وجهة نظر

بقلم
محمد الدرداري
الجالية المسلمة في الغرب وآليات الانفتاح الإيجابي
 تتعالى بين الفينة والأخرى بعض الأصوات في صفوف أبناء الجاليات المسلمة في الغرب، تدعو هؤلاء إلى أخذ الحيطة والحذر، وتخوّفهم من الانفتاح على المجتمع الغربي وثقافته والتّماهي في مسايرته، ولعلّ الأساس الذي تستند إليه هذه الدّعوات هو الخوف من فقدان الهويّة العربيّة والإسلاميّة، والرّغبة في إبقاء الشّخصيّة الإسلاميّة متّصلة بجذورها التّاريخيّة والحضاريّة.
وإذا كانت سياسة الانغلاق هاته لها ما يبرّرها واقعيّا عند هؤلاء، فإنّ المخالفين لهم نظروا إلى الموضوع من زوايا مختلفة، تؤول في النّهاية ــ حسب نظرهم ــ إلى خدمة الإسلام وتعزيز مكانة المسلمين في الغرب. 
إن انفتاح الأقلّيّات المسلمة على غيرها في البلدان الأوربيّة له من المزايا والفضائل ما يجعل دعوة الإسلام تصل إلى مختلف البقاع، وتنتشر في سائر الأقطار، ولا شكّ أنّ ذلك يشكّل فرصة سانحة أمام أبناء الغرب ليصحّحوا ما علق في أذهانهم من مزاعم باطلة عن الإسلام والمسلمين، إذ من خلال ذلك يَعرف هؤلاء الإسلام والمسلمين على حقيقتهم، ويُدركوا أنّ ما رسَخ في أذهانهم من صورة نمطيّة سلبيّة لا يعدو أن يكون أباطيل روّجتها بعض الجهات لكي تخدم أجندتها الخاصّة.
وممّا ينبغي التنبيه عليه أن هذا الانفتاح ينبغي أن يُنظر إليه بمعيار الشرع، لا بمعيار الفلسفة الغربية التي تجاوزت حد الاعتدال في التعامل مع الآخر من خلال فرض نموذجها الحضاري بكل ما يحمله من قيم وعادات مختلفة، بل ومناقضة لتلك التي قررها الإسلام ودافع عنها.
إن انفتاح الأقلّيات المسلمة في الغرب ينبغي أن يمرّ عبر المشاركة الفاعلة في مختلف المجالات الحياتيّة: الحضاريّة والاقتصاديّة والسّياسية والاجتماعيّة والثّقافيّة.... ففي ضوء ذلك يتحدّد مدى قدرة هؤلاء على الاندماج الفاعل والإيجابي في البلدان المستقبِلة. 
أولا: المشاركة في البناء الحضاري.
لقد مكث المسلمون في الغرب لسنوات مديدة وهم يعيشون على هامش الحضارة الغربيّة، فلم يكن دورهم ليخرج عن استهلاك منتجات تلك الحضارة، سواء فيما يتعلّق بالمنتجات الأدبيّة أو الفنيّة أو العلميّة ...يأخذون ولا يُعطون، يستفيدون ولا يُفيدون، يتأثّرون ولا يُؤثّرون، إذ لم تكن عندهم القدرة على المشاركة الحضاريّة سوى القيام ببعض الأعمال اليدويّة أو التّقليديّة البسيطة.
وهكذا ارتبط الإسلام عند فئات عريضة من أبناء المجتمع الغربي بالتّخلف الحضاري والعلمي والثّقافي، ولم يَفْصِلوا بين الإسلام كدين رباني يحثّ على التّقدّم والإبداع والبحث العلمي، وبين حال المسلمين الذين تخلّوا عن دينهم فأصبحوا متخلّفين علميّا وحضاريّا، يعيشون في مؤخّرة الأمم تابعين يستوردون كلّ شيء دون رغبة أكيدة منهم في الاستقلال بذواتهم عن التّبعية المذِلّة للغرب. 
إنّ الشّراكة الحضاريّة للأقليّات المسلمة في بلاد المهجر؛ تعدّ مدخلا فاعلا في تصحيح الصّورة النّمطية عن الإسلام والمسلمين في الغرب، إذ من خلال ذلك تَبطل وبشكل عملي جملة من الشّبه والافتراءات التي دأب أصحاب المصالح على بثّها وترويجها في الأوساط الغربيّة، وهذه الشّراكة اليوم هي إحدى أهمّ التّحديات التي تواجه المسلمين في بلدان إقامتهم، وذلك بالنّظر إلى الحجم الضّئيل لإسهام هؤلاء في تنمية الجسم الحضاري الغربي.
