بالمناسبة

بقلم
النوري الجبالي
الصراع الايديولوجي استمرار للفوضى الخلاقة بوسائل اخرى
 من يتأمّل واقع الأمّة الإسلاميّة بعد مرور سبع سنوات من ثورات الرّبيع العربي انطلاقا من أرض الزّيتونة وإطاحتها برؤوس الاستبداد والفساد والعمالة يكتشف استفاقة النّظام العالمي من حالة الصّدمة التي كان يعيشها النّاتجة عن فجائيّة اندلاع الثّورات بالمنطقة وارتداداتها على المستوى الدّولي ليتحرّك للحدّ من الآثار السّلبيّة لهذه الثّورات على مصالحه الاستراتيجيّة والتّخفّي وراء التّصريحات المعدّة للاستهلاك الإعلامي الدّاعمة للدّيمقراطيّات النّاشئة باعتبار أنّ المواقف الحقيقيّة لرموز النّظام العالمي تجاه الثّورات لا تنطلق بناء على مبادئ ولكن بناء على مصلحة تدور وتتغيّر و تتباين من بلد الى بلد آخر، فالولايات المتّحدة الأمريكيّة على حدّ قول المفكر نعوم تشومسكي:«تستعمل كلّ ما في وسعها لمنع ديمقراطيّة حقيقيّة في العالم العربي والسّبب واضح وهو أنّ الغالبيّة العظمى من شعوب المنطقة تعتبر الولايات المتّحدة مصدرا أساسيّا لتهديد مصالحها».   
 وللمحافظة على المصالح الاستراتيجية لأمريكا وحلفائها وخاصّة محورها الرّئيسي المتمثل في حماية أمن الكيان الصّهيوني والتّسويق للتّطبيع السّياسي والثّقافي والاقتصادي معه (وما إعلان رئيس الولايات المتّحدة الأمريكية القدس الشريف عاصمة أبديّة للكيان الصّهيوني ونقل مقرّ سفارة دولته إليها إلاّ دليل على ذلك) إضافة إلى وضع اليد على ثروات ومقدرات الأمّة وإدامة الهيمنة والقيادة الأمريكيّة للعالم، فإنها تستنجد بتنفيذ استراتيجيّة ما يسمّى بالفوضى الخلاّقة كمصطلح اطلقته «كوندا ليزا رايس» منذ سنة 2005 لجعل المجتمع الإسلامي والعربي مختبرا لتجارب خطيرة في تمزيق المجتمعات وتفكيكها وإضعاف عناصر قوّتها ثم إعادة تركيبها طبقا للمصالح الأمريكية الجديدة، هذه الاستراتيجية تتنوّع وتتغيّر وتتشكّل طبقا لخصوصيّات كلّ منطقة في محاولة لتطويع وإرباك أو احتواء الثّورات وجرّها إلى الانحراف عن مسارها الطبيعي والتّاريخي، وبعد أن كان استنبات الفوضى الخلاّقة يتمّ بالتدخّل العسكري المباشر، أُوكلت مهمّة تنفيذ هذه الاستراتيجية الى فاعلين سياسييّن واجتماعيّين وإعلاميّين وحقوقيّين محلّيين بوعي أو بدون وعي، فتجربة الفوضى الخلاّقة MADE IN TUNISIA  تميّزت منذ سنة 2011 بتعطيل مؤسّسات الانتاج وقطع الطّرقات وتفجير تسونامي من الإضرابات ومحاولات الانقلاب النّاعم على الإرادة الشّعبيّة وصناديق الاقتراع مرورا بتنفيذ عمليّات الاغتيالات السّياسيّة وصولا الى محاولات تعطيل تصريف المبادئ والقيم ومنظومة الحكم التي انبنى عليها دستور جانفي 2014 والعمل على عدم استكمال بناء المؤسّسات الدّستورية بتعطيل الباب السادس منه خاصّة والمتعلق بممارسة الحكم المحلّي. أمّا تجربة الفوضى الخلاقّة MADE IN LYBIA فقد تميّزت بتأجيج الصّراعات القبليّة والايديولوجيّة والاحتراب الدّاخلي وإضعاف وجود الدّولة أصلا عبر التّرويج مثلا لوجود سوق للعبيد بليبيا. وفي تجربة الفوضى الخلاقة MADE IN EGYPT تميّزت بتنفيذ الانقلاب العسكري وإسقاط الشّرعية الانتخابيّة.
