الكلمة للخبراء

بقلم
أيمن الديماسي
تقديم عام لمنظومة الصفقات العموميّة بتونس
 من أهداف الحكومات المتعاقبة بعد الثورة تحقيق شعار «الحوكمة الرشيدة» على أرض الواقع وخلق تقاليد جديدة تضمن الاستغلال الأمثل لموارد الدولة وإمكانياتها وذلك عبر ترشيد نفقات الميزانيّة ومقاومة الفساد بالوزارات والمؤسّسات والمنشآت العموميّة وارساء منظومة حوكمة الصفقات العموميّة على المستوى المركزي أو الجهوي أو المحلّي وخاصّة في مسألة الصفقات العموميّة . وتهدف هذه السلسلة من المقالات التي كتبها السيد أيمن الدّيماسي أحد الخبراء في المجال تحت عنوان :«الصفقات العموميّة… بين مطرقة القانون وسندان المشتري العمومــي» إلى تقديم تحليل قانوني وعلمي لموضوع الصفقات العموميّة مع اقتراح حلول عملية لحوكمة الصفقات العموميّة.  
(1) تقديم عام
إنّ المتمعّن في مجال الصّفقات العموميّة يواجه عديد الصّعوبات في فهم الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المنظّم للصّفقات العموميّة، كما أنّ تطبيقه ليس بالأمر السّهل. سنحاول من خلال سلسلة من المقالات تحليل بعض النّقاط التي تعرّض إليها الأمر المذكور مع تقديم بعض المقترحات العمليّة لتطوير منظومة الشّراء العمومي مع استعراض بعض التّجارب المقارنة لدول أخرى.  
كما تتضمّن هذه المقالات قراءة نقديّة للإطار التّشريعي والتّرتيبي الجاري به العمل في مجال الصّفقات، نعتمد في ذلك على دراسة علميّة تحليليّة لمنظومة الشّراءات العموميّة بتونس وللمنظومة الرّقابية في هذا المجال. وتبقى الإشكالية الأبرز لدى المشتري العمومي هي كيفيّة ترجمة الحاجيات إلى خاصّيات فنّية، حيث أنّ عديد الشّراءات العموميّة تتمّ دون دراسة دقيقة للحاجيات ودون تحديد دقيق للخاصّيات الفنّية ولا للأهداف المرسومة من الاقتناءات المبرمجة بالميزانيّة.
وعليه فإنّ المشتري العمومي يمكن أن يساهم بذلك في إهدار المال العام عن حسن نيّة باقتناءات لا تلبّي حاجيّاته الحقيقية وتتحوّل بذلك غاية المتصرّف في الشّراءات العموميّة هي استهلاك أكبر قدر من الميزانية المرصودة في الغرض .
كما أنّ كرّاسات الشّروط الإداريّة والفنّية الخاصّة التي يعدها المشتري العمومي لم ترتقِ بعد إلى كرّاسات ضمانات إداريّة وفنّية ومالية لإقصاء العارضين الذين لا يلبّون الحاجيات الحقيقيّة للمشتري العمومي، خاصّة وأنّ الإطارات المكلّفة بهذه الملفات قد تعتمد في بعض الأحيان على كرّاسات شروط سبق وأن تمّ إعلان المنافسة على أساسها أو تستعير كرّاسات شروط لمشترٍ عمومي آخر ليس له نفس الحاجيّات.
وعليه فإنّ هذه السّلسلة من المقالات تتضمّن عدّة مقترحات عمليّة لتجاوز هذه الإشكاليّات وغيرها. كما تهدف إلى تمكين الأعوان والمتصرّفين العمومييّن من تنمية قدراتهم المهنيّة التي تمكّنهم من القيام بالمهام المناطة بعهدتم على الوجه الأكمل ومن تفادي الوقوع في الأخطاء المهنيّة أو تحت القضاء المالي أو القضاء العدلي أو القضاء الإداري وذلك بالاستئناس بفقه القضاء في تعريف مفهوم خطأ التّصرّف وتحديد أركانه وتصنيف الأعمال التي ارتكبت والمجالات المتعلّقة بها وشكّلت أخطاء تصرّف بالإضافة إلى التّذكير بأبرز قواعد التّصرّف التي يجب التّقيّد بها لترشيد النّفقات وحوكمة الصّفقات العموميّة .حيث أنّ أغلب أخطاء التّصرّف المرتكبة من طرف الأعوان العموميين سببها عدم دراية كافية بالتّشاريع والتّراتيب الجاري بها العمل وخاصّة فيما يتعلّق بالإطار القانوني المنظّم لأخطاء التّصرف وللأمر المنظم للصّفقات العموميّة .
ويبدو أن الغموض لا يزال إلى اليوم يغطّي عديد الإجراءات المنظّمة للشّراءات العموميّة وخاصّة في ظلّ غياب إطار ترتيبي يضبط الإجراءات الواجب إتباعها بالنّسبة للإستشارة.
