كلمات

بقلم
رشيد الذاكر
إشاعة الفاحشة بين الذين أمنوا
 إن من القضايا الأكثر شيوعا في عصرنا هذا قضيّة حمل النّاس على فكر أو عمل معين، فإذا أُريد حمل الناس على شيء من الأقوال أو الأفعال، يُروّج في أوساطهم بشكل واسع أنّ ذلك الشيء يُقال أو يُفعل رغم كونه منعدما، الأمر الذي سيحمل أفراد المجتمع على مباشرته أي التطبيق العملي لما أريد منهم فعله، فإذا كان الفعل حسنا فالنّفس أميل لفعل الحسن وإن كان قبيحا فالنّفس تستهوي فعل القبيح مادام العمل جاريا به من خلال ما يُشاع في النّاس ويُذاع، فالترويج للأفكار أو الأفعال - وإن لم تكن موجودة في الواقع - إذْنٌ لها بالإيجاد والسّريان. فيكفي التّرويج، على سبيل المثال، داخل مؤسّسة تعلميّة أنّ أبناءها يتناولون المخدرات بلا محاصرة ولا تبعات حتّى يصبح الأمر واقعيّا بعد أيام معدودات، فالتّلميذ يتلقّى سماعا وأن لم ير شيئا أنّ هناك من يتناول المخدّرات داخل مؤسّسته وتتكرّر عنده الفكرة يوما بعد يوم، فيبدأ التّفكير في فعلها مادام الآخرون يفعلونها، وهذا منطلق الشّرر ... ولمّا كان هذا الأمر بهذه الخطورة أولاه الإسلام اهتماما بالغا أوّلا من جهة التّوصيف، وثانيا من جهة وضع الإجراءات الوقائيّة، وثالثا الجرعات التّضمينية، وهكذا تجد هذا الدّين يقف من سائر القضايا الإجتماعيّة على هذا المنوال، فلا يقف من الجريمة عند توصيفها، وإنما يتجاوزه إلى بيان الأسباب التي أدّت إليها ثمّ إلى وضع العلاج الأنجع لها.
التوصيف
أما توصيف هذه القضيّة – إشاعة الفاحشة والمنكر بين النّاس – فقد جاء في سورة النّور قول الحقّ سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»(1) حيث يُظهر ربط هذه الآية بسياقها (قصّة الإفك) أنّ مجرد إشاعة الفاحشة أو المعصية بالقول مرتّب عليه الفعل بعد، وأنّ الأمر يزداد خطورة إذا كان ممّن تُشاع عنه الفاحشة ذا مكانة في الدّين كالعالم والفقيه وطالب العلم  كما هو الشّأن في قصّة الإفك حيث المستهدفة هي أمّ المؤمنين رضي الله عنها، فماذا يقول النّاس ألا تفعل ومن هو أفضل منك يفعل ... وكذا ما ورد في حديث  « إذا ابتغى الأمير الرّيبة في النّاس أفسدهم »(2) قال ابن الأثير وابن منظور: أي إذا اتهمهم وجاهرهم بسوء الظّن فيهم أدّاهم ذلك إلى ارتكاب ما ظنّ بهم، ففسدوا» فعلى مثل هذا يفعل من يريد أن تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا وهو القيام بالترويج لها، أو اتهام النّاس بارتكابها.
الإجراءات الوقائيّة
أما من حيث الإجراءات الوقائيّة فقد أرسى الإسلام قواعد أساسيّة ليتجنّب المسلمون إشاعة المعاصي والفواحش والمناكر في صفوفهم قولا ويتفادوها فعلا، ومن بين هذه القواعد: 
التثبت والتبين في قبول الأخبار
قال الله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (3) فإذا وصل الخبر إلى المسلم عن أحد في معصية من المعاصي فليتنبه بالتحري في ناقل الخبر أصادق أم لا،  والتثبت من الخبر نفسه إذ قد ينقل الصدوق الخبر الكاذب. 
منع الإنسان من التحدث بكل ما سمع
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: « كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكلّ ما سمع » رواه مسلم وذلك احترازا من منع انتشار المنكرات والفواحش، إذ الخبر قد يكون عند اثنين فيحدّث كل واحد منهما غيره فيصيران أربعة... وفي لحظة وجيزة يذاع الخبر على نطاق واسع، ولأجل هذا حرّم الإسلام على المسلم الحديث بكلّ ما سمع ولو كان الحديث صدقا وخاصّة إذا تعلّق الأمر بمنكر أو فاحشة.
اجتناب الظّن السّيء بالمسلمين
وله شواهد من القرآن والحديث كثيرة كقوله تعالى: «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ»(4) أي: ظنّ المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو السّلامة ممّا رموا به، وأنّ ما معهم من الإيمان المعلوم، يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل، ﴿وَقَالُوا﴾ بسبب ذلك الظنّ ﴿سُبْحَانَكَ) أي: تنزيها لك من كلّ سوء، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشّنيعة، ﴿هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ أي: كذب وبهت، من أعظم الأشياء، وأبينها، فهذا من الظّن الواجب، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن، مثل هذا الكلام، أن يبرّئه بلسانه، ويكذّب القائل لذلك» (5) .
منع التّجسس والغيبة والنّميمة
وهذه الثّلاث من أكثر الأشياء المفشية للأسرار المذيعة للأخبار في أوساط النّاس، فالتّجسس يريد منه صاحبه إخراج ما كان عن أعين النّاس خفيّا، والغيبة هي «ذكرك أخيك بما يكره ولو كان فيه» وهي أيضا تعمل على نشر مثالب الآخر وتسويقها، قال الله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ»(6) فانظر وتأمل حال من يغتاب غيره كيف شبّهه الله تعالى.
