نقاط على الحروف

بقلم
شكري عسلوج
أزمة الهندسة في تونس... الواقع، الأسباب، المآلات والمحاذير
 أفاق الرأي العامّ التونسي مشدوها على خبر إعلان عمادة المهندسين التونسيين، في أعقاب استشارة قواعدها الهندسية في الجهات وإثر انعقاد مجلسها الوطني الخارق للعادة في أواخر شهر أكتوبر الماضي، عن البدء في مسار نضالي متدرّج وتصاعدي، قد يصل إلى الإضراب العامّ في كلّ الأسلاك الهندسيّة في غضون نهاية السّنة الحاليّة، في صورة لم تتعامل الحكومة إيجابيا مع المطالب المشروعة للمهندسين التونسيين.
لا لوم على الشعب التونسي من أن يندهش من هذا التمشّي أو حتى أن يستهجنه ، نظرا لارتباط مهنة الهندسة في مخيالنا الجمعي، بالنخبة العلميّة والأكاديمية التي تتوشّح بأرفع المناصب وتتقلّد أعلى المسؤوليات وتقوم بأرقي الوظائف، الشيء الذي من المفروض والمنطقي أن يسمح لمنتسبيها بالعيش في أوضاع اجتماعية واقتصادية مريحة، تغنيهم عن خوض نضالات مطلبيّة. علاوة على ذلك، فإن الرأي العامّ تعوّد على مهندس برتبة جندي خفاء، يعمل بصمت وتُؤدة في كلّ مناحي الحياة ولا يشتكي من جور موصول ولا ينتصر لحق مهضوم، حيث يعود آخر إضراب نفّذه المهندسون التونسيون إلى سنة 1988. حتى في ظلّ تصاعد المطلبيّة في ربوعنا إلى مستويات غير مسبوقة شملت كل المهن والفئات، لم يلجأ المهندسون لأسباب موضوعيّة وظرفيّة داخليّة، لاقتناص فرصة ضعف الدولة إبّان زلزال الثورة، لفرض مكاسب فئويّة عبر تعطيل المرافق ووقف الإنتاج، بل ساهم عشرات الآلاف من المهندسات والمهندسين المنتشرين في كلّ القطاعات في استمراريّة الدولة لمّا ترنّح بنيانها، من خلال تأمين المرفق العامّ والحيلولة دون التوقّف التامّ لعجلة الإنتاج، وبالتالي إنقاذ ما أمكن إنقاذه من الاقتصاد الوطني.
لتسليط الضوء على واقع أزمة الهندسة في ربوعنا وتبيان الحقائق المرتبطة بها، دعونا نبدأ بالأرقام التي تستند إلى معطيات متأتية من مصادر رسميّة مثل المعهد الوطني للإحصاء. الجسم الهندسي التونسي يضمّ أكثر من 70 ألف مهندس، 55 ألف منهم مُسجّلون بجدول العمادة ومن بينهم 5 آلاف عاطلون عن العمل، وهذا العدد مرشَّح إلى الازدياد المتسارع في ضلّ الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. ينضمّ سنويّا إلى هذه الجحافل الهندسيّة ما يقارب 5 آلاف مهندس يتخرّجون بنسق متزايد من التعليم العامّ والخاص على حدّ سواء مع رجوح الكفّة في السنوات الأخيرة للمدارس الهندسية الخاصّة التي شهدت طفرة عشوائيّة في الإحداثات وانهيارا في جودة التّعليم. يغادر ما يربو عن 2.5 ألف مهندس البلاد كلّ سنة بدون رجعة، طلبا للرّزق خارج أرض الوطن وهذه النّسبة في ارتفاع مطّرد، ممّا يشكّل نزيفا حادّا للكفاءات الوطنيّة، سوف يجعل من تعافي الاقتصاد في المستقبل أمرا صعبا. معدّلات دخل المهندس في تونس أقلّ بخمسين بالمائة من دخل أسلاك مشابهة في مستوى التّحصيل الأكاديمي في داخل البلاد، ويساوي ثلث دخل المهندس المغربي مثلا. ليس من النّادر أن يكون دخل المهندس أقلّ من دخل منظوريه الذين يُشرف عليهم والذين هم أقلّ منه درجة في نفس المؤسّسة. يوجد في تونس حدّ أدنى لأجر العامل الفلاحي ولا يوجد حدّ أدني لأجر المهندس، الشيء الذي أوجد أوضاع تشغيليّة هشّة ومستويات تأجيريّة جدّ متدنيّة في القطاع الخاص، تكرّست في ظلّ استفحال ظاهرة المهندسين العاطلين عن العمل. تسمح الإدارة لنفسها بأن تُسند صفة مهندس لأعوان لم يلِجوا قطّ مؤسسة جامعيّة للتكوين الهندسي. للمقارنة فقط، تخيّلوا إدارة مستشفى تمنح لأحد أعوانها من السلك شبه الطّبي، صفة طبيب وتسمح له بإجراء عمليّات جراحيّة أو أن تُعطَى صلاحيّة إصدار الأحكام الجزائيّة لكاتب بالمحكمة بناءَ على قرار إداري بإسناد صفة قاض له. 