إن هذه الشّراكة المنشودة تستند إلى أصول ثابتة في الشّرع الحنيف، فالمسلم ينبغي أن يكون صاحب رسالة في أي موطن كان، (فالأرض كلها لله) ومن مقتضيات تلك الرّسالة أن ينفع النّاس ما وجد إلى ذلك سبيلا، وأن يتعاون معهم فيما فيه الخير والصّلاح، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ »(1)  كما نجد هذا المعنى متضمّنا في قوله تعالى «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (2). فمن بين مقتضيات الشّهادة على النّاس أن ننقل إليهم ما عندنا من خير، سواء كان ماديا أو معنويا، قليلا أو كثيرا، دينيا أو دنيويّا، وهذا معناه أن يَمُدّ المسلم جسور التّواصل مع من يعيش معهم ليشترك الجميع في المصلحة المشتركة، وهذا كلّه واجب على المسلّم الذي يعيش مع غيره في أيّ مجتمع، بغض النّظر عن الاختلاف الحاصل بينهم في الدّين أو اللّغة أو الثّقافة.
ثانيا: المشاركة السياسية الرشيدة 
يمكن للمرء أن يقرّر بأنّ المشاركة السّياسية للأقليّات المسلمة في الغرب؛ تمثّل أبرز مظاهر الاندماج الإيجابي في تلك المجتمعات، فإذا كان الانفتاح على المحيط المختلف ثقافيّا ودينيّا؛ ونبذ الانطواء من المعايير المحدّدة لاندماج الأفراد، فإنّ المشاركة السّياسية تُعتبر مؤشّرا دقيقا لمعرفة مدى رغبة المجموعات والأقليّات والطّوائف في التّعايش، وتحقيق أعلى درجات الانفتاح الايجابي والفعال. 
يقول د. حسام شاكر متحدّثا عن مفهوم المشاركة السّياسية لمسلمي أوروبا: « يُقصد بالمشاركة السّياسية الرّشيدة لمسلمي أوروبا ما يُبتغى منه تحقيق تفاعلهم الإيجابي المثمر مع السّاحة السّياسية بشتّى الأشكال الممكنة بالصّورة التي تتوافق مع خصوصيّات السّاحة الأوروبية وتستهدي أيضا بالتّوجيهات الإسلامية» (3) 
إن الإقبال على ممارسة العمل السياسي في بلاد المهجر؛ له من الأهمّية ما يبوِّئه المكانة الرّفيعة، وذلك لما يترتّب عليه من  التّعريف الصّحيح بالدّين الإسلامي، وإيجاد نخبة سياسيّة  قادرة على الدّفاع عن حقوق الأقلّيات المسلمة وتعريف أبنائها بحقوقهم وواجباتهم وفق الأطر القانونيّة داخل الدّول الأوروبّية، بما يضمن حضورا لائقا للمسلمين في هذه السّاحة على أسس التّفاعل السّليم مع شركاء المواطنة من الأطراف السّياسية والحزبيّة الأخرى.
وإذا كان حضور المسلمين سياسيّا في الغرب لا محيد عنه لما له من أهمّية بالغة في خلق جسور التواصل والانفتاح والتعايش مع الآخر، فإنّ ترجمة ذلك عمليّا يمكن أن يتمّ في ضوء الإجراءات الآتية:
- انخراط المسلمين في العمل السّياسي عبر تأسيس أحزاب إسلاميّة أو التحاقهم بأحزاب وتكتلات سياسيّة قائمة في المجال الغربي؛
- التصويت في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والترشح لذلك؛
- المشاركة في الاستفتاء على الدّساتير بالقبول أو الرفض؛
- المساهمة في الأنشطة الحزبيّة والحكوميّة والدّستورية؛
- المساهمة في تمويل الأنشطة السّياسية والحزبيّة بما يخدم المصلحة العامّة وبالشّكل الذي لا يتعارض مع القانون أو يخرج عنه؛
- المشاركة في التّظاهرات الجماهيريّة (المظاهرات والاعتصامات السّلمية، إعداد العرائض وتوقيعها، المطالبة باتخاذ إجراءات أو سنّ قوانين ...) وغير ذلك من الأنشطة شريطة أن لا تكون خارجة عن إرادة القانون؛ 
- بناء التّحالفات مع مختلف القوى السّياسية أو الحزبيّة أو النّقابية؛ لما يرجى معه من الانفتاح على الآخر وزيادة القدرة على التأثير أو الضّغط على بعض القوى الانتهازية ذات التّوجه اليميني المتطرّف. 