كما أن المنظومة الحالية لإعداد الميزانية:
- لا تمكن من برمجة دقيقة للحاجيات 
- لا ترتكز مسبقا على إمكانيات محدّدة لتحقيق الأهداف المرسومة 
- لا تمكّن من قيس الأداء لتقييم نجاعة النفقات العمومية وجدواها.
وعليه فإنّنا سنستعرض القواعد الأساسيّة لإعداد الميزانيّة بالاعتماد على منهجيّة التّصرّف حسب الأهداف بالرّغم من غموض هذه الطريقة لدى عدّة مشترين عموميين هذا بالإضافة إلى صعوبة القيام بحوار التصرّف بين وزارة الإشراف والمؤسّسات والمنشآت الرّاجعة لها بالنظر.
(2) لمحة تاريخيّة  
لا يمكن تحليل منظومة الصفقات العمومية واقتراح حلول عمليّة دون التّمعّن في تاريخ الشّراءات العموميّة بتونس. والتّاريخ هو تسجيل ووصف وتحليل الأحداث التي جرت في الماضي، على أسس علميّة محايدة، للوصول إلى حقائق وقواعد تساعد على فهم الحاضر والتّنبؤ بالمستقبل.
ارتبط ظهور الصفقات العمومية في تونس تاريخيّا بظهور الإدارة المالية حيث حاول المستعمر الفرنسي تأكيد هيمنته عن طريق سنّ جملة من التّشريعات في مجال الصّفقات العمومية، قاصدا استبعاد المؤسّسات التّونسية والإيطالية. 
فبعد إبرام معاهدة باردو في 12 ماي 1881، تم إصدار الأمر المؤرّخ في 25جويلية 1888 المتعلّق بضبط إجراءات المناقصات الخاصّة بالأشغال العموميّة. ثم قام المستعمر بإلغائه بمقتضى أمر 25 جويلية 1913 المتعلّق بضبط الإجراءات التي ينبغي إتباعها عند إجراء المناقصات الخاصّة بالأشغال العموميّة الذي أضاف المناقصة المحدودة لمنع الشّركات التّونسية من المشاركة في هذه الصفقات. ثمّ تمّ إحداث لجنة استشارية لفصل النّزاعات بالحسنى لمؤسّسات الأشغال العموميّة وصفقات التّزويد بمقتضى الأمر المؤرخ في 15 ماي 1925، ولا تزال هذه اللجنة موجودة بمقتضى الفصل 185 من الأمر 1039 لسنة 2014 المنظّم للصّفقات العمومية حاليّا.
بعد تأسيس «الاتحاد العام للعمّال التّونسيين» أو الاتحاد العام التونسي للشغل حاليا في جانفي 1945 وتكوين الجبهة التّونسية المطالبة بالاستقلال الذّاتي في فيفري 1945، جاء ردّ المستعمر بإصدار الأمر المؤرخ في 18 أكتوبر 1945 المتعلّق بضبط الشّروط التي يجب أن تبرم فيها صفقات الدولة. كما تمّ إصدار الأمر المؤرّخ في 15 أوت 1946 المتعلّق بتمويل الصّندوق القومي لصفقات الدّولة والصّفقات العموميّة المبرمة بالبلاد التّونسيّة والأمر المؤرخ في 6 فيفري 1947 المتعلّق بنظام الضّمان فيما يخصّ صفقات الدّولة التّونسية والجماعات العموميّة التّونسية .
وبعد الاستقلال تمّ إصدار الأمر عدد 172 لسنة 1965 المؤرخ في غرة أفريل 1965 المتعلّق بمراقبة الصّفقات المبرمة لفائدة الدّولة والمؤسّسات العموميّة والأمر عدد 388 لسنة 1973 المؤرّخ في 21 أوت 1973 المتعلّق بكيفية إبرام صفقات مجالس الولايات. كما تمّ سنة 1973 إصدار مجلة المحاسبة العموميّة بمقتضى القانون عدد 81 المؤرخ في 31 ديسمبر 1973، وقد نصّ الفصل 105 منها على أن صفقات الدّولة تبرم حسب شروط وصيغ يضبطها أمر.
بعد حوالي 7 أشهر، تم إصدار الأمر عدد 754 لسنة 1974 المتعلّق بتنظيم الصّفقات العموميّة ثمّ وقع تنقيحه بالأمر عدد 723 لسنة 1979 المؤرخ في 10 سبتمبر 1979 والأمر عدد 1056 لسنة 1981 المؤرخ في 12 أوت 1981 والأمر عدد 612 لسنة 1986 المؤرخ في 6 جوان 1986.كما تمّ ضبط المبلغ الأدنى لنفقات الدّولة والمؤسّسات العموميّة ذات الصبغة الإداريّة والجماعات العموميّة المحلّية المنجزة وجوبا في إطار عقود كتابية بمقتضى الأمر عدد 1347 لسنة 1986 المؤرخ في 31 ديسمبر 1986.