اليوم وحيث نقف على مشارف الثّورة الصّناعية الرّابعة في تاريخ البشريّة (وهي بالأساس هندسيّة)، روّج إعلاميّون في بلادنا في حملة سبقت الاغتيال الجبان للمهندس محمد الزواري، لفكرة مفادها أنّ التكوين الهندسي يجعل الشّخص أكثر قابليّة لتبنّي الفكر الإرهابي. غاب عن أصحاب هذا المنطق الأخرق حقيقة مفادها بأنّ تصفية هذا المهندس الرّمز قد أضاعت على تونس فرصة التمكّن من تكنولوجيا صناعة  الطائرات بدون طيار، التي تدرّ أكثر من 4 مليارات دولار حاليّا ومن المتوقّع أن يتجاوز مستوى التّعاملات في هذا السّوق الواعد 22 مليار دولار في غضون 2022. كلّ ما سلف لا يعدو أن يكون سوى غيض من فيض ما تتعرّض له مهنة الهندسة وما يعانيه المهندسون في بلادنا.
لا يمكننا أن نفهم الحاضر بدون أن نرجع إلى الأحداث والملابسات الماضية التي أفرزته. أسباب الأزمة عميقة وترجع إلى التّاريخ الحديث لمهنة الهندسة في تونس. بعد احتلال الجزائر سنة 1830 استشعر أحمد الباي الأوّل الخطر المحدق بالبلاد وبادر إلى إجراء إصلاحات واسعة تهدف إلى رتق الهوّة الحضارية مع أوروبا عبر السّعي لامتلاك أسباب القوّة، لتحصين البلاد من المطامع الاستعماريّة وخاصّة عبر التمكّن من العلوم وتصنيع الاقتصاد وعصرنة الجيش. ومن أهمّ القرارات التي اتخذها، نجد إحداث مدرسة البوليتكنيك بباردو سنة 1840 تحت إشراف المصلح خير الدين باشا، والتي ضمّت في إطارها التّدريسي خبراء من دول أجنبية وشكّلت النّواة الأولى لتدريس العلوم الهندسيّة الحديثة على مستوى عال بتونس. بالإضافة إلى ذلك فقد شرع أحمد الباي الأوّل في تصنيع البلاد بما في ذلك بعث نواة للتصنيع الحربي بها. 
في سنة 1860 وتحت ضغط قناصل الدّول الأجنبيّة وبمبادرة من الوزير الأكبر مصطفي خزندار، تمّ وأد هذه التّجربة الرّائدة التي كانت سترفع تونس في مصاف الدّول المتقدّمة لو قُدّر لها أن تستمرّ، وأغلق أوّل صرح للتّدريس الهندسي في تونس بتعلّة إرتفاع تكاليفه وضغوط الأزمة المالية التي كانت الأيّالة تعاني منها آنذاك والتي كان سببها تبديد المال العامّ في بناء القصور حتّى لقناصل الدّول الأجنبية وإبرام صفقات أسلحة فاسدة تمّ تمويلها بقروض مجحفة، الشيء الذي فاقم الأمور وصولا إلى إشعال ثورة شعبيّة بقيادة علي بن غذاهم. من نافلة القول التذكير بالدور الذي لعبه مصطفى خزندار وأعضاده من الفاسدين في إفلاس البلاد وتأجيج الوضع الاجتماعي بها ليجعل منها لقمة سائغة للاستعمار، الذي بدأ في شكل وصاية خسرت فيها البلاد سيادتها المالية والاقتصادية للكومسيون قبل أن تخسر كل مقوّمات سيادتها في ظل الاستعمار الذي سُمّي بالحماية.
