نفحات

بقلم
إبراهيم والعيز
القوة الإيمانية شرط شرعي في أخذ المبادرة لإصلاح المجتمع
 عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله تعالى من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لَوْ تفتح عمل الشّيطان» (1) .
حديث نبوي رائع يرسم جانبا من جوانب القوّة الإيمانيّة في المؤمن المخلص المعتمد على ربّه المتوكّل عليه في السّراء والضرّاء والشدّة والرّخاء، السّاعي إلى إصلاح مجتمعه وفق شريعة ربّه، بما يجلب له المصالح ويدفع عنه المفاسد. 
ومن علامات القوّة الإيمانيّة في هذ الصّنف الذي أمر الشّرع الحكيم المسلمين بإعداده لتستمر عملية الصّلاح والإصلاح في مجتمعهم ليصلحوا حالهم ويكونوا قدوة لغيرهم:
(1) صدق العقيدة وصحتها
وهي صفة تضفي على المتّصف بها قوّة تظهر في كلّ سلوكاته وتصرفاته؛ في كلامه، وحواره، وفكره، ووعوده، وتجعله لا يعرف التّردّد ولا تميله الرّياح، يأخذ تعاليم دينه بقوّة ونشاط لا فتور فيها ولا وهن، ويدعو إليها بحكمة وتبصّر، ويعتزّ بهويّته وانتمائه وخصوصيّات أمّته ومجتمعه، ممتثلا قول الحقّ سبحانه لكليمه موسى عليه السّلام: (خُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (2) .
(2) الثبات وتوطين النفس
فالمؤمن القويّ ثابت في خطاه ومواقفه وتصرفاته، فهو يعاشر الناس ويعاملهم على بصيرة من أمره، فإن رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، ونآى بنفسه عن مسايرتهم، ونصحهم بما يملك من وسائل وبما هو متاح له من منابر ليبتعدوا عن الظّلم والباطل، ويتمسّكوا بالعدل والحقّ، مسترشدا في ذلك بقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؛ «لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن النّاس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن النّاس أن تحسنوا وإن أساؤوا ألاّ تظلموا» (3) .
(3) نصرة الحقّ والمصارحة به 
والدّفاع عنه والتّمسك به والثّبات عليه، فالمؤمن القويّ لا يداهن الظّالمين، ولا يجامل الخاطئين، ولا يصانع المخطئين على حساب الحقّ، فهو يأمر بالمعروف حيث يكون الأمر به واجبا، وينهى عن المنكر لما يكون الظّرف مناسبا، وينصح غيره بما ينفعه بالتي هي أحسن لما يرى أنّ النّصح صار ضروريّا. فهو ينصر الحقّ ويدافع عن أهله بهدف الإصلاح، وفق منهج شرعي مستمدّ من القرآن الكريم، وهو منهج قائم على مبدأ النّصح أوّلا للقائمين بعمليّة الإصلاح الحاملين لمشعل الحقّ، وعلى مبدأ الدّفاع ثانيا عن رواد الإصلاح وحملة الحقّ حين يتعرّضون للظّلم والعدوان من خصومهم ممّن لا تهمّهم سوى تحقيق أغراضهم ومصالحهم الذّاتية، ولو كلّفهم ذلك سلب حقوق النّاس وهتك أعراضهم وسفك دمائهم.  
وفي هذا السّياق فإنّ كتاب الله قدّم نموذجا للمؤمن القويّ النّاصح لحملة الحقّ والعدل المدافع عنهم أمام ملأ الظّالمين، بمؤمن آل فرعون الذي كان ناصحا لموسى مدافعا عنه وعن الحقّ بما آتاه الله من وسائل. قال الله تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (4) ، وقال كذلك: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (5) .
(4) ضبط النفس والتحكم في الإرادة
فالمؤمن القوي لا يغش ولا يخادع ولا ينافق، ولا يسمح لنفسه أن تعتدي على أموال الناس وأعراضهم، أو أن تتعمد تضييع حقوقهم، كما لا يسمح له إيمانه أن يظلم الناس، أو يخون الأمانات الموكولة إليه من الله ومن الناس، أو يهمل واجباته ومسؤولياته الأسرية والاجتماعية والوظيفية. بل هو متحكم تمام التحكم في نفسه وإرادته وغرائزه وميولاته الإنسانية كلها، مقتبسا ذلك كله من أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، ومتأسيا بصفوة الخلق ممن أمرنا الله سبحانه بالاقتداء بسيرتهم والسير على هداهم من الأنبياء والمرسلين، من مثل سيدنا يوسف عليه السلام الذي فضل السجن على اقتراف الفاحشة وخيانة الأمانة فقال كما حكى عنه كتاب الله: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) (6) ، وأكد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في السنة المشرفة أن ضبط النفس والتحكم في الإرادة علامة الإنسان المؤمن القوي فقال؛ «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (7) .
