قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة يوسف عليه السلام( 4) يوسف يدير خطتين : خطة الإلحاق العائلي وخطة الأزمة الإقتصادية
 الآن تحقق الوعدان الإلهيان : ها هو يوسف يؤوّل الأحاديث وها هو يمكّن له في الأرض والحقيقة أنه بالوعد الأول ـ بالنعمة الأولى ـ أغدق عليه الوعد الثاني فهما صنوان يتكافلان. مازال وعد ثالث سيأتي في إباته وخلاصته قوله في أول القصّة : «لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ». الآن هو الوزير السّيادي الأول الذي يعالج أزمة إقتصاديّة ماحقة في الشّرق الأوسط بأسره وهي أزمة تحتاج إلى تخطيط دقيق ولذلك فهو : عليم كما زكى نفسه بإذن من ربّه وهو : حفيظ. ولا بدّ لإدارة هذه الأزمة التي تمسّ النّاس في معاشهم مسّا مباشرا من الشّرطين معا : القوّة والأمانة أو الحفظ والعلم. بدأت الوفود من أصقاع الأرض تتوافد على مصر ـ مطمور الأرض في تلك الأيام ـ تقايض بضاعة بأخرى. ومن تلك الوفود وفد أبيه يعقوب ممثّلا بإخوته. دخلوا عليه في أوّل مناسبة فعرفهم ولكنّهم أنكروه غفلة وليس عمدا إذ لا يتسلّل إليهم أنّ يوسف مازال على قيد الحياة يرزق وقد إستودعوه جبّا في فلسطين بله أن يكون عزيز مصر. بدأ يوسف في التّخطيط لأمرين : أولهما إستقدام أبيه من فلسطين من بعد غياب لسنوات طويلات. وثانيهما معالجة الأزمة المالية الطّاحنة. دعنا من السّرد التّاريخي الذي يجده كلّ طالب علم مبثوثا بيسر وإبانة في سورة يوسف متفرغين لإستنباط العبر
العبرة الأولى : 
إذا أدرت إمتحان العسر بنجاح فأرقب إمتحان اليسر
وعد موعود من مالك الكون وخالق الإنسان ومدبّر الأمر سبحانه ألا يحطّ الإنسان رحاله مادام رمقه ينبض إلاّ وهو على بسط من الإبتلاء إمّا بالعسر أو باليسر. ذلك هو حال يوسف ما إن أدار بتسديد من ربّه سبحانه مرحلة العسر الطّويلة بنجاح وفلاح ( جبّ إخوانه وحالة الرّق ومراودة سيدته والسّجن ) حتّى إستلمته مرحلة اليسر وهو إمتحان جديد. كلاهما إمتحان ولكن بطعم مختلف بل إنّ المحققين المسددين من مثل إبن القيم إنتهوا إلى أنّ إمتحان اليسر أشدّ على الإنسان من إمتحان العسر والحقيقة أنّ هذا مجرب لمن ذاق طعم الأمرين وذلك بسبب أنّ النّفس إلى ربّها أوّابة رجّاعة أيام العسر، فإذا هبّت عليها نسمات اليسر الأولى حملت معها بذور الفجور والإسراف، غير أنّ من رحمته سبحانه أنّه لا يبسط عليك أردية عسر إلاّ وفيها من اليسر ما فيها وما يبسط عليه أردية يسر إلا وفيها من العسر ما فيها. هذا تحليل نفسي لا بد منه سيما للذين يعالجون الإصلاح وحركة التغيير ولكن دعنا منه الآن. هذا يحمل معه عبرة أخرى دعنا نجملها في كلمة واحدة عنوانها أن المدبّر الحكيم سبحانه لا يعجزه أن يجعل من الطّفل الصغير الملقى في جبّ وزيرا سياديّا يدير خطّة إقتصاديّة كبرى سوى أنّ الإنسان يتعجّل الأمر ولا يرصد بفؤاده وبمصابرته يدّ الرّحمان سبحانه وهي تنسج المصاير التي لو حدّث بها المرء وهو في حميم العسر لضحك ساخرا
العبرة الثانية : الحيل والمراودات والتدين المزيف