وأمّا النّميمة فهي نقل كلام بعض النّاس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء. قال الله تعالى: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ» (7) 
وجوب استتار المؤمن وستره عند البلاء:
وهي أيضا من القواعد الهامّة في توقيف سريان الفواحش في صفوف المسلمين وهي تتفرّع إلى قاعدتين اثنتين، الأولى: وجوب الاستتار عند البلاء ويشهد لها حديث في المستدرك وغيره «جْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيُتُبْ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِلْنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (8) وذلك أن الإنسان غير معصوم ألبتة من التلطّخ بشيء من المعاصي ولكن إظهار ذلك للنّاس والتبجّح به أمر منكر يزيد على منكره الأول، لذا وجب الاستتار لأنّ الإشهار مسلك من مسالك الانتشار، ولهذا كان من موانع مغفرة الذّنب إذاعته بين النّاس، فعن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله - عز وجل - ليستر العبد من الذنب ما لم يخرقه. قالوا وكيف يخرقه قال يحدث به النّاس»(9)، أما القاعدة الثانية: فهي ستر الشّخص الواقع في المعصية، ويستدّل لهذه القاعدة بقول الرسول «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ» (10) 
تشريع حدّ القذف
وهو ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (11) قال الأستاذ محمد على الصابوني تحت باب ما تُرشد إليه الآية، أنّ قذف المحصنات من الكبائر التي تهدّد المجتمع وتقوض بنيانه وأنّ اتهام المؤمنين بطريق القذف إشاعة للفاحشة في المجتمع، فبان بهذه القواعد التي ذُكِرت والتي لم تُذكَر أنّ الإسلام يقطع دابر الفساد قبل الوقوع فيه أو الوصول إليه، وقد استنبط العلماء من هذا عدّة قواعد أصوليّة وفقهيّة هدفها الأساس قطع الفساد قبل أن يقع أي قبل أن تُلجئ نفسك إلى التّفكير في طرق العلاج فأوقف الأمر ابتداء، كقاعدة سدّ الذرائع وقاعدة مراعاة المآل.ولذلك قالوا المنع أسهل وأقوى وأولى من الرّفع.
العــلاج
من القواعد المتّفق عليها في شريعة الإسلام أنّ كلّ شيء قابل لأن يعالج، وتنبغي معالجته، كل ذلك استنباطا من تظافر النّصوص النّاطقة بإنزال الله الدّاء والدّواء، ولذلك سار من القواعد الكلّيّة في الدّين أنّ الضّرر يزال، وعليه وضع الدّواء لهذا المرض الاجتماعي - إشاعة الفاحشة بين الذين أمنوا- عن طريق علاج بالإيمان وعلاج بالعقوبة، أمّا علاج الإيمان أو القرآن فهو إيكال المؤمنين إلى تديّنهم ومراقبة ربّهم في كلّ تصرفاتهم «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (12) فالتّدين الصّحيح يحمل الإنسان على تجنّب الفواحش، وتجنّب نشرها، بل وستر المؤمن والتّحدث عنه بالخير ولذلك يكون من كمال الإيمان إشاعة الصّلاح بين الذين أمنوا، ولأجل هذا جاء في الحديث  «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ» (13) وذلك أن ذكر المحاسن يحمل النّاس على التّأسّي بهم في فعلها ونفس الشّيء يقع عند الحديث عن الأحياء، فإنّ كان الكلام بالخير والمحاسن حمل المستمع على التّأسّي وخاصّة إذا أشيع بين الذين أمنوا والعكس بالعكس.
أمّا العلاج بالعقوبة، فهو ينقسم إلى عقوبتين: عقوبة تتعلّق بالإشاعة وعقوبة تتعلق بالمُبَاشَرة والفعل، أمّا عقوبة الإشاعة فالذي جاء التّنصيص على عقوبة إشاعته فهو القذف وقد تحدث العلماء عن مقاصد تشريع حدّ القذف وكلّها تتّجه نحو هدف أساس وهو صيانة الأعراض وتطهير المجتمع من الفواحش، هذا فيما يخصّ إشاعة الزّنا عن شخص معين، أمّا القذف بغيره فيبقى الأمر فيه للنّظر الفقهي والقضائي بحسب الزّمان والمكان وهو الذي يسمّى في كتب الفقه بالتّعازير.
أما عقوبة الفعل فهي تختلف حسب كلّ جريمة وتزيد عقوبتها أو تنقص بحسب الضّرر النّاتج عنها، ولذلك تجد في التشريع الإسلامي أن الجريمة الأكثر عقوبة ما تعلّق فعله بفساد المجتمع.
ولأنّ جلّ المجتمعات تنشد الأمن، وتنبذ الجرائم وإشاعة الفاحشة والمنكر بين أبنائها فإنّ العمل على تطبيق المنهج الإسلامي في معالجة تلك المنكرات ضرورة بشريّة، ولنا في كتاب الله ما يكفي من الإشارات والتوجيهات الربّانيّة التي نستطيع من خلالها النجاح في معالجة مختلف الأمراض الاجتماعيّة فهو المرجع الذي «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد» (14)
الهوامش
(1) سورة النور - الآية 19
(2) حديث حسن رواه أحمد وأبو داود
(3) سورة الحجرات - الآية 6
(4) سورة النور - الآية 12
(5) أهـ من كلام السعدي في تفسيره
(6) سورة الحجرات - الآية 12
(7) سورة القلم - الآيتان 10 و 11
(8) الحاكم في المستدرك 7696
(9) ذكره ابن عبد البر في التمهيد
(10) أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس
(11) سورة النور - الآية 4
(12) سورة ق - الآية 18
(13) رواه أبو داود (4900) والترمذي(1019)
(14) سورة فصلت  - الآية 42