الأولى

بقلم
فيصل العش
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفريضة المحرّّّفة
 مقدّمة
«الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» واجب شكّل قاعدةً لحركة الأنبياء والمرسلين والمصلحين وشرطا من الشّروط الأساسيّة لضمان سلامة المجتمعات وصلاحها قديما وحديثا وهو ليس حكرا على المسلمين أو المتدينين منهم بل هو واجب كلّ حالم بمجتمع متوازن ومتحضّر يقوم على العدل والقسط والسّلم الاجتماعي ويرتقي نتيجة لذلك في سلّم التّقدّم والازدهار، فقد مارسته أغلب المجتمعات الإنسانيّة منذ القدم كلّ وفق منظومتها القيميّة والأسس الفلسفيّة التي اعتمدتها لتحديد معاني المعروف من جهة والمنكر من جهة أخرى. 
ويحتلّ «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» لدينا نحن المسلمين مكانة خاصّة إذ هو بمرتبة الواجب قبل الصّلاة والزّكاة، وهو الشّرط الأساسي مع الإيمان بالله لنيل الأمّة «خيريّتها» ويتّضح ذلك في قوله تعالى «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه»(1) إذ أنّ «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» تعليل وسبب لما قبله، فإذا عطّلت الأمّة فريضة الأمر بالمعروف  والنّهي عن المنكر، فقدت صفة الخيريّة، لأنّ انقطاع السّبب انقطاع للمُسَبَّب.
وقد نصّ القرآن الكريم على وجوبه وجعله شرطا للفلاح في قوله تعالى: « وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (2)، «وصيغة (ولتكن منكم أمّة) ـ كما قال صاحب التّحرير والتّنوير ـ صيغة وجوب لأنّها أصرح في الأمر من صيغة (افعلوا) لأنّها أصلها» (3)، 
وفي المقابل، فإنّ ترك هذا الفرض من طرف أي مجموعة بشريّة يؤدّي حتما إلى عدم فلاحها ويجلب لها اللّعنة والعقاب. يقول الله سبحانه وتعالى : «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»(4) وجاء في الحديث:«والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»(5)
وليس هناك أكبر من عقاب «الاستبداد» الذي يمكن أن ينزل على الأمم التي تترك هذه الفريضة جانبا ولا تمارسها. فتعيش القمع والقهر وما يترتّب عن ذلك من تردّ للخدمات وانتشار للفساد ومصادرة للرّأي وتكميم للأفواه وأفول للحركة العلميّة والثّقافية، ممّا يؤدّي حتما إلى التّأخر والتّخلف الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي.
ومقابل ذلك تعيش العديد من الأمم نتيجة ممارستها «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» حياة هنيّة تقوم على الحرّية والكرامة وتطوّر اقتصادي وتقدّم علمي وفكري وتقني، ذلك أنّ تلك الممارسة ترتقي بجميع جوانب المجتمع النّفسية والفكريّة والعلميّة، فتحتلّ الحرّية موقع الاستبداد والعدل مكان الظلم والعلم موضع الجهل فتسير تلك الأمم إلى مزيد من الرقي والازدهار. وتلك من سنن الله ولن تجد لسنّة الله تبديلا ولا تحويلا.
وبالنظر إلى واقع حال أمتّنا، نرى أنّه لا يدلّ على فلاحها بل على تخلّفها وانحطاطها بالرغم من أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر شعارٌ مرفوعٌ في كلّ وقت وحين إلى درجة أنّه تحوّل في العديد من الدّول العربيّة الإسلاميّة إلى أجهزة رسميّة على غرار ما هو موجود في بلاد الحرمين!!!. فهل الخلل في المبدأ نفسه أم في تطبيقاته المختلفة؟ وهل يمكن الحديث عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في عصرنا الحاضر بنفس المعنى الذي ظهر به عند بعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؟ وهل المجتمعات المسلمة بحاجة إلى هيئةٍ رسميّة تناط بعهدتها مهمّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أم أنّ هذا الأمر من مشمولات الجميع، أفرادا وجماعات؟
ما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ 
من المنطق أن نعَرّف الأمر والنّهي، والمعروف والمنكر قبل الإجابة عن بعض من هذه الاسئلة. جاء في كتب اللّغة أنّ المعروف: «ما يستحسن من الأفعال، وكلّ ماتعرفه النّفس من الخير وتطمئن إليه» (6).والمنكر: «كل ما قبّحه الشّرع وحرّمه وكرّهه» (7).وقيل عن المعروف: «هو اسم لكلِّ فعل يُعْرَف بالعقل أو الشّرع حسنه. والمنكر: ما ينكر بهما»، (8) أي «كلّ فعل تحكم العقول الصّحيحة بقبحه أو تتوقّف في استقباحه واستحسانه، فتحكم بقبحه الشّريعة»(9). 