 وأمام الفشل المؤقّت لأنموذج الفوضى الخلاّقة بتونس بفضل الحكمة والرّشد والواقعيّة السّياسيّة للشّيخين راشد الغنوشي والباجي قائد السّبسي ونباهة ووعي وذكاء الشّعب التّونسي والحضور الواعي والفعّال للمجتمع المدني ممّا أهل الثورة التونسية باستحقاق بأن تكون الاستثناء العربي حيث رشّحها المفكّر «فوكوياما» للنجاح في تثبيت أركان التّجربة الدّيمقراطية. تتحرّك اليوم دوائر القرار الدّولي والإقليمي لمحاولة حبك خيوط مؤامرة جديدة لإجهاض المسار الانتقالي والارتداد على أهداف الثّورة التّونسية انطلاقا من الخارج عبر اختلاق معركة الطّائفية السّياسية والصّراعات المذهبيّة اللّغوية والدّينية والجهويّة والجنسيّة والإيديولوجيّة والعرقيّة لتكون بالتّالي هذه المعركة  استمرارا للفوضى الخلاّقة بوسائل أخرى. 
يقول علي شريعتي «اذا أردت أن تخرّب ثورة، فقط اعطها بعدا طائفيّا ودينيّا وستنتهي الى هباء» خيوط تكشف عنها رهان البعض على محاولة فرض نموذج مجتمعي وخطّ سياسي بالقوّة الإعلاميّة وبضغط الشّارع وبالاستثمار في دماء الأبرياء  كبديل عن خيــار الإرادة الشّعبية المستمدّة من صناديق الاقتــراع مع استدعاء خلفيّة الشّحن الطاّئفي بأشكاله المذكورة سابقــا والاستقطاب الايديولوجي المستمدّة جذورهما من أحيــاء الأحقاد التاّريخيّة وما ينتج عنـــه من تبرير لظاهــرة التّكفيــر والإقصــاء وما تبيحه من شرعيّــة إراقة الدّماء وتفكيك الوحدة المجتمعيّة والتّوافق السّياســي لتمثّل في الحقيقــة مظهرا من مظاهر توظيف النّظام الدّولي  للاختلافات الايديولوجيّة كأداة لتنفيذ المخطّطات التّقسيميّة للواقع الاجتماعي والسياسي من أجل تعميق الفجوة بيــن أبناء البلد الواحد والتعبئـة النّفسية للحقد والعداوة منعا للتّقارب والوحدة بين أبناء هذا الشّعب ولخلق ذهنية «سايكس بيكو» بنسخة جديدة لا لترسم الحدود الجغرافيّة بين الدّول بل لترسم الحدود بين عواطف وعقول ومشاعر أبناء الشّعب الواحد والقوى السّياسية وقوى المجتمع المدني ومن ثمّ إلهاءهم عن الاهتمام بمعركة تكريس قيم الحرّية والعدالة والكرامة واستقلاليّة القرار الوطني والسّيادة على ثروات هذا البلد وخيراته وتفويت الفرصة على الشّعب بأن يرتقي الى مستوى الإنتاج المعنوي والفكري والعلمي والثقافي الذي يمكّنه بدوره من تحقيق الانتاج الاقتصادي واستقلاليّة القرار السّياسي. 
هذه المعركة لا يمكن كسبها إلاّ في إطار الحوار على قاعدة مشاريع اجتماعيّة وتنمويّة واقتصاديّة لا على قاعدة الأطروحات الايديولوجيّة وفي إطار التّعايش المشترك وتعزيز التّوافق الوطني الواسع، فالقضية عندنا كما يقول مالك بن نبي «منوطة أوّلا بتخلّصنا ممّا يستغلّه الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته من حيث نشعر أو لا نشعر وما دام له سلطة خفيّة على توجيه الطّاقة الاجتماعيّة عندنا وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال ولا ما في حرّية مهما كانت الأوضاع السّياسية».