تحت المجهر

بقلم
رياض الشعيبي
الربيع العربي في ذكراه المتجددة
 في الذكرى السابعة للربيع العربي يبدو المشهد العام في تونس وفي المنطقة العربية غارقا في فوضى الأحداث المتلاطمة على شطآن صخريّة تتمنّع أمام هدير الأمواج الثّائرة. فبغض النّظر عن الفوارق الطّبيعية بين مختلف المسارات، تتأكّد اليوم حدّة المعركة بين قوى التّغيير وقوى المحافظة، التّغيير السّياسي والاجتماعي والثّقافي بما يرتقي به إلى مستوى التّغيير الاستراتيجي، وقوى المحافظة التي تتعلّق بشعار الاستقرار وتتقوّى بلوبيّات المصالح التقليديّة وشبكة العلاقات الدّاخليّة والخارجيّة التي تشكّلت طوال تاريخ دولة الاستقلال.
ففي تونس مثلا وبعد سلسلة من التّحولات في المشهد السّياسي استقرت في النّهاية عند تناقض جوهري بين قوى اجتماعيّة وسياسيّة تعتبر الانتقال الديمقراطي أداة للتّغيير المجتمعي، يجعل من تحرير الإرادات وترسيخ الدّيمقراطية السّياسية مدخلا لإعادة التّفكير في منوال التّنمية وترتيب الأولويّات الوطنيّة وفقا للمتطلّبات الاجتماعيّة وطموح الأجيال الصّاعدة. وبين تيّار سياسي حريص على إنجاز تعاقدات أفقيّة وتسويات تتعايش فيها المصالح وتتوافق فيما بينها. ودون البناء على أرضيّة سياسيّة تستند لشرعيّة دستوريّة أو لمفهوم واضح عن الحقّ والعدل والصّلاح، فإنّ براغماتيّة هذا المسار تجعل مخرجاته أهمّ من المبادئ التي يمكن أن يقوم عليها أيّ مشروع سياسي، بل وفي واقع الحال يتقدّم هذا التّوافق على حساب ليس فقط مفاهيم الحكم العادل والرّشيد ولكن بتغذية الفساد السّياسي وتكريس الانفصال بين مجتمع الحاكمين ومجتمع المحكومين.
ورغم أنه بات واضحا تداخل المصالح الداخلية والخارجية التي تتصدّر الثّورة المضادّة، إلاّ أنّ العلاقة الإشكاليّة بين الدّاخلي والخارجي لازالت مستحكمة. إذ يبدو من وجهة نظر أولى أنّ القوى الخارجيّة كانت مستعدّة للقبول بالتّغيير الذي رفعت شعاره الشّعوب التي ملأت الشّوارع، لكنّ أصوات الاستغاثة التي تعالت من حناجر بعض قوى المحافظة والجمود هيّأت الأرضيّة لاستدعاء التّدخل الخارجي بل والتّرحيب به. البعض يفسّر ذلك بالاختراق الفكري والثّقافي الذي يشقّ النّخبة، والبعض الآخر بتداخل المصالح الاقتصاديّة بين البورجوازيّة التّقليديّة ورأس المال الدّولي، وآخرين بالتّوزيع الدّولي لمناطق النّفوذ وتثبيت خرائط الهيمنة على المنطقة. من زاوية أخرى فإنّ دولنا التي لم تكن بمنأى عن التّدخل الخارجي منذ القرن التّاسع عشر، لا يمكن أن نتخيّل تغييرا تعيشه بهذا الحجم دون الاصطدام بإرادة خارجيّة لوضع اليد على هذا التّغيير ومحاولة التّحكم في وجهته. لذلك كان اعتصام القصبة واحد ينادي برفع الوصاية الخارجيّة على الثّورة التونسيّة ويرفع شعار الاستقلال الثّاني في إشارة واضحة لاستعادة القرار الوطني التّونسي.
وبمتابعة تطور مسار الأحداث منذ الشّرارة الأولى لاندلاع الثّورة التّونسيّة، نتوقف عند محطات مهمّة لهذا التّدخل الخارجي الموجّه للمسار السّياسي في البلاد. ولأنّ المجال لا يسمح بالتّفاصيل نشير فقط إلى ثلاث حقبات: - دعم المسار التّأسيسي والتّأثير فيه من خلال تأطير العمل التّشريعي واحتواء حكومة التّرويكا الأولى، - التّدخل في الأزمة السّياسية صيف 2013 وقيادة المفاوضات بين النّهضة والنّداء وفرض خيار حكومة التّكنوقراط، -وأخيرا جاءت ترتيبات ما بعد انتخابات 2014 لاستكمال اتفاقات اجتماع باريس بين الشّيخين وما تلاه من اجتماعات تنسيقيّة. 
لقد لعبت السّفارات أدوارا مباشرة في هذا التّدخل كتلك التي مهّدت للاستعمار الفرنسي مع «أحمد باي» ثم مع «الصّادق باي» ومن تلاهما وصولا إلى «لمين باي». كما كان لمراكز الدّراسات تأثير هام في توجيــه صانع القــرار الدولـــي حيث تحوّلـــت الثّـــورة من قطيعــة سياسيّــة واقتصاديّــة مع القديـــم إلى انتقــال ديمقراطــي يستصحب القديــم لإعادة بناء الحديث. 
ولأنّ التقدير السياسي عقلاني بطبعه وبعيد عن الانفعالات الشخصية أو أي مشاعر سلبيّة تؤشّر على نوع من الحقد الايديولوجي، فقد كان السّؤال الرّئيسي: هل يمكن بالفعل أن يساهم القديم في بناء شيء جديد مع احتفاظه بخصائصه القديمة ؟ 
في الحقيقة حجم الاحباط والشّعور بالفشل الذي يسري في الواقع كفيل لوحده بالاجابــة عن هــذا الســؤال. فمسار بناء النّظام السّياسي الجديد لم يصطدم فقط بغياب الرّؤية والمنهج ولكن أيضا بالفشل في زرع الأمل لجيل ربّمــا لم يعد باستطاعتــه أن يفجّــر ثورة ثانيــة، لكنّه صنع نموذجا للتّغيير ستستلهــم منه أجيــال بدأت تبلــغ مرحلة الشّبــاب بعد أن عاشت الثّورة السّابقــة من أمام الشّاشات بالنّظر لصغر سنّها انذاك.