تأملات

بقلم
محمد الصالح ضاوي
ثورات ومؤامرات... ماذا بقي منها؟
 في الأسابيع التي تلت الثّورة التّونسية، في 2011، كنت شاهدا على اتصال بين الأستاذ الإعلامي والأديب سمير بن علي المسعودي والدكتور السّوري المعارض لنظام الأسد برهان غليون، الذي سأل عن ثورة تونس: هل هي ثورة شعبيّة أم مؤامرة من الغرب؟ كان السّيد برهان غليون، متردّدا في فهم المشهد التّونسي، ومتشكّكا، ومستغربا قيام ثورة شعبيّة لا لون لها إلاّ الكرامة والحرّية والتّشغيل.
بعد هذه المحاورة بين الشّخصيتين، اقتنع المعارض السّوري بالثّورة التّونسيّة وبتداعياتها على مصر وليبيا واليمن... ثمّ سوريّة... انتخب رئيسا للمجلس الوطني السّوري في أكتوبر 2011، والذي يمثّل مختلف أطياف المعارضة السّورية لنظام الأسد، ثمّ استقال منه بعد سنة ونيف... لكنّه عاد في سبتمبر 2017 ليسأل: هل انتهت الثّورة السّورية؟ (1) ، وذلك بمناسبة بدء مفاوضات بين مختلف القوى الدّولية المتدخلة في الشّأن السّوري، لوقف الحرب، التي أشعلتها بالاشتراك مع النّظام السّوري.
السّيد برهان غليون، أكّد في مقاله التّحليلي، أنّ الحرب يوقفها من أشعلها، ولكنّ الثّورة لا تنتهي إلاّ بتحقيق مطالبها، التي اندلعت من أجلها: الدّيمقراطية والحرّية للشّعب السّوري. ولعلّ سؤال الثّورة السّورية الذي فجّره السّيد برهان غليون في مقاله، سالف الذّكر، ينسحب على بقيّة ثورات الرّبيع العربي، التي كانت موضع تشكيك وتردّد في فهمها والقبول بشرعيّتها، وانتهى بنا المطاف لنسأل: ماذا بقي منها؟.
سؤال البداية
منذ اندلاع الثّورات العربيّة، شهدنا تساؤلات عن ماهيتها وشرعيتها وحتّى عنوانها... بفعل عنصر المفاجأة في انطلاق شرارتها من حادثة انتحار البوعزيزي حرقا، ثمّ انتشارها إلى مصر وليبيا وبقية البلدان العربيّة (2)... ولم تكن الجهات الدّولية بأفضل حال من نخبتنا العربيّة، في صدمتها، من حيث ماهيتها وتوقيتها... لقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية تناقضات بين مواقف الرّئيس أوباما، ووزيرة خارجيته كلينتون، تعكس الصّدمة التي عاشتها مؤسّسات صناعة السّياسة في أمريكا، وحتّى الكتّاب وصنّاع الرأي الأمريكيين. «ويأتي توماس فريدمان (كاتب وصحفي يهودي أمريكي) ليتبنّى التّناقض الموجود في واشنطن ومراكز العصف الذهني. وهو يردّد أنّ الرّبيع العربي لا يمثّل ثورة بمعناها الصّحيح. ولكنّه من جانب آخر يقف معها» (3) .
ويتّفق الكثير من المحلّلين، على أنّ «ثورات الرّبيع العربي (كانت) بمثابة الصّدمة للإدارة الأمريكيَّة التي لم تستطع استخباراتها الوصول إلى معلومات مسبقة حول إمكانية انطلاقها، وهذا ما حصرها في زاوية التّفكير العميق لإيجاد سبل للتّعاطي مع هذه الثّورات المفاجئة بشكل يخدم مصالحها» (4) .
ويؤكّد غرايم بانيرمان كبير الباحثين في معهد الشّرق الأوسط بواشنطن، ومسؤول سابق في الخارجيّة الأميركيّة، في إحدى تدخّلاته على قناة الجزيرة، على أنّ «الولايات المتّحدة لم تفهم الاضطرابات الاجتماعية التي حدثت في مصر سنة 2011، ولم تتوقّع أن تسير الأحداث بتلك السّرعة، وأضاف، أنّ سرعة الأحداث تجاوزت قراءة الجميع في بداية اندلاع الثّورة (5) .
عفويّة أم تخطيط؟
ويبدو أنّه وقع اكتشاف عدّة حقائق عن الرّبيع العربي بعد 2011، بفعل تسريب وثائق وتقارير، تؤكد وجود برامج وتخطيط بدأت مباشرة بعد أحداث سبتمبر 2001، ترمي إلى إحداث تغييرات في المنطقة العربيّة، تتجانس مع المبادئ والقيم الأمريكية، مثل: حقوق الإنسان والحرّية والدّيمقراطيّة والحوكمة الرّشيدة. وهي القيم التي ترى المؤسّسات الأمريكيّة أنّها تتقاطع مع مصالحها في الكثير من المواضع، وإلاّ فالمصالح مقدّمة على القيم.
