما صار ما وقع حدثا، وهناك أمر ما جعله متميّزا لا يستخلص ممّا سبق لأنّه لم يكن ليتوقع (إلاّ في أذهان الايديولوجيّين الذين تبدو الأحداث أمامهم شفّافة يقرؤونها طولا وعرضا وعمقا دون حائل). بين الشّتات الذي لا ضرورة له، وبين ضرورة التّعقل التي تنظّم هذا «الشّاووش» يكمن تدخّلنا دائما. لن ندّعي إذا أنّنا سنكتشف ما غاب عن الآخرين لحدّ الآن، وأنّ التّاريخ انتظرنا لنقدّم له هذا المختفي ونجلّيه أخيرا لمن يخطب ودّ الحقيقة.
أمّا وأنّ قدر الله نفّذ ( أمر ربّما قد نستطيع بيانه في آخر التحليل)، ولم يعد لنا من كبير همّ -إلاّ ما يقوم به بعض قطّاع الطّرق- بتثبيت أركان، بتمكين الثّورة. يبقى للثّورة ارتداداتها: لقد أريد عمليّا من هذا اللّفظ أن يعبّر عن «ثورة مضادّة» (وما هي بالثّورة بل نكوص عنها)،أو عن فشل محتمل لها، لذلك كان على هذا الذي «في ذاته» أن يصير «بذاته»، أن يعي جدّته ومكمن التّوتر والطّرافة فيه، حتّى لا يندرس في غياهب «المألوف» والخطاب الشّعاراتي الخالي من المضمون. وجب إذا أن يتّخذ هذا «الحدث إحداثيّة لقراءة ما حدث»، لاحقا كان أو سابقا، لأنّ الذي تفعله الثّورة وأحرى بها أن تفعله هو أن ترفع عن «الأعناق أغلالها»، أن نرى بطريقة أخرى، حيث لم يسمح لنا بهذا قبل ذلك.
في العوائق
هل الثّورة «حدث قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه»؟ لعلّ الاختراق الأهم للثورة كرأسمال رمزي هو إعادة تشكّل «النظّارة»، أي لا فقط لزاوية النّظر بل لإمكانه، أي أن يعاد للنّظر بما هو فهم وتفكّر وتشخيص مقامه. ما زلنا لحدّ الآن من وعي «دودة الأرض» كما يقول هيغل، وعي «الهنا والآن»، الذي لا يحفل إلاّ بالمنفعة والمصلحة، وهو الذي شكّل في رأيي المصدر الأول للإزعاج الذي أصاب الثّورة عبر منعرجاتها وتعرجاتها: « أمّا بداية الثّقافة والخروج على حاليّة الحياة الجوهريّة فإنّما يجب فيهما تحصيل الأوائل والأنظار الكلّية، ومجاهدة الذّات وحدها في الارتفاع إلى فكرة الأمر بالجملة، فلا يقلّل المرء في ترسيخها أو نقضها بالبيّنة، ويتعقّب الفيض المتعيّن والثّري بحسب التّقييدات، فيعلم كيف يأتي فيه قولا فصلا وحكما حاسما» « تناظر ذلك القضاء المجاهدة المتّصلة...في انتزاع البشر من الانغراس في الحسّي والمشترك والفردي، وتصويب أبصارهم قبل النّجوم، وكأنّهم إذ تناسوا الالهي، على وشك التّنعم مثلهم مثل ديدان الأرض بالغبار والماء» «...فالمعنى منغرس على قدر كبير في الأرضي، حتّى أنّه يلزم عين القدر من العنف لكي يرتفع إلى فوق. ويظهر الرّوح على قدر من الفاقة حتى أنّه على ما يبدو لا يتوق بغية ارتوائه-مثله مثل الضّارب في الصّحراء يتوق إلى قطرة ماء-إلاّ إلى الشّعور الخافت بالالهي بصفة عامة، فحيثما تتيسر كفاية الرّوح يقدر عظم ضياعه» (هيغل، فنومينولوجيا الروح، الاستهلال) 
 إنّ مقام (أو وضع) الحاليّة (أو المباشرتيّة)هو المقام الغليظ من الكينونة والموضوعيّة العارية من كلّ تفكير، والذي يسبق انطولوجيا التّوسيط والتّفكّر. «المباشرتيّة» تبقى دون ما تتّسم به «الحاليّة»من معاندة للمفهوم بل تغييبا للوعي، فهي تتهدّده في كلّ إظهار من إظهاراته حتّى تكاد تحبس أنفاسه وتذهب بما يسعى فيه من تعين، راجعة به القهقرى إلى أدني أدراج الكينونة. 