المستعمر تمادى في سياسة ضرب مهنة الهندسة في بلادنا، والتي كان بدأها عملاءه الذين مهّدوا له الطريق من قبل كما أسلفنا. فبخلاف كلّ الاختصاصات الأخرى التي سُمح للتونسيين بدراستها وباستثناء النّزر القليل من الشّخصيّات التي شذّت عن الخطّة المرسومة، نخصّ بالذكر منهم المهندسين محمد علي العنابي وبشير التركي ومختار العتيري، فإنّه لم يُسمح للتّونسيين بدراسة الاختصاصات الهندسيّة. وإذ نسوق محاولة هؤلاء، الذين تقلّدوا مناصب متقدّمة في الوكالة الدّوليّة للطّاقة الذريّة، والذين سعوا منذ بداية الستينات من القرن الماضي لتمكين تونس من تكنولوجيا الذرّة، واستماتة مستعمر الأمس لإجهاض هذا المشروع بكل وسائل الضغط الممكنة، فإنّنا نعي لماذا ضرب المستعمر وسدنته وأذنابه مهنة الهندسة في بلادنا. لو كان قُدّر لهذا المشروع أن يري النّور لكانت بلادنا ضمنت مذّاك سبقا تكنولوجيّا ولكانت اليوم تتبوأ درجة رفيعة في نادي الدّول الذريّة، ولكانت اليوم مكتفية طاقيا من خلال الاستغلال الأمثل لليورانيوم الموجود في موادّنا الخام،  الشيء الذي كان سيوفّر بدوره الاكتفاء الغذائي من خلال تحلية مياه البحر.
يقول المرحوم الدكتور المهندس بشير التركي في كتاب صدر له سنة 2011 بعنوان صفحات مخفيّة من تاريخ تونس، بأنّ تونس لم تخل من جموع غفيرة من المهندسين والعلماء والباحثين الذين اختاروا بحسرة البقاء في الخارج أو الهجرة تفاديا للبلاء المسلّط عليهم، ويشير إلى اسم المرحوم محمد علي العنّابي وهو أوّل مهندس تونسي تخرّج من البوليتكنيك في فرنسا، لكنّه قاسى الأمرين آنذاك من جهات تونسية نافذة. كما أتهم المهندس التركي في موضع لاحق من الكتاب هذه الجهات المتنفّذة بالتخطيط لتبعية تونس للعدوّ تربويّا واقتصاديا وثقافيا ليسهل بعدها ابتلاع البلاد سياسيا. وقد قضي هذا المهندس الفذّ جلّ حياته طريدا أو مهدّدا بالاغتيال، حيث نجا طيلة حياته الحافلة من العديد من محاولات التصفية داخل تونس وخارجها. وعلى هذه الخلفية وإذا وضعنا نصب أعيننا الحالة التي أصبحت عليها المؤسسات الصناعية والاقتصادية والتفكيك المُمنهج والمستمر للنسيج الصناعي التونسي الذي بُني بعد الاستقلال، فيمكن لنا أن نستشفّ حينئذ على ماذا نحن قادمون.
ويجب انتظار قرن ونيف وبالتحديد 1968، سنة إحداث المدرسة القومية للمهندسين تحت إشراف الدكتور المهندس مختار العتيري، والتى لم يكن بالإمكان بعثها إلاّ في إطار التّعاون الفنّي مع الإتحاد السوفيتي آنذاك، لأنّ القوّة الاستعماريّة السّابقة امتنعت عن المساعدة في إنشائها لتبقى بذلك متّسقة مع سياستها المعلومة.
في بداية الثّمانيات من القرن الماضي عندما عُرض مشروع القانون المُحدث لعمادة المهندسين التونسيين على المرحوم الهادي نويرة الوزير الأول آنذاك، رفضه متعلّلا بأنّه لن يسمح بإقامة دولة داخل الدّولة، حيث كان يتوجّس من المهندسين ومن المنظّمة التي ستمثّلهم ومن الدّور الذي كانوا سيلعبونه، وساندته في هذا التمشّي المنظمات الكبرى والحزب الحاكم والإدارة. مع الأسف لم يُقدًّر لأنفاس الهادي نويرة أن تطول حتى 2011 ليرى أنّ مخاوفه على الدّولة من المهندسين لم تكن في محلّها. 