بالنسبة للمؤسسات والمنشات العموميّة: تمّ إصدار القانون عدد 72 لسنة 1985 المؤرخ في 20 جويلية 1985 المتعلق بالإشراف على المؤسّسات العموميّة ذات الصّبغة الصّناعية والتّجارية والشّركات التي تساهم في رأس مالها الدّولة والجماعات العموميّة المحلّية وبالالتزامات الموضوعة على كاهلها والقانون عدد 73 لسنة 1985 المؤرخ في 20 جويلية 1985 والمتعلّق بصفقات المؤسّسات العموميّة ذات الصّبغة الصناعيّة والتّجارية والشّركات التي تساهم الدّولة أو الجماعات العموميّة المحليّة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة وذلك لتنظيم صفقات المؤسّسات والمنشآت العموميّة.
بعد حوالي شهر واحد، تمّ إصدار الأمر عدد 1036 لسنة 1985 المؤرخ في 1 سبتمبر 1985 المتعلّق بالصّفقات التي تبرمها المؤسّسات العموميّة ذات الصّبغة الصّناعية والتّجارية والشّركات التي تساهم الدّولة والجماعات العموميّة المحلّية في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة وذلك من حيث كيفيّة وإجراءات عقد هذه الصّفقات وإنجازها والنّظر فيها.
كما تمّ ضبط المبلغ الأدنى لنفقات الأشغال والمواد والخدمات والدراسات الخاصة بالمؤسسات العمومية ذات الصّبغة الصّناعيّة والتّجاريّة والشّركات التي تساهم الدّولة والجماعات العموميّة المحلّية في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة والتي يجب إبرام صفقات كتابيّة وذلك بمقتضى الأمر عدد 1348 لسنة 1986 المؤرّخ في 31 ديسمبر 1986.
تمّ إلغاء القانون عدد 72 لسنة 1985 بمقتضى القانون عدد 9 لسنة 1989 المؤرّخ في أول فيفري 1989 المتعلّق بالمساهمات والمنشآت العموميّة الذي ينصّ الفصل 22 منه على أنّ قواعد إبرام وتنفيذ ومراقبة صفقات المنشآت العموميّة تضبط بأمر.
وبمقتضى الأمر عدد 442 لسنة 1989 المؤرخ في 22 أفريل 1989 المنظّم للصّفقات العموميّة بالنّسبة للدّولة والجماعات المحليّة والمؤسّسات والمنشآت العموميّة تمّ إلغاء جميع الأوامر السابقة وفي سنة 2002 تمّ إصدار الأمر عدد 3158 المؤرخ في 17 ديسمبر 2002 الذي تم تنقيحه أيضا في عديد المناسبات (الأمر عدد 1638 لسنة 2003، الأمر عدد 2551 لسنة 2004، الأمر عدد 2167 لسنة 2006، الأمر عدد 1329 لسنة 2007، الأمر عدد 561 لسنة 2008، الأمر عدد 2471 لسنة 2008، الأمر عدد 3505 لسنة 2008، الأمر عدد 3018 لسنة 2009، الأمر عدد 623 لسنة 2011 والأمر عدد 515 لسنة 2012). 
(3) الإطار التشريعي والترتيبي الحالي:
كل هذه التّغييرات والتّنقيحات إن دلّت على شيء فهي تدلّ على ارتباط منظومة الصّفقات العموميّة بالتّطورات والتّغيرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتي تقتضي مواكبة تشريعية وقانونيّة مستمرّة. كما أنّ الأوامر التّرتيبية واكبت سريعا القوانين التي تمّ إصدارها في الغرض.
إلا أنّه لا يمكن المساهمة في نجاعة وجدوى الطلب العمومي بالنّسبة إلى جميع المتدخّلين، دون الاعتماد على تقارير هياكل الرّقابة الدّاخلية والخارجيّة وأخذ رأي المشتري العمومي من ناحية والعارضين من ناحية أخرى. ولا يمكن تطوير منظومة الصّفقات العموميّة دون تقييم عميق وتدقيق للصّفقات المبرمة، الى جانب الاستعانة بتقييم منظمة التّعاون والتّنمية في الميدان الاقتصادي (OCDE). وفي هذا الإطار تمّ إصدار الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المنظّم للصّفقات العموميّة المؤرّخ في 13 مارس 2014، وحسب رأينا الذي سيتم تحليله في المقالات القادمة فإنّه كان من الأجدر تجميع الأحكام المنظّمة للشّراءات العموميّة بمجلّة يتمّ إصدارها بمقتضى قانون . وتتضمّن هذه المجلّة خاصّة :
* قانون يتضمّن عقوبات للمتدخلين في منظومة الصّفقات العموميّة في صورة مخالفة التّشاريع والتّراتيب الجاري بها العمل 
* أمر منظّم للاستشارات 
* أمر منظّم لصفقات المؤسّسات والمنشآت العموميّة نظرا لخصوصيّتها ولدفع عجلة التّنمية.
* قرارات مصادقة على كرّاسات شروط نموذجية. 
(يتبع)
المقال القادم : تقييم منظومة الصفقات العمومية بعد الثورة