سورة يوسف من مهامها الأولى العظمى رسم قضايا الحيل والمراودات رسما إسلاميّا صحيحا ويزاد هذا تفصيلا بحوله سبحانه في ختام الدّروس العظمى للقصّة كلّها.  يوسف توسّل بالحيلة ـ بالمراودة ـ لأجل إستقدام أبيه ولذلك طلب من إخوته أن يأتوا إليه في الرّحلة القابلة بأخ لهم من أبيهم وربّما أغراهم ـ باللّسان أو بالحال ـ أنّ ذلك يضاعف من زادهم إذ بكلّ رجل جديد بعير جديد وبضاعة جديدة سيّما أنّ الأزمة تخيم بظلالها السّوداء على المنطقة كلّها. بل أغراهم ـ هذه المرّة بالحال ـ  بأنّ أعاد إليهم بضاعتهم التي قدموا بها من فلسطين ولكن لم يشعرهم بذلك أي أنّه قام بحيلتين إثنتين معا : تحيّل عليهم ـ بل لهم ـ إذ وضع بضاعتهم في رحالهم دون علمهم ولو أعلمهم بذلك لكانت الخطّة معرضة للفشل كما تحيّل عليهم بأن يأتوا بأخ لهم من أبيهم على وجه التّحديد والغريب هو كيف أنّهم لم ينتبهوا لهذا. من أدرى هذا العزيز المكين أنّ لهم أخا من أبيهم؟ ربّما تحيّل عليهم ـ أو لهم ـ مرّة ثالثة بأن تقرّب منهم ففاتحوه بحالهم وهم يحسبون أنّهم يحدثون غريبا لا يدري عنهم شيئا. هي سورة المراودات. حتّى إخوته إستخدموا الكلمة نفسها التي إستخدمتها سيدته وهو رقيق عندها أي المراودة . سنراود عنه أباه. ما شأن الحيل هنا ومراوداتها بالتّدين المزيف؟  المتديّنون اليوم فريقان. فريق ينبذ الحيل والمراودات جملة وتفصيلا حتّى لو كانت وسائل لا تجرح كرامة ولا تهدر حقّا وتفضي إلى مقاصد محمودة كما هو حال يوسف هنا وهو حال سليمان مع بلقيس في تنكير العرش. هؤلاء لا يعلمون أنّ حكم الوسيلة هو حكم مقصدها ما لم تصدم نصّا أو مقصدا بالتّعبير الأصولي. وفريق آخر ظاهره الإسلام وباطنه « الميكافيلية» القائمة على قاعدة : «الغاية تبرر الوسيلة». فما كانت غايتة نبيلة فلا ضير عليك أن تتوسّل إليه بكلّ وسيلة حتّى لو كانت خبيثة. هما تديّنان مغشوشان حتّى لو كان كلاهما يسير في الإتجاه المعاكس للآخر. ولذلك جاءت هذه القصّة تؤصّل لنا الحيل والمراودات لتكون وسائل بيضاء محايدة فتستخدم لبلوغ غاية نبيلة ولكن دون الوقوع في عرض إنسان أو تلحق الضّرر بأحد. ذاك هو مظهر من مظاهر توازن هذا الدّين وإعتداله. ألم يقل عليه الصّلاة والسّلام : «ليس الكذّاب من يصلح بين النّاس»؟ ألم يستخدم إبراهيم الخليل مثل هذه الحيل وهو يتظاهر بالسّقم ليفرّ القوم منه فيخلو له الجوّ لتحطيم سيد الأصنام؟ ألم يحطّم سيد الأصنام فحسب دون البقيّة حيلة تجعل القوم يراجعون أمرهم وهو ما حصل فعلا لولا أنّ الكبر أحاط بهم من جديد؟ فمن تورّع عن إستخدام الحيل والمراودات جملة وتفصيلا بزعمه أنّه تقي ورع فما هو كذلك إلاّ أن يدّعي أنّه من الخليل أتقى أو من يوسف أو سليمان. ومثله من يستبيح الحرمات تحيّلا على النّاس بدعوى أنّ الضّرورات تبيح المحظورات أو أنّ العبرة بالنتائج أو بكلام آخر سفيه يلجأ إليه المارقون من الدّين مروقا
العبرة الثالثة : يعقوب يهديك منهاجا إصلاحيّا مركبا  
هذه القصة سحرتني سحرا عجيبا لسببين. أولهما أنّ العبد الفقير عاش شيئا منها ولا أزيد عن ذلك عدا أن يعقوب عندي رجلان : هو الوالد الذي إكتوى بنار مثل نار ولده لمّا كان الشّاب المتوقّد الطّموح الجموح يغامر لا يلوي على شيء وهو الوالد الذي يكتوي شابّ الأمس بناره وهو يرى في بعض ولده مثل ما كان فيه. السّبب الثاني : لأمر ما لم أسبر غوره ولم أكنه أحاجيه أجدني ممتلئا تعاطفا مع أبطال هذه القصّة كلّما قرأتها أو ذكرتها. أجدني إلى اليوم أتعذّب لعذاب يعقوب وهو ينبّأ بأنّ صغيره أكله الذّئب ثم وهو يفقد أخاه الآخر ثمّ وهو يعمى حزنا وحرضا وكمدا. هذا حديث الرّوح دعنا منه. 
