الكلمة الحرة

بقلم
بسّام العقربي
ويل للنخب من شر قد اقترب
 استفاق العالم عامّة والعالم العربي خاصّة ذات 17 ديسمبر 2010 على خبر شابّ تونسي يحرق نفسه احتجاجا على الأوضاع الاجتماعيّة التي يعيشها. تطوّر المشهد من مجرّد احتجاجات مطالبة بالكرامة والتّشغيل إلى المطالبة بإصلاح سياسي جذري وبإسقاط النّظام الشّمولي الحاكم، وفعلا تمّ إسقاط النّظام الحاكم بتونس يوم 14 جانفي 2011 لتضرب الاحتجاجات بقيّة الدّول العربيّة كمصر وليبيا واليمن وسوريا. تلك الثّورات التي أسقطت مجموعة من الأنظمة أصطلح على تسميتها بالرّبيع العربي كان الهدف منها حسب الشّعوب إسقاط الأنظمة الاستبداديّة وتحسّس الخطى نحو إصلاح سياسي واجتماعي شامل كان فيما مضى متّسم بالفقر والهشاشة وتفشّي البطالة وتردّي الأوضاع المعيشيّة...
 لكن وبعد مضي 7 سنوات من الرّبيع العربي لم تستطع النّخب السّياسية والفكريّة القيام بأيةّ إصلاحات تذكر سوى البحث عن تموقعات داخل المشهد السّياسي والاجتماعي وبذلك تحوّلت وظيفتها من الباحث عن حلول للخروج من الأزمة إلى جزء منها. لذلك يجمع أغلب المتابعين والملاحظين تقريبا على أن السّبع سنوات التي مرّت على الرّبيع العربي كانت عجافا شدادا لم ترتق الى ما كانت تطمح إليه الشّعوب على كافّة الأصعدة السّياسية والفكريّة والاجتماعية وذلك لعجز النّخبة عن إستيعاب الأوضاع.
سياسيا: نادت الشّعوب بحقّها في الحرّية وإرساء نظام سياسي قوامه الدّيمقراطية والتّعددية وحقوق الإنسان، ولكنّ شيئا من ذلك لم يتحقّق، فالصّراع الدّاخلي القبلي والعرقي الذي تغذّيه القوى الإقليمية والدّوليّة خوفا على مصالحها الاستراتيجيّة ترجمه انقلاب العسكر في مصر على شرعيّة انتخابات حرّة ونزيهة، انقلاب كانت تدعمه وتغذيه نخبة سياسيّة وفكريّة، ثمّ انقلاب آخر دمويّ على شرعيّة يمنيّة تقودها جماعات سياسيّة طائفيّة تحارب باسم العقيدة الدّينية، كذلك الحال في ليبيا والشّام أين  حوّلت النّخبة وجهة الثّورة من سلميّة تنادي بإسقاط الدّكتاتور والكرامة إلى حرب يتطاحن فيها الشّعب الثّائر فيما بينه. أدى ذلك إلى تبخّر أحلام الثّائرين وبقاء طموح المستبدّين، فحضرت كلّ فصول الاستبداد وغاب ربيع الحرّية.