ومع إحكام سيطرة رجال القانون ومختصّي العلوم الإنسانية والإداريين على مفاصل الدولة وتحيّز كلّ منهم لفئته لحدّ الشوفينية وفي ظلّ خلوّ الطبقة الحاكمة من المهندسين، تمّ سنة 1982 بعث عمادة كسيحة للمهندسين بقانون مُسقَط، لا يسمح لها بتأدية مهامّها في تنظيم مهنة الهندسة والدّفاع عن المهندسين ولعب دور مركزي في النّهوض بالبلاد وعصرنة الاقتصاد وإحداث تنمية حقيقية،  ليقتصر وجودها خلال سنواتها الثلاثين الأولى على لعب دور زائدة دودية في الديكور العامّ للبلاد.
ثورة 2011 التي زلزلت منظومة الحكم في تونس والتي شملت ارتداداتها المنطقة العربية جمعاء وأثّرت على العالم بأسره، لم تكن مدفوعة بالظّلم المسلّط على الشّعب والمسنود بالآلة القمعيّة فحسب ولكن كانت وبالخصوص نتيجة المنوال التّنموي الفاشل الذي بُني على خيارات اقتصاديّة خاطئة أغلقت سُبل العيش الكريم أمام الشّباب المتعلّم والمتطلّع نحو الأفضل. خلُصت الدّراسة المستفيضة التي أعدّتها حكومات ما بعد الثورة إلى برنامج الإصلاحات الكبرى والتي كان من أهمّ أركانه، الذهاب إلى منوال تنموي جديد عماده اقتصاد مُصنّع ومُنتج ذو قيمة مضافة عالية. كان يُمكن لأيّ مهندس أن يقوم بهكذا طرح لو قُدّر له أن يتواجد في النّخبة التي أسّست الدّولة الوطنية وحدّدت خياراتها وتوجهاتها الكبرى في منتصف القرن الماضي، لأنّ ذلك يُعدّ من صميم دوره، ولكان الله كفى بذلك الشّعب التّونسي نصف قرن ونيف من التّيه والضّياع، ولعلّنا كنّا نعدّ أنفسنا حاضرا في مصافي الدّول المتقدمّة مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا.
بعد ترتيب أوضاعها وتسوية خلافاتها الداخلية إبّان الثورة، أعدّت عمادة المهندسين برنامجا طموحا للنهوض بالمهندس التونسي وبمهنته وبطرح نفسها للعب دور رئيسي في بناء الجمهورية الثانية، والمساهمة في تحقيق التقدّم والرقيّ والنماء والمنعة للشعب التونسي. هذا الطموح قابله تجاهل تامّ من حكومات ما بعد الثورة، وتواصل ذلك مع حكومة الوحدة الوطنية وكانت أوّل تجلياته، تفضيل رئيس الحكومة التحوّل إلى الوطن القبلي للمشاركة في تظاهرة للكشّافة عوض قبول دعوة عمادة المهندسين للإشراف على يوم المهندس، الذي كان قد إنعقد تحت شعار المهندس أمل تونس، بتاريخ 22 أكتوبر 2016 بقصر المؤتمرات بالعاصمة. مشروع قانون تنظيم مهنة الهندسة الذي أعدّته هياكل العمادة والمعروض حاليا على أنظار رئاسة الحكومة هو الآخر يراوح مكانه في أروقة المصالح المختصّة في القصبة بدعوى عدم توفّر الإمكانات البشرية لدراسته كما يُروّج. حزمة المطالب المشروعة التي ترمي إلى تعديل الكفّة لمهندسي القطاع العمومي بالمقارنة مع الأسلاك المشابهة لهم هي الأخرى تمّ التعامل معها على أنها ليست من الأولويات بتعلّة الصعوبات المالية، الشيء الذي لم يمنع الحكومة في المدّة الأخيرة، من إسناد زيادات إضافية هامّة لأسلاك، كانت تمتّعت بترفيع خصوصي في الدخل بعد الثورة.
