بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
عالم للجميع
 هل يمكن للبشريّة أن تقيم عالما تكون فيه الأرض وطنا للجميع؟ وهل يمكن للجميع في هذا العالم أن يتجاوزوا حدّ عيش الكفاف إلى أفق فنّ العيش؟ وبأيّة ذاتيّة يمكننا أن نشرّع لعالم للجميع؟ هل هي ذاتيّة المواطن أو ذاتيّة المنفي اللاّجئ أم ذاتيّة المواطن المنفي في وطنه؟ وإذا كان الوجود في العالم هو بالضّرورة وجود مع الآخرين وضدّهم، فعلى أيّة أرضيّة بينذاتيّة (inter-Subjektivität) ستقوم هذه الشّراكة في العالم؟ هل ستقوم على نسيج من العلاقات البينذاتيّة في نطاق الوطن أم في نطاق المنفى؟ وقبل هذا وذاك أيّة دلالة للبينذاتية يمكننا أن نشتغل عليها في التّشريع لهذا الحلم الجميل؟ 
لا يمكن للاعتراض على نسيان الإنسان أن يكون سبيلا إلى نسيان العالم بوصفه فضاء يتّسع للجميع. فالعيش مع الآخرين يفرض تمثّلا للعالم تغادر فيه الذّات وضع العزلة لتقيم روابط مع الآخرين في كلّ الاتجاهات بما يضمن التّواصل الدّائم بين الذّوات المجتمعة داخل الجماعة في عالم للجميع. وهذا يعني أنّ العالم الاجتماعي ينشأ من الأفعال الجماعيّة أي من أفعال التّواصل التي تجعلنا نترابط بعضا مع بعض في علاقات إرادية. ذلك أنّه «لا يمكنني أن أفكّر ذاتي دون آخرين، دون اجتماع معهم. إنّني أولد داخل الجماعة، وبذلك فأنا مدين للتّواصل الدّائم مع الذّوات الأخرى بمضمون تمثلي للعالم. ولهـذا، فإنّ العالـم له مسبقا بالنّسبة لـي ولكلّ إنسـان معنـى «عالم للجميع»»(1) 
يتعلّق الأمر إذن بالمرور من الأنا المفكّر بوصفه أنا وحدية إلى جماعة بشرية (Menschengemeinschaft) تقيم في العالم. وهو مرور يجعل العالـم يأخـذ بالنّسبة إلـيّ وإلـى كلّ أنـا أخرى معنى أرحب ممّـا كـان علـيه. لكـن أيّ معنـى لاصطـلاح «عالـم للجميــع» (Welt für alle)؟ هل هو عالم الحياة (Lebenswelt) أم هو عالم العيش (Erlebniswelt)؟  وسواء كان هذا أو ذاك، فإنّ التّواصل مع الذّوات الأخرى في عالم مفتوح للجميع يفرض السّؤال عن الدّرب الضّامن لهذه الشّراكة بين الذّوات. 
في الواقع لا يمكننا أن نجزم بأنّ «عالم للجميع» هو تحديدا عالم الحياة أو هو عالم العيش. ذلك أنّ العالم لا يحيل إلى نسق معيشاتي الخاصّة وحسب، بل يحيل أيضا إلى معيشات غريبة. فالعالم في بنيته الأساسيّة أو بنيته الأنطولوجيّة هو الخيط النّاظم لدراسة نسق المعيشات البينذاتية. ذلك أنّ العيش في العالم يفترض تلازم حاجة وعيي إلى العيش بالآخرين مع حاجته إلى العيش من أجل الآخرين. وبما أنّ الآخرين الذين نعيش بهم أو نعيش لأجلهم ليسوا بالضّرورة من الأحياء أو ممّن تحقّقوا بشروط العيش، فإنّ المراد بـ «عالم للجميع» يصير هو العالم المفتوح للجميع في بعدي الحياة والعيش، أنى تكن الوضعيّة (الحياة أو الموت، الصداقة أو العداء، الفقر أو الثراء،...) التي هم عليها بالنّسبة إليّ من جهتي المعنى والصّلاحية. 