فكريا: يقول المفكّر السّلوفيني سلافوي جيجك «نخبة وظيفتها التّزييف الإيديولوجي الوقح لمعارك النّاس». لم تحترم أغلب النّخب السّياسية والطّبقات المفكرة في دول الرّبيع العربي طموحات شعوبها، بل العكس ما وقع، حيث وجدت الشّعوب أنفسها أكثر نضجا من تلك الطّبقات. كلّ الشعوب الثّائرة التي تصدّت للرّشاشات ومدافع الدّبابات بالورود في الشّوارع أثناء الاحتجاجات، كانت تطمح إلى حياة فكريّة سليمة تتماهى وهويّة الشّعوب العربيّة المسلمة، نابذة للتّغريب دون التّخلي عن مبدأ المعاصرة والانفتاح على الآخر. إلاّ أنّ النّخبة غيّبت كلّ الموروث الأدبي والتّاريخي والثّقافي للشّعوب الثّائرة بل سخّرته لإثبات أنّ الدّيمقراطية لا تصلح للمجتمعات العربيّة وأنّ هذه المجتمعات لا تُساس إلّا بالهراوات واستشهدوا ببعض الأدبيات من قبيل «إنّي أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها...» في دلالة على بطش الحجّاج مع أهل العراق، في محاولة لإقناع الجماهير الغاضبة أنّها كقطعان الغنم لا تقاد إلاّ بالحديد والنّار. حتّى النّخبة الدّينية تمّ الزّج بها في الصّراع طوعا أو كرها وشرّع بعضها للانقلابات العسكريّة. في حين تمّ تغييب كلّ الموروث الفكري الإصلاحي العربي عبر التّاريخ والدّاعي إلى نبذ الاستبداد وإصلاح البلاد والعباد وتطوير التعليم والصنائع وإصلاح الضّمائر والطبائع، بل وقامت النّخبة بتوريد نماذج دخيلة على الثّقافات السّائدة كاليساريّة الماركسيّة والعلمانيّة، بل حتّى التّيارات الإسلاميّة في مجملها حاولت عديد المرّات استيراد نماذج إسلاميّة من خارج ثقافتها الدّينية المحلّية كالنّموذج التّركي والخليجي وقد تناسوا أنّ التّجارب لا تُستنسخ ومن العبث إسقاطها على الشّعوب. فذهبت النّخب الفكريّة والإعلاميّة إلى طرح مواضيع تتعلّق بحقوق المثليّين، حرّية الضّمير، حرّية التّعبير عن طريق التّعري، بثّ أفلام ومسرحيّات تنتهك حرمات ومقدّسات الشّعوب وتعمّد استفزاز مشاعرها، حيث ظهرت دعوات مثلا لضرورة دفع المصلّين لفواتير كهرباء وماء المساجد وكأنّ النخب عالجت جميع مشاكل الشّعوب إلاّ فواتير المساجد. كما دعا البعض إلى محاربة التّعليم الدّيني بدعوى محاربة التّطرف فظهر «الإرهاب الدّيني» لمحاربة «الإرهاب العلماني» والعكس بالعكس.
 لقد التجأت النخبة التي فاجأتها الثّورة إلى صناعة «عدو همجي» يلبسونه تارة ثوب العلمنة المتطرّفة لاختبار ردّ فعل الإسلامييّن وتارة ثوب الإرهابي المتطرّف لاختبار صبر بعض العلمانييّن وبذلك حاصرت النّخبة أبناء الشّعب الواحد في دائرتين، إمّا علمانيّا «كافرا» وإمّا إسلاميّا «داعشيّا» حيث ساهمت في تقسيم أبناء الوطن الواحد وقوّضت السّلم الأهلي عوض الدّعوة للتّفاهم والحوار ونشر ثقافة التّعايش.
 برز ذلك جليّا وبوضوح في اعتصام ميدان التّحرير الذي قادته مجموعة مساندة لشرعيّة الصّندوق من جهة وحركة «تمرّد» المساندة لإسقاط النّظام الحاكم ما بعد مبارك في مصر من جهة أخرى. أمّا في تونس فقد ترجمه اعتصام «باردو» بين مجموعة مساندة لحكم التّرويكا ومجموعة اعتصام «الرّحيل» التي تنادي بالإطاحة بالثّلاثي الحاكم. وصل الأمر بالنّخبة التّونسية القول «نحن (أي العلمانيّون) في يوم 6 أوت 2013 ميلادي وهم (أي الإسلاميّون) في يوم 28 رمضان 1434 هجري» وهو ما يفسّر دور النّخب في تغذية الصّراع الإيديولوجي بين أبناء الوطن الواحد. كلّ ذلك وقع لإلهاء الشّعوب الثّائرة وصرفها عن هدفها الحقيقي المتمثّل في إرساء أنظمة ديمقراطيّة تعدّدية قوامها الحرّية وحقوق الشّعوب في تقرير المصير وإرساء العدالة الاجتماعيّة.
