وبعد؟

بقلم
د.سالم العيادي
في قوَّة الإمكان الثَّوريِّ
 من شأن الثَّورة عمومًا أن تكون خلخلةً للسَّائد إقبالاً على حلمٍ منشودٍ ومساءلةً جذريَّةً لليقينيًّات استئنافًا لجذوةِ الرُّوح الإبداعيَّة. ولا يكون الإبداعُ خلقًا جديدًا لشروط الحياة والفعل والتَّبادل ما لم يكن لأجل الحريَّة والكرامة والعدالة. وتلك هي قيمُ الثَّورة التُّونسيَّة وكلِّ الحراك الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ بالوطن العربيِّ عمومًا. 
والثَّورة السِّياسيَّة هي في جوهرها تغييرٌ عميقٌ للمجتمع والدَّولة نحو تشكيلٍ جديدٍ للمشروعيَّات معنويًّا، وتوزيعٍ مختلفٍ للثروات ماديًّا. ولا يمكن للثَّورة أن تنجز مهامَّها ما لم تسندها الثَّقافةُ ويعضدها الفكرُ ويكون ذلك بــ:
- ثقافيًّا: تغييرُ المناخِ القيميِّ والفضاءِ الرَّمزيِّ نحو بناءِ مشروعٍ مواطنيٍّ مقاومٍ.
- فكريًّا: تخفيفُ حربِ السِّياسةِ بنوعٍ من السِّلم في عالم الأفكار.
وهذا ما لم يتحقَّق إلى اليوم: فالمناخُ القيميُّ العامُّ مناخُ ما قبل 17 ديسمبر 2010. ويتجلَّى ذلك بوضوحٍ في خطاب الثَّقافة والإعلام، وفي الممارسات على اختلاف ميادينها. كما أنَّ بوليموس (الحرب: Polimos) السِّياسةِ قد خرَّب هرمونيا (Harmonia) الأفكار. 
فأنت تجد عالم الأفكار لدينا شبيها بعالم الآلهة في الميثولوجيا الإغريقيَّة. وعندما تتحارب الآلهة (الأفكار) لا تكون الضَّحيَّة المسحوقة إلاَّ الإنسان. وبناءً عليه يمكن القول إنَّ ما تتطلَّبه اللَّحظة بضربٍ من القطيعة الواضحة والصّريحة هو:
- ضرورة التَّعامل مع الثَّقافي بوصفه الميدان الفعليِّ لخلق قيمٍ ورموز جديدة، ورسم مشروعٍ وطنيٍّ مقاومٍ تتحدَّد بمقتضاه مسؤوليَّات المثقَّفين الرُّوحيَّة والتَّاريخيَّة. 
- ضرورة الكفِّ عن تحويل عالم الأفكار إلى عالمِ الآلهةِ المتناكفةِ المتصارعةِ. وذلك لأجل بناءٍ هرمونيٍّ يوفِّر للمفكِّرين إمكانيَّةَ فعلِ شيءٍ آخر غير البوليموس (السِّجال- الحرب): فللفكر ديالكتيكه الخاصّ المختلف جذريًّا عن ”البوليموس“.
والشَّيءُ الّذي هو مسؤوليَّةُ المفكِّر من جهةِ ما يكون مفكِّرًا ملتزِمًا إنَّما هو صياغة المشترك: فالفكر هو أرحبُ آفاقِنا كونيَّةً. وستبدع الثَّورةُ التُّونسيَّة تدريجيًّا ثقافةَ الثَّورةِ وفكر الثَّورةِ. فالثَّورةُ إمكانٌ واقتدارٌ، وزمنُ الثَّورة تقدُّه أحداثُه يومًا بعد يومٍ. 
وأحداثُ الثَّورة ليست متعلِّقةً بأغراضِنا اليوميَّة في طابعها الآنيِّ المستعجلِ، ولا هي متعلِّقة أيضًا بترتيبات الوضع في اعتباطيَّة مجرياته وعرضيَّتها، وإنَّما أحداثُ الثَّورةِ ما يقع في الرُّوح الفرديِّ والجَمْعيِّ من اعتمالٍ ثقافيٍّ وفكريٍّ: تلك هي في تقديرنا قوَّة الإمكان الثَّوريِّ الّذي يأخذ اليوم في التَّعبير عن نفسِه ولو بشيءٍ من التَّعثُّر.
ومردُّ هذا التَّعثُّر إلى قوَّة الرِّهان. فانقلابُ الفكرِ والثَّقافةِ من مجرَّد خطابٍ رسميٍّ قطاعيٍّ إلى فعلٍ مقاومٍ شاملٍ لأجل الحريَّة والكرامة والعدالةِ لا يمسُّ «عالمَ الأذهانِ» فحسب، وإنَّما يمسُّ أيضًا «عالم الأعيان» في اتِّجاه إعادة التَّشكيل الجذريَّة لوضعنا الجيو- سياسيِّ. هذا ما أدركه أعداءُ الحرِّيَّة وخصومُها من أنظمةٍ ديكتاتوريَّةٍ وليبراليَّةٍ متوحِّشةٍ معولمةٍ.
ولمَّا كان الرِّهان بهذا القدر من الأهميَّةِ والخطورةِ فإنَّه يقتضي الآن سِلمًا في عالم الأفكار: أن تتولَّى الإيديولوجيَّات على اختلافها وتباينها البحثَ عن الحريَّةِ والكرامةِ والعدالةِ بوصفها مشتركاتٍ جامعةٍ: حريَّةُ الإنسانِ من حيث هو إنسانٌ بما يضمن التَّخلُّص من كلِّ وصايةٍ، والكرامةُ الوطنيَّةُ بما هي عنوان استقلال الإرادة والسِّيادة، العدالة الاجتماعيَّة ضدَّ كلِّ أشكال التَّفاوت والظُّلم. وتتمثَّل المهمَّةُ الثَّوريَّة في التَّأسيس لهذه القيم الكونيَّة من داخل الثَّقافة والفكر العربيِّ. فهل يمكن للمفكِّر العربيِّ اليوم أن يطرح هذا السُّؤال: ما الّذي يجعل الثَّقافة العربيَّة والفكر العربيَّ عاجزيْن عن الذَّهاب بعيدًا ودون تحفُّظات في اتِّجاه هذه القيم الأنواريَّة الثَّوريَّة؟