إن الذي لا تفور فيه دماء الثّورة لا يمكن أن يكون له حدس حولها: نقول ذلك ونحن نقصد:
* أنّ الفوران فعل، حال دائمة وليست عرضيّة
* نحسب أنّ «قول» الثّورة ليس تأملا، ولا هو بالتّمثل، وإنّما هو حدس يقرب من الدّلالة الصّوفية، أي هو الشّهود، بل هو الحلول ليصير «هو هو»، فليس الأمر بالموضوع البرّاني الذي يمكن تفكيكه وتركيبه وإنّما هو انغراس فيه إلى درجة أن يصير الحال هو العقل والعاقل والمعقول، وذلك يتطلّب فعل «المتعبّد» الذي لا يكاد يرى أيّ فارق بينه وبين الذي يناجيه، أي فاصل (وجودي/ نظراني) يفصل بينهما. 
إنّ الثّورة تحتاج إلى صيغة ما مطابقة لمواجهة نفسها عندما ترتئي قبالتها بعضا من مآزقها، يعنى أنّ هناك أمرا ما يدفعها إلى أن تراجع ما رسمتها قدما في مسارها. إنّ ذلك قد يعتبر نوعا من تعطيل «مسار الثّورة»، بل حتّى نوعا من اللّغط «الفاضي» الذي يصنّف في الأخير في خانة «الثّورة المضادّة». لكن لأنّ المأزق حقيقي، ولأنّ التفكّر فيه ضروري، فإنّ تعمّد إهماله والإصرار على ذلك، بل واستبعاد المؤهّلين لذلك بات يشتغل –موضوعيّا هذه المرّة- ضمن خطاب مقابل لـ «مزطولي» الثّورة، هذا النّمط من الوعي الذي كان له وجاهة ما في لحظة الانبجاس والانبثاق و«الثّوران»، ولكنّه صار وعيا مغتربا لا يكاد يعي ما يفعل، يصاب بالتّشظي والشّقاق الدّاخلي، بل قد تنجرّ عنه أشكال من الانفلات والنّزق تسرب في ظلال المدّ الثّوري أو باسمه، ولقد حدث ذلك فعلا مع بعض من قطاعات شبابنا الذين انخرطوا في الدّواعش أو في سلوكيّات منحرفة (زطلة، حرقة...). لا بدّ إذا إن يجد هذا الانثناء وجاهة ما باعتباره لا مقابلا أو معطلا، بل من مقتضيات الثّورة أو أحد مراحلها أو تحقّقها. لعلّ ذلك بعضا من مقتضيات أن تصير الثّورة معنى لا مجرّد حراك (ستختزل فيما بعد في كونها انتفاضة أو انقلابا..). لم تفتقد الثّورة في هذه الحالة مشروعيّة وقوعها، بل مشروعيّة تعقّلها أي حضورها كمعنى، ومواصلة هذا الحضور في الذاكرة.
إن المتحذلقين، «المستثمرون في الثّورة» (بالمعنى المغالط للّفظ، وذلك دائما كان دورهم، بما أنّ الذي يتحدّث عن الثّورة وتوزيعها هم الذين يقتلون شروط إمكان إنتاجها) يريدون من الثّورة أن تكون «هاجسا دائما»(حيث لا يمكن أن يكون فعل الثّورة إلاّ حينيّا)، يريدونه سهم تقويض دائم، أي فعل رفع لكلّ مشروعيّة، أي في الأخير فعل فوضى وانفلات، ويكون الرّهان من كلّ ذلك –حتّى ضمن خطاب الثّورة كما سنبيّنه- هو إعادة استدعاء الاستبداد عينه.   