ـ تنظيم النّشاطات الفكريّة ذات التوجّه السّياسي(محاضرات، ندوات، دورات تكوينية، أيام دراسية) بغية نشر الوعي السّياسي في صفوف أبناء الأقليّات الإسلاميّة وتأهيلها لتحمّل مسؤولياتها داخل المجتمعات الغربيّة .
ثالثا: المشاركة في العمل الخيري التطوعي.
ويراد بذلك انخراط الإنسان المسلم في بلاد المهجر في العمل الاجتماعي التّطوعي الذي تتعدّى فائدته حدود الفرد المسلم لتشمل كلّ أفراد المجتمع دون استثناء، بغض النّظر عن الانتماء الدّيني أو العرقي أو الأيديولوجي وغيرها من الاعتبارات الأخرى. 
ومما لا شكّ فيه، فإنّ ما تقوم به بعض الجمعيّات والمنظمات والمؤسّسات الإسلاميّة في الغرب من عمل خيري إحساني  ــ على تواضعه ــ يساهم في  إبراز الصّورة الحقيقية للدّين الإسلامي الحنيف، ويدحض الصور النمطيّة السّيئة التي غرسها الإعلام الغربي في عقول النّاس عن الإسلام والمسلمين.
والعمل التطوعي الذي ننشد النهوض به في صفوف المسلمين في مجتمع الأقليّات يتّخذ صور عدّة منها:
(1)  تقديم يد العون والمساعدة أثناء الكوارث كالزلازل أو الفيضانات أو الحروب ...
(2) تقديم الدعم  المادي والمعنوي للهيئات والمنظمات الإنسانية الغربيّة التي تشتغل في مجال الإغاثة والتّكفل بذوي الاحتياجات الخاصّة. 
(3) تأسيس مشاريع خيريّة مستقلّة لمحاربة التّشرد والحرمان والجريمة. 
(4) الانخراط في الحملات التّوعوية التي تستهدف الصّحة العامّة مثل: حملات التّشجير، وتنظيف المرافق العامّة  كالشوارع والحدائق والممرّات، ونشر الوعي حول خطورة بعض الآفات كتعاطي المخدّرات والتّدخين.
رابعا
 المشاركة في المناسبات الاجتماعية المختلفة 
من بين هذه المشاركات:
- تلبية دعوتهم في المناسبات الاجتماعية كالزّفاف، وازدياد مولود، وغيرها ودعوتهم إلى حضور مناسباتنا المختلفة.
- عيادتهم في المرض، والاطمئنان عليهم، وتفقّدهم بين الفينة والأخرى، والدّعاء لهم بالهداية والشّفاء.
- تهنئتهم بالنّجاح في العمل أو الدّراسة أو غيرها من المناسبات المفرحة.
- مواساتهم عند نزول الكرب كموت أو حادث وغير ذلك.
- تقديـــم الهدايــا إليهم وقبولهـــا منهم.
إن الالتزام بهذه الأخلاق الاجتماعيّة والقيم الإنسانيّة والحضاريّة في بلاد المهجر، يعدّ واجبا شرعيّا، فبالإضافة الى ما يتحقّق في ظلّ ذلك من التّخفيف على النّاس ورفع الكرب عنهم فإنّه « يسهم في الدّعوة إلى الله بالحسنى ويعرّف النّاس بدين الإسلام، وما فيه من الأحكام التي فيها صلاح للنّاس، وما فيه من الآداب والمكارم التي تأسر مشاعرهم، وتستحوذ على عقولهم وقلوبهم...» (4) 
الهوامش
(1) مسند الشهاب القضاعي، حديث رقم: 1234، ج/ 2، ص: 223.
(2) سورة البقرة - الآية 143 
(3) مسلمو أوربا والمشاركة السياسية، حسام شاكر، إصدارات المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، دبلن 2007م طبع على نفقة هيئة آل مكتوم ص221.  
(4) حكم مشاركة المسلمين في مجتمع الأقليات اجتماعيا وسياسيا ، د. حمزة بن حسين العفر الشريف المجلة العلمية للمجلس الأوربي،ع/11-12. 12 رجب 1429 هـ ص.285