فالمعروف إذن اسم جامع لكلّ ما ينبغي فعله من خير وهو كلّ قول أو عمل يجلب منفعة أو مصلحة للذّات أو للغير سواء كان فردا أو مجموعة بشريّة صغيرة كانت أم كبيرة. فهو العدل والبرّ وإنصاف المحرومين وإغاثة الملهوفين ونصرة المستضعفين. وأمّا المنكر فهو نقيض المعروف وتوأمه المقابل وهو اسم جامع لكلّ ما ينبغي تركه من شرّ وهو كلّ قول أو عمل يُفسد ولا يُصلح أو يتسبّب في الضّرر.
أمّا الأمر والنّهي فهما طلب ذو وجهان، الأوّل إيجابي هو الأمربالقيام بفعل أو بقول والثّاني سلبي هو النّهي أي طلب الامتناع عن قول أو فعل. و«الأمر والنّهي ثنائيّة تتألّف من ضدّين تنظّم السّلوك الإنساني الواعي. ونلاحظ فيها ارتباطاً جدليّاً بثنائيّة أخرى هي (الطّاعة والمعصية)، إذ بدون أمر أو نهي لا توجد طاعة ولا معصية (...) فالأمر والنّهي عند الطّرف المخاطَب المأمور مسألة اختياريّة، إن شاء أطاع المطلوب منه فنفّذه وإن شاء عصى على المطلوب منه فامتنع عن تنفيذه» (10) 
لهذا وجب التّمييز بين الأمر بالمعروف، وحمل النّاس على المعروف، من جهة والنّهي عن المنكر، وحمل النّاس على الانتهاء عن المنكرمن جهة ثانية، وبالتالي فإنّ مهمّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يمكن أن تكون بيد السّلطة مهما كان نوع نظامها مستبدّا أو ديمقراطيّا لأنّ السّلطة بطبعها تحتكر القوّة والإكراه، وتستعملهما لفرض القوانين التي هي ملزمة. فهي تتعامل مع المنكر بصفته خطرا يهدّد سلامة المواطنين، فتضع القوانين لمعاقبة مرتكبيه وزجرهم وهذا لا يدخل في باب «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» وإن كان ما تقوم به واجبا من واجباتها وأمرا لا مفرّ منه بما أنّ كلّ اجتماع بشري بحاجة إلى وجود سلطة تمارس الإكراه من خلال القوانين، لتنظيم شؤونه وصيانة حقوق أفراده.
لنأخذ بعض الأمثلة لنوضّح هذه المسألة. تعاني بلادنا وسائر بلاد المسلمين من منكر لم يكن موجودا في عهد الإسلام الأول وهو السّرعة في سياقة السّيارات، وهذا منكر لا اختلاف فيه لما له من نتائج كارثيّة على المجتمع، حيث يتسبّب في إزهاق آلاف الأرواح سنويّا. النهي عن هذا المنكر تتكفّل به جمعيّات السّلامة المروريّة كالجمعيّة التّونسيّة للوقاية من حوادث الطّرقات، وذلك عبر القيام بالحملات التّحسيسيّة في الطّرقات وفي الأماكن العامّة، تنبّه فيها السّائقين من مغبّة السّياقة بسرعة مفرطة وعدم احترام قوانين المرور. أمّا دور الدّولة فهو مقاومة هذا المنكر عبر فرض قوانين تحديدالسّرعة وتنظيم المرور وأخرى لمعاقبة المخالفين وردعهم. 