وأمام هذا الوضع المنخرم، ضغطت القواعد الهندسية على مجلس العمادة لتبنّي نهج نضالي لتحقيق المطالب المشروعة لهذا القطاع المُهمَّش، واليوم نحبس أنفاسنا متسائلين ماذا بعد؟
من معضلات الحوار الاجتماعي في بلادنا والتي تنعكس سلبا على الاقتصاد والتنمية وتعيق تقدّم الوطن وازدهاره وتدفعه إلى التّداين وبالتالي ارتهان القرار السّيادي الوطني للخارج، هو أنّه ما من سبيل لفئة كي تنال نصيبها من الثّروة إلاّ بتعطيل الإنتاج والإضرار بالمصالح العامّة من خلال الإضراب، بما ينجرّ عن ذلك من إتلاف للثّروة. وبالتّالي فإنّ نصيبك في توزيع الثّروة حاليّا يكون على قدر الضّرر الذي تُلحقه بها لا على قدر مساهمتك في الزيادة فيها.  المهندسون يدركون عبثيّة هذا التّمشي الذي لا يمكن أن يقود إلاّ للخراب وبالتّالي فإنّهم امتنعوا وتعفّفوا إلى حدّ الآن عن سلوك هذا الطّريق لتثبيت حقوقهم. ولكي نخرج من هذه الحلقة المفرغة، لا بدّ لنا من ابتكار آليات جديدة لتوزيع الثّروة في بلادنا، تتجاوز الإضراب، حتّى تكون مكاسب كلّ مهنة أو فئة أو حتّى شخص على قدر المساهمة في خلق الثّروة لا في إتلافها. إذا حصل ذلك وإذا تمّ اعتماد منوال تنمية موفّق ينهض بالبلاد، فستكون الهندسة بدون شكّ على رأس المهن المُجزية ماديّا ومعنويّا.
وفي انتظار ذلك، فإنّ أصواتا بدأت تتعالى اليوم من بين جموع المهندسين، تنادي بأن يجعلوا من كلّ مفصل اقتصادي هم قائمون على ناصيته ‹كامورا› لتعطيل كلّ المصالح حتّى يصبح لهم صوت مسموع لدى أصحاب القرار وحتّى يعي الجميع أهميّة الدّور الذي يلعبونه. آخرون ممّن كلّوا وملّوا ولم يعودوا يرون أي بصيص من الأمل في نهاية النفق، صاروا يبحثون عن حلول خارج أرض الوطن، الشيء الذي فاقم نزيف الكفاءات وجعل من تونس الثّانية عربيّا من بين الدّول الطّاردة للعقول وتأتي في هذا التّرتيب مباشرة بعد سوريا. المجموعة الثّالثة التى لم تستسغ لا هذا التمشي ولا ذاك، انكفأت وانطوت على نفسها وتخلّت عن دورها وأصبحت كما يقول المثل الشّعبي تأكل القوت وتترقب الموت وهي تتألّم بصمت.
 إذا استحضرنا أن قطاع تطوير البرمجيات والاتصالات يساهم لوحده في النّاتج الوطني الخام بقدر ما يساهم به قطاع السّياحة ولكن بدون الحاجة إلى البنية التّحتيّة الباهظة التّكاليف وإلى الدّعم المالي الذي يصل إلى حدّ إسقاط الدّيون المتخلّدة لهذا القطاع على كاهل المجموعة الوطنيّة، وإذا علمنا بأنّ أكثر من ألف مهندس متخصّص في الإعلاميّة قد غادروا أرض الوطن في المدّة الأخيرة، أغلبهم للمساهمة في صنع ثروة الدّولة التي يقع عليها وزر الحالة المترديّة للهندسة وللمهندسين في بلادنا، فإننّا نقف حينئذ على حجم المأساة.
وإذ نستعرض كلّ ذلك فإنّنا نخلص إلى حقيقة مفادها أنّ النّهوض ببلادنا وتجاوز مخلّفات الاستعمار وإبطال تبعات الفساد لن تتسنى إلاّ بإصلاح أحوال الهندسة وبتبوّئ المهندسين المكانة التي هم بها جديرون وبلعبهم الدور الذي هم له أهل وما عدا ذلك ليس له من عنوان إلا العبثيّة والعدميّة وإهدار الفرص والوقت.