اقتصاديا واجتماعيا: كانت أحلام الشّعوب الثّائرة في مناطق الرّبيع العربي هي التّشغيل والكرامة وتحسين مستوى الاقتصاد ومن ثمّ تحسين الأوضاع المعيشيّة للسّكان حيث رفعت عديد الشّعارات المنادية بالتّشغيل ومحاربة الفساد والعطالة والفقر من قبيل «التّشغيل استحقاق يا عصابة السُراق» أو «حسني بيه يا حسني بيه... كيلو اللّحمة بــ 100 جنيه». إلاّ أنّ النّتائج وبعد سقوط الأنظمة السّياسية كانت عكسيّة حيث لعبت النّخبة المثقّفة النّافذة سياسيّا والنّخب النّقابية دورا هامّا في تردّي الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة وذلك خدمة لأجندا «جرحى الأنظمة السّابقة» التي ثارت عليها الشّعوب. فتمّت عرقلة عديد المشاريع الصّناعية الكبرى التي من شأنها خلق مواطن الشّغل كمشروع قناة السّويس في مصر ومشروع تزويد بعض الدّول الاوروبية بالطّاقة الشّمسية الذي كان سيقام في الصّحراء التّونسية، كذلك مشروع ميناء مضيق باب المندب بوابة البحر الأحمر في اليمن. في الأثناء، اُطلق العنان للتّهريب والسّوق الموازية إضافة إلى كثرة الإضرابات العمّالية العشوائيّة التي ساهمت في غلق عديد المؤسّسات المنتجة، فارتفعت البطالة وارتفع التّوريد وانخفض التّصدير، فانزلقت العملات الماليّة إلى أدنى مستوياتها وارتفعت الأسعار وانتشر الفقر خاصّة في مناطق التّوتر كاليمن وسوريا أين يجتمع الفقر مع الآلة الحربيّة فظهرت الكوليرا وحمّى الملاريا والحمّى الصّفراء والمجاعات. 
ففي مصر مرّت نسبة البطالة قبل اندلاع الثّورة سنة 2010 من 10.8 % إلى 12.6 % سنة 2017. أمّا في تونس فقد مرّت من 13.7 إلى 15.3 %، ومن 17.14 إلى 19.22 % في ليبيا، ومن 17.85 إلى 50 % في اليمن ومن 8 إلى 53 % في سوريا خلال نفس الفترة.
لقد لعبت النّخب السّياسية والفكريّة والنّقابية في دول الرّبيع العربي دورا غير دورها الطّبيعي. فعوض تهدئة الأوضاع السّياسية والاجتماعيّة ومحاولة تحسينها، سعت إلى تأجيجها إعلاميّا وميدانيّا، وبدلا من السّعي إلى إرساء نظام ديمقراطي صلب، سعت لتقويض العمليّة السّياسية بدعوة الجيوش للانقلاب على السّلط المنتخبة شعبيّا. 
إنّ النّخبة العربيّة اليوم ومن خلال الرّبيع العربي أثبتت أنّها مجرّد كتلة من التّناقضات المثيرة للرّيبة والجدل فنجدها تمجّد ديمقراطيّة الغرب وتحرّض على الانقلابات في دولها أو أنّها تطالب بديمقراطيّة «عرجاء» تضمن حقوق فئة دون أخرى، وهو ما ينمّ عن وجود أزمة سياسيّة ثقافيّة اجتماعيّة تاريخيّة بالغة التّعقيد في بنية النّخبة التي تأبى التّطور والتّأقلم مع الوضع الجديد نتيجة التّغريب الذي تعرّضت له منذ فترات الاستعمار وما بعد الاستقلال مع الأنظمة الاستبداديّة المتعاقبة، ذلك التّغريب انتزع منها روح الهويّة وقتل فيها كلّ إبداع فكري وسياسي جعلها تحيد عن هدفها الأصلي. حتّى النّخب الوطنيّة الصّادقة إمّا تمّ استبعادها بخيار من نخب التّضليل عبر تشويهها إعلاميّا وبالمال الفاسد، وإمّا اختارت الابتعاد والجلوس على الرّبوة من تلقاء نفسها لتلوث المناخ النّخبوي وهو ما يطرح جدلا واسعا حول دور النّخب تجاه شعوبها «أذئب أنت أم راع»؟