لكن ما هي الدّرب الموصلة إلى الآخرين والضّامنة للتّواصل معهم؟ يبدو هذا السّؤال بكرا تضيق عنه الفلسفة الحديثة أو هي بالأحرى تتعمّد نسيانه. وسبب هذا التّناسي ببساطة هو أنّ المحدثين لم يفهموا حقيقة الأنا الأصلي وعلاقته بالأنا الواقعي الذي تتّخذ منه السيكولوجيا موضوعا لها. أي بماذا تختلف الأفعال والقدرات الأصليّة عن تلك التي ينجزها الأنا الواقعي؟ ومردّ هذا السّؤال هو أنّه من الصّعب في ظلّ واحديّة الأنا أن نعترف للأنا الأصلي بوجود خاصّ ومختلف عن الأنا الواقعي. فقد يوقعنا ذلك في ضرب من الميتافيزيقا المشوّشة.  لكن إذا كنّا على يقين من أنّنا نطرح مشكلا حقيقيّا لا يجد له مشروعيّة داخل الأفق النّظري السّائد، فإنّنا لا نطرح سؤال معرفة ما إذا كنّا قادرين على إنجاز اقتصاد مفهوم الرّوح الموضوعي من خلال استبداله بمفهوم البينذاتية دون اللّجوء إلى بعض الكيانات الفائقة للوعي، أي إلى فكر مشترك وجمعي وتاريخي من خلال تشريعه لفكرة «عالم للجميع». فهذا يعني إعادة التكفّل بسؤال مرتبط بإطار الثّبات الذي يعرّف البينذاتية بوصفها تجربتي في الغيرية بمعنى الأنا المكوّن في الأنا بالتّقمص العاطفي (Einfühlung) تحت عنوان أساس الموضوعيّة. 
وراء هذا التوتر بين البينذاتية والموضوعية - وهو التوتر الذي يجعل من الأولى مجرد حلقة وصل بين الذّاتي والموضوعي- يعيد التّمشي الوراثي الإمساك بالمعنى الأصلي  للبينذاتي في التّكوّن الأصلي للوعي التفكري بوصفه غيريّة لذاته. 
قد نلاحظ فشل التقوّم للغير من حيث هو تقوّم يطمح إلى تأسيس أفق نظري من النّوع الأناوحدي. لكن هذا الفشل يبدو مناسبة لاكتشاف حقيقي (مواز لاكتشاف الاختلاف بين البشرة والجسم) للخاصّية المفارقيّة لكيفيّة عطاء الغير: أي المقاصد التي تستهدف الغير بوصفه غريبا (أي غير بالنّسبة إلى الأنا) يتجاوز مجال ما هو خاص. وهذا يعني أنّ « تكوين الغريب داخل الخاصّ قابل للانعكاس، ومتبادل، ومتشارك. وعليّ أن أدرك نفسي بوصفي آخرا بين الآخرين. وأنا نفسي ذات أخرى»(2) .
وخلافا للعطاء الأصلي للبشرة ذاتها لا يمكننا عطاء الغير من أن نحيا المعيشات الخاصّة به. لذلك يبدو الإدراك بمثابة عمليّة إمساك تكرّس المماثلة وتتّخذ من جسم الغير المدرك عن بعد مقاما له. أي إمساك بفضله يكون جسم الغير مدركا بوصفه بشرة مماثلة لبشرتي. إنّ النقل الذي تكون به بشرتي زوجا مع بشرة أخرى تعدّ عمليّة قبل تفكّرية أو قبل حمليّة. ذلك أنّ معنى الأنا يكون قد نقل إلى جسم آخر يكتسي هو أيضا في بشرته معنى الأنا. ضمن هذه الحدود يبدو اكتشاف الآخر غير قابل للمحو. فهو يحملنا على عدم الإبقاء على الآخر في وضع الغريب طالما أنّه يمكنه أن يصير شبيهي (أي شخص مثلي يقول أنا). لكنّ النّقل التّماثلي من الأنا إلى الآخر لا يثمر إلاّ في ارتباط مع الحركة الآتية من الغير نحوي أنا. ثمّة إذن تماثل بين الأنا والآخر وليس مجرد علاقة هويّة خالصة. وهذا يعني أنّ معنى الشّخصيات الرّاقية يتكوّن دوما بالتّحويل إلى خيال أثناء وعي توسيطي. فكلّ شيء يحدث كما لو كان الوعي الجمعي وعيا متجانسا. وهكذا يجد أفق الأفعال الاجتماعيّة التّواصلية والمعياريّة ذي الامتداد اللاّمحدود نفسه مقيّدا. إنّ المخيّلة مدعومة بجهاز رمزي كامل هي التي ترسخ هذه الوحدة الاجتماعيّة. لذلك يبدو الأدب التّخييلي أكثر ثراء في تقصّي ملامح عيشوشة الغرباء عنّا من المعاشرة المباشرة للنّاس الحقيقيين. بيد أنّ النّقل عبر المخيّلة يبقى معلّقا ومحايدا بالنّسبة إلى أيّ وضع وجود آخر.
