تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
فهمت لماذا وكيف ومن تخلى عن من
 كيف تصير غنيّا دون أن تفقِر الآخر؟ كيف تؤمّن أهلك وذويك ولا تؤذي أحدا؟ يبدو أن الأمن يمكن بلوغه إذا ما تسلّح الفرد بالحكمة وتزهد من كلّ ما يشدّه بالعالم السّفلي إذا ما ارتقى بنفسه إلى عالم آخر لا يرى فيه نفسه عاريا. أمّا أن تصير غنيّا، فلا يختلف العقلاء والعقلانيّون الذين مارسوا الحياة وخبروا خفاياها، شرورها ومآسيها وتناقضاتها الشّديدة أنّه لا يمكن ذلك إلاّ بالعمل والمثابرة، إذا ما تحدثنا مع أطفال نعلّمهم الأخلاق الحميدة. ولمّا يتعلّق الأمر بعالم المال والأعمال باختلاف أحجامها، يصبح المشهد مغايرا بين التّنافس والعداء وتتطلّب المعاملة مع المنافس أو الخصم أن تعنّفه و.... بالتدرّج إن لزم الأمر، تبعده أو تتخلّص منه نهائيا؟ 
فالسِلْم، مجاله الاجتماعي محدود لا يبنى إلاّ بكسر شوكة مجتمعات أخرى، بمحقها وترهيبها حتّى تخاف فتخضع لقاهرها وتعمل من أجله. هذه ليست قناعة الشّعوب الغربيّة فقط، بل يُقرئنا التّاريخ كما تعوّد عبر سير المنتصرين دون المنهزمين مسارات الشّعوب والدّول والحضارات كيف توسعت وافتخرت بمجدها وسلطانها. وتقر العلوم الاجتماعية والسياسية أن الاحترام والتعامل بالمثل يتطلب أدنى مستوى من القوة. 
ولكن، عن أيّ قوّة نتحدّث؟ 
الدّول الغربيّة بنت قوّتها وفرضتها بالحديد والنّار بعد أن اقتنصت فرصة نعاس الآخرين وانقلبت عليهم. وحتّى لا تقع ضحيّة المترصّدين لها، ها هي منذ قرون إلى اليوم وغد ساهرة دون غفوة ولا غفلة تخطّط وتنفذ دون تردّد لتحافظ على الرّيادة والسّلطة والمجد عبر أساليب مختلفة ومتطوّرة حسب مقتضيات الواقع والمستقبل المنشود. لا تهمّ الوسيلة قد برّرتها الحاجة. الرّفاهة والرّخاء داخل حدود الوطن وبعدهما الطّوفان. فكلّ من يعطّل ماكينة الاستقرار والرّخاء الذي لا يُشبِع إلاّ وكلّ الوسائل وكّل الاحتمالات المتوقّعة والمستبعدة تصبح عمليّة وضروريّة. ويوص الحكماء حاميي حمى الوطن والشّعب السّعيد الالتجاء إلى القوّة الرّادعة دون القوّة المفرطة، تلك التي تترك للنّوايا التي صرفت لها ولمهام أخرى أصبحت غير خفيّة بل الكلّ يعلمها. 
ما دفعني لهذا الاعتقاد هو الوجع الكبير الذي أصابني من معاناة شبابنا وغيرهم ممّن اختاروا الرّمي بأنفسهم في مغامرات مهينة ومشينه تعرضهم للمهالك. نعم، في «أوفنباخ» وعلى ضفاف نهر «الماين» راودتني هذه الأفكار وشغلتني لمّا اكتشفت السّراب الذي وقفت عنده منذ وصولي لمطار فرنكفورت «كل من هو ليس منّا يركن هنا وينتظر حتّى يمرّ كلّ أهلنا الاتحاد الأوروبي»، لا يهمّ من تكون، إجراءات السّلامة لا تعفيك من السّؤال والتّفتيش المملّ والمهين. فالماكينة بكلّ ازدراء تشتغل وتتقدّم دون تعثّر تطحن كلّ من اعترض طريقها فلا تبالي ولا تزعزعها الدّموع ولا التّوسّل بل تجعله غذاء لها تقتات من خصاصته وتزيد من آلام شعبه الذي غادره وتخلّى عنه.
ترى، من تخلّى عن من؟ 
يذكّرني المشهد بعهد «الخمّاسة»، وها نحن في مجاله لم نخرج منه بعد. عاش الإبن يحتقر أباه الذي كان يشتغل خمّاسا يُحيي ما لا يملك، لا رغبة في إرضاء المالك ولكنّه على يقين أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه مالكا لجزء من الأرض التي عرّقته أو البحر الذي أغرقه على لسان المرحوم علي الرياحي. وعلى أمل أن يرقى بابنه الذي أراد له الدّراسة والتّعلم مهما كلّفه ذلك من معاناة، تسلّح الرّجل بالصّبر والثّبات. وكلّما اشتد ساعد الشّاب اشتدّ أكثر اشمئزازه من أبيه، فثار عليه واشتكاه لصاحب الأرض الذي لم يكن أبلها ولا مجنونا وعرف كيف يروّض الشّاب، فجعله يشتغل عنده بأجر يقتطعه من أجرة أبيه نقدا أو بنقص ممّا يحق أن يعود إليه من منتوج. 
قد يُسمِن الجيبَ بعضُ المال، ولكنّ كرامة الإنسان لا تختزن في الجيوب ولا في حقائب الأموال ولا شهادة تعلّق على الجدران في واجهات قاعات الجلوس. أدنى كرامة الرّجل كرامة الحرّة التي تجوع ولا تأكل من ثدييها. وهل يعادلها كرامة مجتمعنا كلّه الذي كان ولا يزال كما هو «رجوليّا» لم يتغيّر. يرمى الشّاب بنفسه في البحر، يستجدي من يعطف عليه وإن كان جلاّد أمه وأبيه. أشرفَ منه الحرّة التي لم تتذوّق من ثدييها إلاّ حنظلا وخبزا سدّت به رمق طفلها العليل، فليثبت على جبينها وسام الكرامة ما لبث الذّل يتبع عائلها من وراء البحر.
تحية إلى كل امرأة جاع طفلها.