من وحي الحدث

بقلم
عبدالعزيز الرباعي
الثورات العربية.. المخاض العسير والولادة المستعصية
 (أوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) سورة النور
سبع سنوات مرّت على اندلاع الشّرارة الأولى للثّورات العربيّة.. كان ذلك بمدينة سيدي بوزيد تلك المدينة الدّاخلية الهادئة المنسيّة بالوسط الغربي للبلاد التونسيّة... وبما أنّ الأوضاع كانت في كلّ الأقطار العربيّة على غاية من الاحتقان ولا تنتظر إلاّ مجرد شرارة حتّى تلتهب، فقد كان إقدام ذلك الشّاب التّونسي «محمد البوعزيزي» على إحراق نفسه تعبيرا صارخا وترجمة عنيفة لما كان يحسّ به المواطن العربي وخاصّة الشّباب من احتراق داخلي وموت بطيء نتيجة انسداد كلّ الأفق وطغيان القمع والظّلم والقهر... 
لقد أهلك القحط السّياسي والاجتماعي والتّصحّر الثّقافي والدّيني والانبتات الحضاري والاستبداد العسكري والأمني وتغلغل الفساد في كلّ مفاصل الدّولة  وضيق سبل العيش وانتشار الفقر والبطالة كلّ طموح وكلّ أمل في غد أفضل لجموع المواطنين العرب الذين تأكّدوا من زيف كلّ ما كان يروّج لهم من أكاذيب عن الازدهار والتّطور والنّمو والعزّة والمنعة ... 
لقد كان المواطن العربي يحسّ وهو يعيش في وطنه وفوق أرض أجداده أنّه غريب .. أنّه محتقر.. أنّه لا قدر ولا كرامة ولا حقوق له... يرى بأمّ عينه خيرات بلاده تنهب وهو لا يجد رغيف الخبز... أصحاب السّمو والفخامة والنّيافة والسّيادة يرفلون في النّعيم وهو لا يجد الخبز الحافي؟؟؟ 
الأجنبي في بلاده يعامل معاملة الأسياد.. وهو يعامل معاملة الحيوان.. لا حقّ له في التّعبير.. لا حقّ له في المشاركة السّياسية .. لا حقّ له في العمل.. لا حقّ له في الاحتجاج.. لا حقّ له في الكرامة... من يجلسون على الكراسي أسود عليه فقط ولكنّهم خرافا وديعة أمام من ينهب خيرات الأمّة ويغتصب الأرض وينتهك العرض .. عقود طويلة مرّت من الانتظار والألم والهزائم المتكرّرة ولا شيء يتحقّق رغم الصبر الطّويل والتّضحيات العظيمة سوى الخيبات المتكرّرة.. 
كان الجميع يعتقد أنّ المواطن العربي قد فقد كلّ قدرة على ردّة الفعل وأنّه تحوّل إلى جسد بلا روح وأنّه لا شيء يمكن أن يؤثّر فيه ويستنهضه... ولكن  حدث ما لم يكن في الحسبان وبان أنّ تحت الرّماد لهيب .. لقد انتقلت شرارة الثّورة من تونس.. إلى ليبيا .. إلى مصر.. إلى اليمن.. إلى سوريا... وبدأت العروش تهتزّ تحت أقدام الطّواغيت وبدأت تتهاوى الواحد تلو الآخر كأوراق الخريف الذّابلة في مشهد أثار الرّعب في قلوب كلّ الأنظمة الاستبداديّة التي كانت تستعبد النّاس وتسومهم سوء العذاب في المنطقة...
وبدأ التآمر على تلك الثّورات المباركة من طرف الجميع .. من الدّاخل والخارج.. من الأنظمة الاستبداديّة المتخلّفة المتسلّطة التي أحسّت بالخطر ممّا يحدث ومن القوى الخارجيّة التي علمت أن مصالحها ستضرب وأنّها لن تستطيع الاستمرار في نهب تلك المناطق إن هي فقدت عملاءها وأعوانها وأصدقاءها الذين كانوا يقدمون لها كلّ ما يطلب منهم من خدمات دون تردّد أو تفكير لأنّ همهم فقط الحفاظ على مواقعهم ومكاسبهم الشّخصية....
وحتّى ذلك التّعاطف أو التّنويه الذي حظيت به تلك الثّورات في البداية من بعض القوى الإقليميّة المعروفة بهيمنتها على المنطقة العربيّة وتقسيمها لكعكة خيراته فيما بينها، فإنّه لم يدم طويلا ليكتشف المواطن العربي كيف أنّ تلك القوى سارعت للانقلاب عليه لتتحالف من جديد مع قوى الاستبداد والفساد في الدّاخل ممّن ثار المواطن العربي ضدّهم.. لتعيدهم إلى دفّة الحكم إمّا عبر الانقلابات العسكريّة .. أو عبر التّدخل العسكري المباشر.. أو عبر هرسلة قوى الثّورة وتشويه صورتها في عيون المواطنين وخنقها اقتصاديّا وسياسيّا إلخ...
سبع سنوات صعبة .. مليئة بالمرارات ..والإخفاقات.. والتّعثر .. والتّضحيات.. قدم خلالها المواطن العربي تضحيات جسيمة وهائلة من لحمه ودمه .. دمار وخراب وحروب .. وتفجيرات .. وترهيب.. وتخريب.. وهدر للمقدّرات... البعض اعتبر أنّ هذه الثّورات قد وئدت في المهد.. البعض الآخر قلب الصّورة ووجه أصابع الاتهام نحو الثّورات متّهما إيّاها بأنّها لم تكن سوى مؤامرات خارجيّة ضدّ دول المنطقة وأنظمتها الوطنيّة وشعوبها التي كانت تنعم بالرّفاهية والاستقرار والحرّية من أجل إعادة احتلالها... لكنّ البعض مازال يؤمن أنّ هذه الثّورات لا يمكن أن تكون مجرّد وقت مستقطع في تاريخ المنطقة وشعوبها يعود بعدها كلّ شيء إلى الوضع الذي كان عليه وكأنّ شيئا لم يكن وأنّه مهما كان حجم التّآمر الدّاخلي والخارجي ضدّ هذه المنطقة وضدّ المواطن العربي التّواق إلى الحرّية والكرامة والعدل والإنصاف .. توقه للحياة.. وأنّه لابدّ لأن يكون لكل هذه التّضحيات التي قدمت نتائج تساوي ما تمّ تقديمه .. وأنّه لا مجال إلى العودة إلى الوراء...
هذا هو واقع الحال بعد مرور سبع سنوات على اندلاع تلك الثّورات.. البعض يعتقد أنّه انتصر.. والبعض يعتقد أنّه لم ينهزم.. 
الوضع في المنطقة مازال يشوبه الكثير من الغموض.. لكن الأكيد أنّ السنوات القليلة القادمة ستكون حبلى بالأحداث والتّطورات التي ستذهل الكثيرين . لأنّ كل المؤشرات تقول أنّ الوضع في المنطقة برمتها مازال غير مستقر وأنّ الهزّات الارتداديّة لكلّ ما حدث ويحدث من صراع وانكشاف الكثير من الحقائق وسقوط العديد من الأقنعة .. وتقلّص الخيارات أمام المواطن العربي الذي أصبح مخيّرا بين القبول بالذّل والخنوع والقهر أو الموت والتّشريد كما رأينا ذلك في العديد من دول المنطقة سيكون له ما بعده ... الأكيد أنّ كل تلك التّضحيات لن تذهب هدرا.. فقد عرف المواطن العربي بداية طريق الخلاص... ولن يتراجع...