مثال آخر يتعلّق بمنكر «الاحتكار» وهو منكر ينجرّ عنه غلاء الأسعار وكسب المال على حساب قوت  المواطنين. النّهي عن هذا المنكر تتكفّل به جمعيّات الدّفاع عن المستهلك وتعاونيّات المواطنين، وذلك عبر القيام بالحملات التحسيسيّة في الأسواق وحملات مقاطعة المواد غالية السّعر. أمّا دور الدّولة فهو مقاومة هذا المنكر عبر مراقبة الأسواق ومعابر السّلع وإصدار قوانين لردع المحتكرين ومتابعتهم أمنيّا وقضائيّا. وقس على ذلك في التّعامل مع منكر «تعاطي المخدّرات» و«العنف الأسري» و«الشّعوذة» و«التّحرش الجنسي» الخ.. النّهي عنها تتكفّل به الجمعيّات الأهليّة ومؤسّسات المجتمع المدني، أمّا مقاومتها والقضاء عليها فهي من مشمولات الدّولة من خلال أجهزتها وقراراتها.
نستخلص أنّ الأمر بالمعروف دعوة إلى الأفعال والأقوال الحسنة يكون فيها التّراحم والعدل والشّفقة والإنصاف أهم صفات القائمين عليها، والنّهي عن المنكر تحذير من التورّط في ما هو سيئ منبوذ من دون عنف أو إكراه، ولا يشمل «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» العبادات والأخلاق واللّباس والحرام والحلال فقط كما ذهب إلى ذلك العديد من الجماعات الدينيّة والمفكرين والفقهاء وغيرهم ممن ضيّقوا واسعا، بل يشمل كلّ مجالات الحياة وكلّ ما من شأنه أن يؤثّر سلبا أو إيجابا على الإنسان فردا كان أم جماعة. غير أنّه يجب التّمييز بين المجال الخاصّ والمجال العامّ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كممارسة ميدانية لا تشمل إلاّ المجال العام، ولا يصحّ أن تتعدّاه إلى الفضاء الخاصّ، الذي يتطلب اختراقه وكشفه اعتماد الملاحقة والتّجسس والمراقبة وهي أمور منهيّ عنها. يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا» (11)  قال القرطبي: «ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتّبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتّى يطّلع عليه بعد أن ستره الله». 
فرض عين أم فرض كفاية؟
إنّ المنوط بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المجتمع كله، لكنّ المواطن مطالب بأن يتعلّم ما هو المعروف وما هو المنكر قبل المشاركة في الفِعْل، كما يتعلم صفة الصلاة وأركانها وشروطها قبل القيام إليها وإقامتها. مصدر التعلم والتلقي، هم «العلماء» و«المختصّون» ولا نقصد هنا علماء الدّين من الفقهاء والمتصدرين للفتوى وإنّما أهل الاختصاص لأننا نعيش عصرا ميزته التخصّص، ولأنّ المعروف يشمل كلّ مناحي ومجالات الحياة فإنّ فيه أصنافا بعدد الاختصاصات وكذلك المنكر، لهذا فإنّ لكلّ صنف مختصّين، فإذا كان الحديث عن المعروف والمنكر في التعاملات المالية وتصريف الأسواق فأهل الاختصاص هم رجال الاقتصاد وعلماؤه والمشاركة في الفعل تكون عبر الجمعيّات ومؤسسات المجتمع المدني التي لها علاقة بالميدان وإذا كان مجال المعروف والمنكر في ميدان التعليم فإنّ أهل الإختصاص هم خبراء المهنة والمتفقدون والمشاركة في الفعل تكون عبر الجمعيّات التي تعتني بإصلاح التعليم ومراكز الدراسات المختصّة في المجال وجمعيات التربية والأسرة وجمعيات المربّين الخ...
