قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
ثنائية الخوف و اليأس
 هل أتاحت لنا الثّورات العربيّة المتعاقبة فرصة للحلم أم زادتنا إحباطا ويأسا؟ هل عدنا إلى مربّع الإحباط بعد أن خلنا أنّ المركب قد انطلق بنا فعلا إلى مرافئ السّعادة ؟ هل مازلنا نعتقد أنّ الحلم بالتّغيير وبالانبعاث الحضاري قد بات ممكنَ التحقيق أم أنّنا مازلنا بعيدين عنه عقودا أخرى وربما قرونا؟.
لقد كنّا نعتقد أنّ المشكل يكمن في السّياسة أوّلا ولطالما اعتبرنا السّلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولعلّ التّضحيات الجسام التي ما انفكت نخب الوطن تبذلها جيلا بعد جيل أصدق تعبيرا عن مدى إيماننا بأهمّية التّغيير السّياسي. ولم تكن الثّورة إلاّ تعبيرا عن رغبة الشّعوب الجامحة في التّخلص من عبء الحكم المتسلّط واستعادة زمام المبادرة، فما الذي حدث وأدّى بنا سريعا إلي النّكوص على أعقابنا حتّى بتنا لا نأمن الغد أصلا، فضلا عن الأحلام الكبرى التي تكاد تتحوّل إلى سراب؟
يبدو الأمر غاية في التعقيد، فقد كان أجدادنا يرون في التّخلص من الاستعمار سبيلا للمجد حتّى ابتلوا بمستبدّين كانوا أشدّ عليهم من المستعمر وصار منتهى ما يطمح إليه الطّامح أن يعيش آمنا من جبروت الحاكم وحتّى ولو عائشا خائفا ذليلا .أمّا أجيال الشّباب المتعاقبة، فقد كانت تندفع نحو مقاومة الاستبداد غير آبهة بعواقب التّمرد، ويكفي أن يلقي المرء نظرة على سجلاّت الشّهداء والمساجين حتّى يدرك هول ما لحق بهؤلاء الشّجعان. ليس هذا فحسب بل إنّ الأمر تخطّى السّياسة إلى كلّ المجالات الأخرى اقتصاديّة كانت أو ثقافيّة أو معرفيّة، جعلت المجتمع رهنا لرغبات فئة متنفّذة تتحكّم بكلّ شيء ولا يردعها رادع حتّى شاع الخوف بين النّاس وخيّم على قلوبهم يأس من المستقبل ومن كلّ ما يمكن أن يجعل الغد أفضل من الحاضر.
يكاد وضعنا يشبه وضع الرّحى حيث تدور من نقطة ما تلبث أن تعود إليها دون أن تتوقّف عن رحي ما يقع بين فكيها، كان أمل أجدادنا في الإستقلال كبيرا وكانوا يمنّون النّفس بوطن يكون لأبنائهم فيه نصيب مقيم  وحين آلت الأمور إلى دكتاتوريّات بغيضة صار الأمل فى التّغيير صعب المنال وخيّم اليأس على النّفوس حتّى قامت الثّورات العربيّة، فعاد الأمل يحدو الجميع وكان أملا مضاعفا لأنّنا ظننّا أنّ مصيرنا قد صار بأيدينا وأن الأجيال التي قاومت وناضلت من أجل بلادها سوف تكون رحيمة بها وبأهلها وسوف تعيد بناءها على النّحو الذي حلمت به طويلا، فتكون بلاد عدل ونماء وحرية.
لماذا عاد الخوف يستبدّ بنا من جديد؟ ولماذا تقلّصت آمالنا في غد أفضل نصنعه بأيدينا ليكون هديتنا للأجيال القادمة؟ لا شكّ إنّ فساد السّياسة كان أدعى لفساد ما دونها وما فوقها، غير أنّ فساد السّياسة ليس كلّ الأمر. لقد تبيّن لنا منذ الوهلة الأولى أنّنا لم نكن جوعي للحرّية وللمشاركة السّياسية فقط وإنّما كنا جوعى لكلّ شيء، لقد بدأنا منذ الأيّام الأولي نعدّ معاول الهدم قبل إعداد معاول البناء، إذ ذهب عنّا الخوف من النّظام الحاكم وبطشه فلم نعد نخاف من شيء وعلي أيّ شيء. ولعلّنا مازلنا نذكر الطّفرة في المطلبيّة التي أعقبت الثّورة حتّى أنّه لم يتخلّف قطاع عن المطالبة بالزّيادة في الأجور وتحسين الأوضاع بما لم يكن مناسبا لأوضاع شعب بدأ لتوّه ثورة من أجل التّغيير ولدولة لم تكن تملك الحلول لأيّ شيء.
كان الكل يدرك أن لا حلول فى الأفق القريب أو البعيد، وكان الجميع يعرفون أنّ الغرق سوف يدرك المركب عاجلا أو آجلا ومع ذلك استمرّت المطلبيّة تنخر عود الدّولة حتّى كادت تأتي عليه، فهل كانت تلك المطلبيّة غباء وقع فيه من ليسوا بحمقى أم كان تعبيرا أمينا عن حجم الخوف الذي كان يشعر به كلّ فرد في ما بينه وبين نفسه حتّى استحال هذا الخوف إلى رغبة في إفناء الجميع ذات وجماعة وعليّ وعلى أعدائي؟.
كلّما تضاءل الأمل كلما ازداد الخوف شيوعا واستفحالا. وإذا شاع الخوف وبدأ الانسان يفقد الأمل فى الأمن والاستقرار صار كائنا أقرب إلى العنف منه إلى السّلم، وليس شرطا أن يكون هذا العنف عنفا تجاه الآخرين وعدوانية، بل لعلّ الأسهل أن يكون هذا العنف عنفا تجاه الذّات ولعلّ المتمعّن في الظّواهر التي انتشرت مؤخّرا فى مجتمعاتنا يدرك هذه الحقيقة بوضوح . إنّ ظواهر كالطّلاق والانحراف بأنواعه وتعاطي المخدّرات والإدمان على الخمور والبغاء والبطالة الطّويلة والفراغ وقتل الوقت واللامبالاة، كلّها ظواهر تترجم عدوانيّة الإنسان تجاه ذاته أولا وهي الذّات التى من المفترض أن يبذل أقصى جهده فى حمايتها من أيّ عدوان.
يقترن الخوف من المستقبل عادة باليأس والقنوط، فإذا صار الانسان يائسا بدأ يفقد القوّة اللاّزمة لمجابهة أزمته لتبدأ طاقته فى الاضمحلال والتّلاشي وهكذا يصبح لقمة سائغة لأيّ مرض من الأمراض الاجتماعيّة المنتشرة أو لأيّ عصابة من العصابات التى تبحث عن صيد، فيتحوّل إلى إرهابي أو مجرم أو يصبح رقما من الأرقام فى مركب من تلك المراكب التى تبيع الوهم للشّباب من خلال إلقائه لقمة سائغة للبحر دون شفقة ولا رحمة بعد أن تحصل منه على ثمن موته المحقّق.
إنّ ثنائية الخوف والأمل ليست بحال فى عزلة عن ثنائية الجوع والأمن ولا عن ثنائية التّنمية والاستقرار إذ لا أمن و لا أمل ولا بقاء لخائف لا يدري كيف يكون غده فى بلاد يملؤها الخوف