(5) قوة العزم
 فالمؤمن القوي لا يتواكل ولكن يتوكّل على الله ويأخذ بجميع الأسباب الممكنة والجائزة شرعا، لتحقيق غاياته وأغراضه، ومن أهمّها؛ جلب المصالح للنّاس ودفع المفاسد عنهم، امتثالا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز».
وتجدر الإشارة في هذا الإطار أنّ من المصائب الهدّامة التي تعدّ في نظر الشّرع صورة من صور الضّعف؛ العجز والكسل، والبخل والجبن. وقد دبّت هذه الأمراض مع الأسف الشّديد في نفوس المسلمين وصفوفهم، فصرنا أمّة من أضعف الأمم، وأكثرها فقرا وتخلّفا، وتفرّقا، وتواكلا، وتهاونا، فسهّل على غيرنا قهرنا وإذلالنا، وجعلنا أمّة تابعة مقلّدة في كلّ شيء، وبذلك وصلنا إلى مرحلة القصعة التي حذرنا منها رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وهي مرحلة يكون حال المسلمين فيها رغم كثرة عددهم كحال الأصفار على الشّمال. وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله سبحانه ليحفظنا من هذه المصائب والأمراض لاستعادة القوّة والنّشاط فقال؛ «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال» (8) .
(6) قوّة اليقين
وإلى جانب قوّة العزيمة والأخذ بالأسباب في إصلاح المجتمع بالانتقال به من حال أدنى إلى حال أعلى، هنالك قوّة اليقين، وتكون بالثّقة بالله وبوعده الذي وعد به عباده وأصفياءه المؤمنين، وبالاعتماد عليه واللّجوء إليه، خاصّة لمّا تتوالى الظّروف المحرجة والابتلاءات والمحن على المجتمع الإسلامي، فيعمّ الانحراف بكلّ مظاهره، ويستشري في شرايين الأمّة، ويوجد من النّاس من يدافع عنه، ويحارب من يقاومه ويسعى إلى الإصلاح واسترجاع بريق الاستقامة وشعاع الفضيلة. قال صلّى الله عليه وسلم في الحديث منطلق المقال؛ «وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كان كذا وكذا»، والمؤمن القوي إذا امتحن وابتلي صبر وتوكل على الله خالقه ورازقه، فقال ما علّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نقوله عند الشّدائد؛ «قدّر الله وما شاء فعل»، غلقا لباب الشّيطان وسدّا لمنافذ الفتنة والتّشويش على النّفس، ومن أهمها العجز والكسل والتّواكل، «فإن لو تفتح عمل الشّيطان».
والمؤمن القوي في مثل هذه المواقف الحرجة التي قد تعصف بالصّفوة الصّالحة المصلحة من أبناء المجتمع الإسلامي، يتأسّى عموما بالأنبياء والمرسلين والصّالحين من بعدهم الذين حكى القرآن الكريم قولهم وحالهم عند الشدّة وحين البأس، فقال: «وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» (9) .
الهوامش
(1) سنن ابن ماجه. باب في القدر. رقم: 79. حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه؛ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به؛ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. ط/ 1. بدون تاريخ. مكتبة المعارف للنشر والتوزيع-الرياض. ص 29. 
(2) سورة الأعراف -الآية 145.  
(3) سنن الإمام الترمذي. كتاب البر والصلة-باب الإحسان والعفو. رقم: 2007.حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه؛ العلامة محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به؛ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. ط/ 1. دون تاريخ. ص 454.
(4) سورة القصص - الآية 20.  
(5) سورة غافر- الآية 28.  
(6) سورة يوسف - الآية 33-34.  
(7) صحيح البخاري. كتاب الأدب-باب الحذر من الغضب. رقم: 6114. اعتنى به؛ الدكتور محمد تامر. دار التقوى. دون الطبعة والتاريخ. ج/ 3. ص201. 
(8) صحيح البخاري. كتاب الدعوات-باب الاستعادة من الجبن والكسل. رقم: 6369. ج/ 3. ص 248.  
(9) سورة إبراهيم - الآية 15.