 وتتّفق العديد من المصادر على نفي العفويّة عن الرّبيع العربي، فإضافة إلى الموقف الرّوسي التقليدي من هذه الأحداث، والذي يعبّر عنه الخبراء الرّوس (6) ، والتي يرى فيها الأيدي الأمريكية تعبث بالمنطقة العربيّة، ممّا يفسّر حجم تدخّلها في الملف السّوري، لقلب الموازين وإثبات المصالح الرّوسية، يؤكّد مركز غلوبل ريسيرش التّخطيط المسبق للثّورات العربيّة، في تقرير له نشر سنة 2015(7). كما نشرت منظّمة: «مجمعات الخبرة الأمريكية» تقريرا أمريكيّا حكوميّا عن «حقيقة الشّراكة مع الشّرق الأوسط» (2002) وهو تعبير ناعم عن حقيقة التّدخل الأمريكي لتغيير الأنظمة الاستبداديّة بأخرى ديمقراطيّة تابعة لها. «فقد بينت مواد التّقرير تورّط البيت الأبيض في الثّورات العربيّة التي عصفت بعدّة دول منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا. حيث أنّ الوثيقة المذكورة، المؤرّخة بتاريخ 22 أكتوبر 2010، أطلق عليها «مبادرة الرّبيع العربي بالشّرق الأوسط: نظرة عامّة» وهي وثيقة سرّية تمّ الوصول إليها من طرف المنظّمة بفضل قانون حرّية المعلومات، فالولايات المتّحدة الأمريكيّة، حسب هذه الوثيقة، وضعت في مخطّطاتها الدّاخلية العديد من الاستراتيجيات لقلب وزعزعة الأنظمة في البلدان المستهدفة بالاعتماد على “المجتمع المدني” بعدما مهّدت لذلك الأرضيّة عبر عدّة أعمال جوهريّة مستندة بالخصوص على عمل المنظّمات غير الحكوميّة» (8). 
سؤال الحقيقة
أين الحقيقة، وسط تراكم المعلومات والمواقف المتناقضة، من هنا وهناك؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال لا تزال بعيدة، في انتظار ظهور المزيد من الخفايا من وراء كواليس الأجهزة الصّانعة للحدث... ولكن لا يمنع ذلك من تدوين بعض الملاحظات التي من شأنها تحديد موقف واقعي ممّا يدور حولنا:
أوّلا: العديد من الوثائق أثبتت أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة أطلقت برنامجا للتّغيير في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، تحت عنوان الشّراكة، وذلك غداة أحداث 11 سبتمبر 2001، واستثمرت في هذا البرنامج الكثير من الأموال والخبرات والملتقيات والتّربصات والتّدريبات للشّباب والنّخب العربيّة لتحقيق أهداف برنامجها الذي يخدم أساسا مصالحها ورؤيتها للعالم.
ثانيا: شهد العالم العربي في العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين العديد من الأحداث والمبادرات التي كانت وراءها تخطيطات مجلس العلاقات الخارجية، الراعي الرسمي لبرنامج الشّراكة مع الشرق الأوسط مثل: «ما حدث في مصر من نشوء حركة كفاية في 2004 ونشأة «ائتلاف دمشق» بسوريا في 16-10-2005، وبعده بيومين فقط أي في 18 10- - 2005 نشأت هيئة 18 أكتوبر للحقوق والواجبات في تونس .. ثم بدا أوّل تحرّك بطيء نحو انطلاق الرّبيع الأمريكي « الرّبيع العربي» مع انتفاضة القضاة في مصر في مايو 2005 ثم إضراب جوع هيئة 18 أكتوبر في تونس ..ولا يخفى علاقة جماعة 18 أكتوبر بالسّفارة الأمريكيّة خاصّة من ذلك منح تصاريح دخول لبعض الأشخاص للسّفارة متى شاؤوا كما حدث مع أحمد نجيب الشّابي أو أحمد إبراهيم أو زياد الدّولاتي أو صلاح الجورشي وغيرهم كثير..» (9) .
ثالثا: كان توقيت الثّورة التّونسية ثمّ الثّورة المصريّة، وانتشارهما، عنصر مفاجأة للأمريكيين، بفعل التحرّك الشّعبي خارج التّأطير والتّخطيط الأمريكي... لكن سرعان ما استعادت الدّولة العظمى زمام المبادرة، وذلك باستئنافها التّأثير على الثّورات العربيّة، وتوجيهها والتّدخل فيها عسكريّا واستخباريّا وماليّا. والكثير من الخبراء اليوم، يؤكّدون، أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفاءها، استحوذوا على الثّورات العربيّة، ودجّنوها وفق رؤيتهم القيمية والمصلحيّة، من خلال مختلف الوسائل الدبلوماسيّة والاقتصاديّة والمعونات والمؤسّسات الدّولية والتّدخل الأمني والاستخباراتي (10). 