ونؤكّد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو محاصرة لبؤر الفساد والإفساد ومنابع الشرّ في جميع مجالات الحياة، لايمكن أن تكون وظيفة رسميّة تمارسها طائفة معيّنة تحتكرها لنفسها بل هي مهمّة برتبة «فرض عين» على كلّ مسلم ومسلمة ومواطن ومواطنة سواء نفّذها بصفة منفردة أو بصفة جماعيّة من خلال مختلف مؤسّسات المجتمع المدني، لأنّ التّقاعس عن تنفيذ هذه المهمّة أو التخلّي عنها من شأنه أن «يُشيع» الانحراف والفساد في جنبات المجتمع. وبهذا فإنّنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه البعض في اعتبار الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرض كفاية وهو من حيث القول من مشمولات فئة معيّنة وهم الفقهاء وعلماء الدّين لما لهؤلاء من معرفة بالشّرع وحدوده وهو من حيث الفعل من مشمولات السّلطة الحاكمة أو من ينوبها لما لها من سلطان على النّاس(13) ويرتكز هؤلاء على معنى كلمة «منكم» في الآية الكريمة «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..»(14) على أنّها للتبعيض والحال أنّها هنا للتّبيين، والدّليل السّياق الذى جاءت فيه الآية، فقد توجّه الله بالخطاب إلى كلّ الأمّة في ما سبق هذه الآية وفيما جاء بعدها في آية أخرى من نفس السّورة «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ». وفي قوله تعالى: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (15) دليل آخر على أنّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ليس مقتصرا على فئة من المسلمين، ففي الآية سرد لصفات المفلحين المؤمنين المبشّرين بالجنّة، وقد ذكر من بينها الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر.
الفريضة  المحرّفة
إنّ النّاظر في حال الأمّة يستنتج أنّ «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» قد وقع تحريفه دينيّا وأصبح من حيث الممارسة مغايرا لمعناه الأصلي، ولهذا دخلت الأمّة في كهف التّخلّف والانحطاط، فقد أصبحت هذه الفضيلة منبوذة لدى النّاس وسيفا مسلّطا على رقابهم لتعيش الغربة في أتعس مظاهرها، غربة فكريّة وثقافيّة وغربة اجتماعيّة. لقد أدّى تحالف المؤسّسة الدينيّة مع السّلطان منذ قرون عديدة إلى تكريس مَعْنى جديد للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يقوم على القهر والإكراه خلافاً لما نصّ عليه القرآن الكريم، حيث استغل هؤلاء لفظ «الأمر» وأخذوه على أنّه سلطة أمر ونهي واستعلاء واستطالة على النّاس. ونظّمت فريضة «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» فقهياً في مؤسّسة أطلق عليها «الحسبة»(12) تجمع باسم الدّين بين سلطة الشّرطة فى التّحرى والاعتقال، وسلطة القاضى فى إصدار العقوبة، وسلطة الجلّاد فى تنفيذ الحكم. وقد أعاد الوهابيّون إحياءها فى شكل هيئة حصرت الأمر في مراقبة النّاس في المسائل التّعبدية كالصّوم والصّلاة ومسائل شكليّة كاللّباس خاصّة بالنّسبة للمرأة، لتتحوّل إلى حركة سطحيّة ضحلة، تتلخّص في التّعرّض للنّاس بالضّرب والجرح في الأزقّة والشّوارع. فارتبط «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» فى أذهان النّاس بتدخّل القائمين بهذه الوظيفة فى حرّيتهم الدّينية والشّخصية فى تناقض صارخ مع روح الإسلام. 
وانطلاقا من المرجعيّة ذاتها ظهرت مختلف الجماعات المتطرّفة ومنها المسلّحة وأهمّها «داعش» لتفرض على النّاس ايديولوجيتها المتعصّبة تحت شعار «الأمر بالمعروف» وتمارس قتلهم ومصادرة حرياتهم تحت شعار «النّهي عن المنكر».