إذا كان يعقوب قد فرط في إبنه الأصغر الأول ـ يوسف ـ بقولهم : أرسله معنا يرتع ويلعب .. فإنّه اليوم يفرط في إبنه الآخر أملا في بعير جديد ومير جديد إذ لا أمل في شيء من ذلك إلاّ بإصطحاب أخ لهم من أبيهم بحسب شرط العزيز. تلك حكمة أولى يقدم عليها يعقوب ولك أن تتصوّر كبده وهي تعتصر ألما وحرقة إذ لا ثقة له في أبنائه الذين غيبوا أخاهم الصّغير حسدا. شعور لا يدركه إلاّ رجل واحد ذاق طعم الأبوّة وحنان الفلذة ثم عاش شيئا من هذا. المشاعر تعاش ولا تحكى. الحكمة الأخرى التي بثها يعقوب بنيه هي قوله : يا بني لا تدخلوا من باب واحد وإدخلوا من أبواب متفرقة. يتداول الناس بأثر من تداول المفسّرين أو بعضهم أن معناها أنّ دخولكم من باب واحد وأنتم عصبة أقوياء يجلب إليكم الحسد. لم أطمئن إلى هذا ولن أطمئن له. ليس فيه أثر صحيح أوّلا ولا حتّى من تابعي ربّما سمعه من صحابي ربّما سمعه  من الصادق المصدوق عليه الصّلاة والسّلام. فلم يبق إذا إلاّ أن ألغي الرّواية ـ إذ لا رواية ـ وأحكّم الدّراية. الدّراية تخبرني أنّ هذه الحكمة تتجاوز معناها المادّي إلى معناها الرّوحي الفكري. طلبه أن يدخلوا من أبواب متفرقة معناه أن يعملوا على حفظ أنفسهم وأمتعتهم بكلّ السّبل الميسّرة إستخداما للحيل والمراودات وإعمالا للتّخطيط والتّفكير وعدم الزّج بأنفسهم جميعا في أتون معركة واحدة ربّما تكون خاسرة. دعني أرسخ هذه الخلاصة ومنذ الآن : هي قصّة الحيل والمراودات. حتّى يعقوب الرّجل القيّم على هذه الأسرة الكبيرة يستخدم الحيل النّبيلة والمراودات النّظيفة لجعل رحلة أبنائه تصيب الفلاح. أليس الأمر بالدّخول من أبواب متفرّقة ضربا من ضروب التّخفي والتّستر والتّحايل والمراودات؟ تلك هي الحياة عندما تتركب دروبها وتتعقد مساراتها لا بدّ لها من عقل مركّب يتسوّر الحيل ويمتطي صهوة المراودات ما تجنبت طعن الإنسان في حرمته. 
الحكمة التي باشرها هنا يعقوب  بإختصار شديد هي الإستراتيجية الإسلامية في الإصلاح والتّغيير أي أنّ معالجة أيّ أمر مركّب في الحياة ـ وكل أمورها تقريبا مركّبة ـ لا بدّ أن يستحدث خططا لا خطّة واحدة وسبلا لا سبيلا واحدا. الباب هنا باب رمزي والدّخول هنا هو دخول المعالجات والإصلاحات حماية لمصالح النّاس. إذا تفرّقت الأبواب لا نخسر كلّ الرّجال ولا كلّ الإمكانيات. أمّا إذا وضعنا البيض كلّه في كيس واحد كما يقال اليوم فإنّ المعركة تكون قاضية حاسمة كمن أحرق سفن العودة، فإما نصر وإمّا هزيمة وهذا مجانب للحكمة. دعك من العواطف ما فوق الثّورية. لكم نحن مادّيون في تفكيرنا حقّا. قلّ وندر أن تجد منا من يخرق الطّوق المادّي ليمنح التّأويل المعنوي مكانا. قلّ وندر من يخرق منّا الطّوق الموضعي ليمنح التّأويل الموضوعي مكانا. قلّ منّا وندر من يخرق الطّوق الوسائلي ليمنح التّأويل المقاصدي مكانا. تلك هي حكمة يعقوب المركّبة : لا بدّ من ركوب الخطر بإرسال إبنه الآخر معهم ولا بدّ من تعليمهم منهاجا إصلاحيّا مركّبا لا أحادي البعد حتّى لا تكون الخسارة شاملة كاملة لا قيام بعدها وعندها لا يغني تعذّر بالقضاء والقدر فهو يحتج له وليس به كما قال أهل العلم وأرباب المعرفة.