ماذا بقي؟
الأحداث التي تعيشها الدّول العربيّة، التي عرفت ثورات شعبيّة، أجهضتها أجندات داخليّة وخارجيّة، تثبت بما لا يدع مجالا للشّك، قصر عمر العفويّة في الرّبيع العربي، وسرعة المؤامرة في تثبيت أقدامها في عمق المجتمع وعلى أكثر من صعيد، حتّى وصلنا إلى الحديث عن نجاح القوى المضادّة في إجهاض الثّورة، وتحويل مسارها إلى ظاهرة صوتيّة وإعلاميّة لا غير.
لقد تبدّلت وسائل الاستبداد والحكم الفردي بوسائل أخرى ذات لبوس ديمقراطي، لكن الحوكمة ظلّت ذات نفس الجوهر والمحتوى... كما تدهورت قدرات الفرد العربي الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتعليميّة، وتعثّر المسار الانتقالي في رسم لوحة حالمة لمستقبل أفضل، رغم بعض العناوين الايجابيّة التي انفلتت من هذا التّقييم، والتي مثّلت الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
وأخيرا، يبدو لي أن تسويق تقارير التّخطيط المسبق للرّبيع العربي، بشكل مكثّف ومضغوط، يهدف إلى نسف روح الرّبيع العربي... تلك العفويّة الشّعبية التي انطلقت بلا حسابات ولا قيادة ولا تخطيط، من أجل حلم جماعي... وقتل هذه الرّوح الأصيلة هو آخر مسمار في نعش الرّبيع العربي، يدقّ بأيد صديقة وشقيقة.
الهوامش
(1) غليون، برهان: هل انتهت الثورة السورية؟، مقال نشر بالعربي الجديد في 17-09-2017. 
(2) حول عنصر مفاجأة للربيع العربي، للأمريكيين، يرجى الاطلاع على:
الموقف الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي من التحولات السياسية في المنطقة العربية، تحرير: عبد الحميد الكيالي، مركز دراسات الشرق الأوسط، ط 1، 2011، عمان، صص 11 وما بعدها. 
 (3) العسكر، عبد الله بن إبراهيم: موقف أمريكا من الربيع العربي، صحيفة الرياض بتاريخ: 29-02-2012.
(4) سلمي، جلال: بواعث إدارة الولايات المتحدة وتركيا الربيع العربي بشكل مشترك، موقع ترك برس.
(4) برنامج الواقع العربي، على قناة الجزيرة، بتاريخ الخميس 7-5-2015.
(5) أكد ذلك الخبير الروسي في شؤون الشرق الأوسط (فياتشيسلاف ماتوزوف) بتاريخ 3 \ اذار-مارس \ 2013 م خلال مقابلة له مع قناة (روسيا اليوم): ” أن المبادرات لتغيير الأنظمة العربية ليست منبثقة من داخل العالم العربي …. وأن هذه الفكرة وصلت من الخارج وتقوم بتحريكها منظمة غير حكومية أسمها ( Business For Diplomatic  )  تأسست عام 2005 م من أجل ذلك، وذكر أيضاً أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية من ذلك خلق عالم عربي ضعيف ليست فيه معارضة قادرة على تغيير الخارطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، ولذلك انفقت ملايين الدولارات وساعدها في تحقيق أهدافها، فساد بعض القيادات العربية وكذلك التصادم بين مصالح الشعوب وقيادات الدول العربية .
(6) السلامات، حمزة: حقيقة الدور الأمريكي في ثورات الربيع العربي، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية.
(7) التهامي، ريهام : جلوبال ريسيرش: أمريكا وظفت ثورات الربيع العربي لصالحها، موقع البديل بتاريخ 31-10-2015.
(8) الكحل، سعيد : أمريكا صانعة الربيع العربي، موقع السكينة، بتاريخ 19-06-2014.
(9) بن رحومة، لسعد: أمريكا: دعما للديمقراطية العربية ..لماذا؟ وكيف؟ «الربيع العربي». مقال نشر في الفيسبوك بتاريخ: 14-11-2012.
(10) ينصح بقراءة:
الزين، حسن محمد: الربيع العربي آخر عمليات الشرق الأوسط الكبير، (مقاربة بحثية توثيقية تعتمد على 350 مصدرا للمعلومات...) دار القلم الجديد، بيروت، ط 1، 2013.