رأي في حديث «الخدري»
نتوقف قليلا عند حديثٍ يعتمده الكثيرون في كلامهم عن «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» ويحتجّ به البعض لاعتماد العنف والبطش أثناء تنفيذ ذلك، ويعتبر هؤلاء أنّ تغيير المنكر باللّسان والقلب من صفات ذوي الإيمان الضّعيف، وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حين قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(16). وهذا الرّأي مردود على أصحابه لسببين أولهما أن موضوع الحديث هو تغيير المنكر وليس النّهي عنه والفرق كبير بين الأمرين وثانيهما أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلّم، الذي بعثه الله ليُدخل النّاس في السّلم كافّة، ما كان ليفتح باب تغيير المنكر للأفراد جميعا، لأنّ ذلك سيجعل من المجتمع غابة تتنازع فيها الأيدي بالعنف والبطش بحجّة تغيير المنكر. وفي تقديرنا فإنّ الحديث صنّف المتدخّلين في مهام مقاومة المنكر وتغييره حسب استطاعته أي بحسب ما لديه من سلطة، وهم ثلاثة أصناف: صنف يقاوم المنكر ويغيّره بما لديه من وسائل للردع («اليد» في الحديث كرمز لتلك الوسائل) يشمل هذا الصنف في زماننا الشّرطة والقضاء والجيش، وصنف ثانٍ مهامه «النّهي» عن المنكر بالوسائل المتاحة له («اللّسان» في الحديث كرمز لوسائل النّهي) وتشمل في عصرنا الحاضر اللّسان ووسائل الاتصال الحديثة والتّظاهرات ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئيّة ..الخ أي مختلف الوسائل التي باستطاعة المجتمع المدني استغلالها للقيام بمهامه في النّهي، ويشترط في هذا الصّنف أن يكون مختصّا في المجال المتعلق بذلك المنكر وتكون له المؤهّلات الكافية للقيام بتلك المهام، لهذا يمرّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الصّنف الثّالث ويشمل بقية أفراد المجتمع. لا يملك هذا الصّنف وسائل الرّدع من جهة وهو غير ملمّ بكيفيّة النّهي عن ذلك المنكر لأنّه يخرج عن ميدان اختصاصه من جهة أخرى، فدوره عدم مساندة المنكر وإنكاره بالقلب وليس باللّسان لأنّه إن تدخّل بلسانه وتحدّث عن أمر ليس له فيه معرفة كافية فسيُضيف إلى المنكر منكرا آخر وهو الحديث في ما يجهله. قال تعالى : «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(17)
خاتمة
إنّ تحرير «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» أمر حيوّي لمن يريد إصلاح حال هذه الأمّة وإخراجها من ظلمات التّخلف والانحطاط ولا يتمّ ذلك إلاّ عبر قراءة معاصرة لهذا التّكليف الرّباني تُحرّر مجاله وآليات ممارسته ضمن إطار من السّلم والتّعايش المشترك بين أفراد المجتمع الذي يضمنه وجود مجتمع مدنيّ قويّ متنوع وجمعيات أهليّة مختلفة الاختصاصات بعيدا عن القمع والإكراه وتنفيذا لمبدأ «الدّين النّصيحة»(18).
الهوامش
(1) سورة آل عمران - الآية 110
(2) سورة آل عمران - الآية 104
(3) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور ، مجلد 2، الجزء4 - ص 37
(4) سورة المائدة - الآيتان 78-79 
(5) الترمذى: كتاب الفتن، جـ4، حديث رقم (2169) 
(6) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي 1 / 483
(7) حف العقول، ابن شعبة الحرّاني: ص168
(8) لسان العرب، ابن منظور: 9 / 239
(9) لسان العرب 5 / 233
(10) د.محمد شحرور، تجفيف منابع الإرهاب،مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة- 5، ص145 ط،1
(11) سورة الحجرات - الآية 12
(12) يعد الماوردي (ت 450هـ) أول من كتب في الحسبة وجعلها ضمن الولايات الدّينية وميزها عن ولاية المظالم في كتابه «الأحكام السلطانية»، وقد قال عنها أنها «من قواعد الأمور الدينية، وكان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها».. الماوردى: الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، تحقيق أحمد مبارك البغدادى، الكويت، دار ابن قتيبة، 1989، ص: 339.
(13) انظر قول ابن تيمية « وذوو السّلطان أقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم» أ هـ الفتاوى 28/65
(14) سورة آل عمران - الآية 104
(15) سورة التوبة - الآية 112
(16) رواه مسلم
(17) سورة الإسراء - الآية 36
(18) عن تميمٍ الداري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدّين النّصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامَّتهم» - رواه مسلم (55) وأخرجه أبو داود في «كتاب الأدب» «باب في النصيحة» حديث (4944)