يبدو إذن حلم «عالم للجميع» فكرة حاملة لرهان جديد هو رهان تقوم إتيقا (Ethik) اجتماعيّة تكون في مستوى الإكراهات التي يواجهها الإنسان المعاصر. فاستقلالية العالم الاجتماعي تقوم على الاعتراف المتبادل بين الأشخاص وعلى لعبة الإرادات المتولّدة بالضّرورة عن اتفاقهم الممكن حول غاية مشتركة. ذلك أنّه في الأفق الغائي تبدو الحياة الجماعيّة محكومة بمُثُلٍ لتجاوز كلّ النّسبيات الاجتماعيّة نحو ضرب من الجماعة المطلقة هي جماعة الإنسانيّة في كلّيتها. إنّ الحياة الجماعيّة لا تتحقّق دون هدف إتيقي يصير معه العالم فضاء لـ «جماعة محبّة» (Liebesgemeinschaft). وفي هذه الجماعة يمنح الشّاعر المثالي منزلة خاصّة في إذكاء حبّ الخير في النّفوس دون وعظ أو توجيه أخلاقي، بل هو قادر على ذلك من خلال نظم صور شعريّة تصارع فيها القيم (الأخيار) اللاّقيم (الأشرار) في حلبة الجمال. لكن ألاّ نبدو في طموحنا هذا حالمين بما نستشرفه من صور شاعريّة وجماليّة للحياة في «عالم للجميع»؟ وإذا سلّمنا بأنّ اللّحظة التّاريخية التي نعايشها هي لحظة حرجة إلى حدّ لا نشعر به إلاّ نحن، أفلا نبدو بمثل هذا التّفاؤل المفرط مصابين بشيء من الهوس الذي ينتزعنا من حاضرنا ويلقي بنا في مستقبل لا تتّسع له سوى مخيلاتنا؟
يبدو من الواضح أنّ صخب الحرب وعنفها ووحشيتها لا تؤثّر في السّكينة التي يمكننا أن ننعم بها في قرارة أنفسنا. فنحن قادرون على التّخفف من أثقال الواقع إلى أبعد حدّ ممكن. فـ «عالم للجميع» لا ينبغي له أن يكون عالما للأغلبيّة أو للأقلّية كما هو الحال في منطق الصّراع الطبقي. لذلك نجدنا أميل إلى أن نرى فيه مثالا للتّوافق النّاجح بين الإرادات المتكاملة بصفة مباشرة وتامّة ودون مقاومة من أحد. والنّظام هو أن تطيع: فكلّ إرادة تحدّد في هذا النّظام نظيرتها لترسخ التّوافق حول نمط الإملاءات الآحاديّة التي لا تناقش. لكن هل يعني هذا أن لا نهتم في الظّاهرة إلاّ بما يصلح لتصوّرنا للفعل الجماعي المؤسّس على تواصل الإرادات الشّخصية؟ قد يبدو الأمر كذلك في المنحى المتّبع في توضيح مختلف أشكال الهيمنة (Herrschaft) الحاضرة في الأسرة والقرية أو الدّولة، حيث لا تعني عمليّة تجديد وظيفة الهيمنة وجود صلة غائيّة بين مختلف هذه الأشكال الاجتماعية. فالإرادة السّياسية تنتمي إلى الدّولة أو إلى شعب الدّولة المتمايز عن كلّ الإرادات الفرديّة للمواطنين. وتشكّل مثل هذه الإرادة السّياسية توجّها اجتماعيّا صلبا للإرادة، أي إرادة معبّرة عن الرّوح الجماعيّة (Willensgemeinschaft)، وهي بصفة عامّة تشكّل اتجاها متّصلا بفعل يتحقّق بالعادة ويكون متمركزا بصفة أنوية في تماثل مع الأنا الفردي. وهو في الواقع تصوّر لا يضعنا بعيدا عن الفلك السّياسي المثالي حيث تكون الدّولة معقولة في ذاتها ولذاتها أو هي تلك الفكرة الكلّية التي تجعل من نفسها جزئيّة وتقيم مع ضدّها في بيت واحد. بحيث يستحيل التّقابل بين الكلّي (الدّولة) والجزئي (الشّعب) إلى تقابل في الكلّي (الدّولة) وفي الجزئي (الشّعب).
بين إذن أنّ فكرة «عالم للجميع» تتحرّك بدوافع سيكولوجيّة تجعل من مبحث المنفى والوطن أو مغادرة الموطن والعودة إليه واحدا من المباحث الكبرى. إذ يتعلّق الأمر باجتياز معضلة الوطن والمنفى، أي وطأة الشّعور بغياب الوطن الذي يميّز الإنسان الحديث. لكن الحلم بأن تكون الأرض وطنا للجميع لا يبدو في الواقع حلما مغريا أمام استحالة هذا الكوكب إلى فضاء لتكاثر الأوطان والمنافي في ظلّ تضخم مشاريع الهيمنة على حساب مشاريع العيش المشترك. في المقابل لا يبدو الأفق الجدليّ سبيلا للتّخفيف من حدّة الصّراع في الوطن والمنفى. حيث تتحقّق وحدة الوطن والمنفى بواسطة المفهوم بمقتضى قدرته على أن يكون في نفس الوقت حركة المنفى أو الاغتراب وكذلك حركة استئنافه وعودته إلى ذاته. 
الهوامش 
(1) (هوسرل (إدموند):أزمة العلوم الأوروبية، ص 489.
(2) ريكور (بول): من النص إلى الفعل. أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة 2001، ص 231.