إن هذا الذي دُعي من طرف البعض (التّيار الماوي) بالثّورة الثّقافية لم يكن في الأصل سوى فعل سلطويّ لاحق –ولكنّه في الحقيقة مشرّع ومبرّر-، يكون أداة رمزيّة لإخضاع المثقّفين وإنتاج أنساق نظريّة وتثبيت رؤى وتحييد أخرى بالعنف، حيث يصير المجال لا مجال الحجّة والإقناع العقليين، وإنّما هو مجال الغلبة والانتصار والإخضاع. إنّهم لا يتصوّرون الأمر، إلاّ هكذا حيث لا مقام للآخر إلاّ باعتباره وسيلة لا غاية، وعندها تتّخذ الثّورة هنا –وهنا المفارقة التي تحيل إلى ضرورة الوعي بالمغالطة التي تسكنها- دلالة معاكسة لماهيتها بما هي فعل حرّ وطوعي ومحرّر ومقاوم لهيمنة السّلطة. إنّ «الثّورة» بهذا المعنى المغالط  يستحوذ هو ذاته على آخر قلاع الثّورة وشرط إمكانها وهو قدرتنا على قول لا، على الفعل ضدّ شتّى أشكال سحق الإنسان. 
عندما تلتهم الثّورة أحوازها، نكون أمام مظهر مزر لهذا الذي أنتج وسوّق وحكي عنه باعتباره «ثورة»، ولعلّ من الغريب –الذي ارتفعت عنه بعد الآن غرابته-إنّ كل الانقلابات التي شهدتها المنطقة وغيرها كانت تكني نفسها ثورة، لإضفاء الشّرعية على فعل يراد له أن تمتد بعض نتائجه في الزّمن. لعلها من المفارقات إذا أن يؤول أحد –بل أعلاها اندفاعا-أشكال التّغيير الاجتماعي إلى عكسه، بل إلى نفيه، بل إلى نفي إمكانيّة مقابله وحتّى إمكان التّفكير فيه. ذلك يعني أنّنا، في المجال الإنساني البين-ذاتي، ليس هناك منطقة للفعل تكون نهائيّة، نقطة «ارخميدس» ثابتة يمكن أن نؤسّس عليها نظريّا ومن ثمّ أخلاقيّا لأنساقنا المعياريّة، بل الكلّ قابل أن يطوّع، قابل لأن يوظّف وأن يوجّه، وعند ذلك نقف على مشارف نتيجتين ممكنتين: إمّا أن ننفي انطولوجيا أي إمكانية لأي قيمة في ذاتها، ونصير إلى عدميّة قاحلة تكون في الحقيقة تزكية لهذا الذي يجري على ساحة الفعل السّياسي الاجتماعي، هو عالم «كلّ شيء ممكن» (الأساس النّظري لكلّ نظم كلياني كما تقول حنّا ارندت)، أو أن نعيد النّظر في هذا الاله الرّمزي، في هذا الصّنم اللّغوي، في هذه الكلمة التي اتخذت ككلمة سحريّة، -تكشف عن دلالتها بذاتها ولذاتها دون توسّط، وكأنّها ستحيل تحليليا إلى قيم الحقيقة والحقّ والعدل والفضيلة-، وعندها يكون العمل الثّوري الأبرز والأولى في هذه اللّحظة هو استخلاص ما هو ثوري حقّا فيما يتداول –إعلاميّا/ سياسيّا-باعتباره «ثورة»، وتخليص هذه «النّواة الماهويّة» –بالتّعبير الفنومينولوجي- من تعالقتها التي شابتها وشوّهتها. عندها، كما قلنا، وكما هو ديدن كلّ فعل نظري بعد أيّ ثورة (لنتذكّر الثّورة الكوبرنيكيّة) هو عمل نقدي ، يكون في الآن نفسه «تأسيسا وتقويضا».
حين تفقّر أدوات التّمعن والتّفكر، ويتمّ الاستحواذ عليها من طرف السّفسطائيين، يكون أمامنا آنذاك جهد مضاعف: لا فقط اظهار هذا المختفي (هذا الذي تمّ إخفاؤه)، بل وكذلك استعادة الحقّ في القول، أي أن نستعيد التّعقل والرّوية بما هو أعدل الأشياء توزّعا بين النّاس.عندها، يمكن أن نرى بطريقة مختلفة، وذلك بعض من معاني الخروج من كهف الاستبداد «إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون». عندما نولّي وجهنا شطر القيمة والمعنى، عندها نسكن أرضا غير الأرض، وعندها يكون مدار الصراع أمرا نرتضيه ولا يرتضى لنا –بل يراد دائما التلفت عنه-، وهو الفكرة والمعنى والمضمون.