للنقاش

بقلم
امحمد الخوجة
مكانة العقل في المذهب المالكي
 قبل التعرّف على مكانة العقل في المذهب المالكي، ولو بشكل مختصر، لابدّ من أن نعرج على تعريف العقل، فالعقل لغة «الحجر والمنع. ورجل عاقل وعقول. وعقل يعقل عقلا ومعقولا أيضا»(1) وأمّا العقل اصطلاحا فقد اختلفت التّعريفات وتشابهت ومن أحسنها، ودون الدّخول في متاهات تعريفاته الكثيرة، نجد أنّه:«قوّة يفصل بها بين حقيقة المعلومات»(2) 
ولقد كان الإمام مالك رحمه الله، لا يلغي دور العقل في الاجتهاد من أجل إصدار فتوى أو استنباط حكم شرعيّ، وهذا إنّما نتج عن فهمه العميق للقرآن الكريم، الذي يدعو إلى استخدام العقول واستعمالها خصوصا عندما يغيب النّص للاستدلال به على نازلة، أو ماشابه من الأمور المستجدّة. لكن بشرط أن يكون العقل تابعا للنّقل، حيث يبقى العقل مستخدما طاقاته وفق ما تجود به النّصوص التي تحتاج إلى فهم دقيق من أجل الاستنباط.
ونحن نجول بفكرنا في كتب المالكيّة نجد أنّهم أثبتوا أصولا اعتمد عليها الإمام مالك دون أن يصرّح هو بذلك، «غير أنّ مالكا لم يدوّن أصوله التي بنى عليها مذهبه تدوينا منظّما كما فعل تلميذه الشّافعي»(3) كما ذكر تلامذة الإمام مالك أنّه كان يعتمد عند الاستقراء والتّقصي على أصول متنوّعة، منها الأدلّة النّقلية كالقرآن الكريم والسّنة النّبوية المطهّرة. واختلف المالكيّة في عدّها أدلّة بالإجمال أو التّفصيل. فرأى البعض أنّها أدلّة بالإجمال على اعتبار أنّ القرآن دليل واحد، والسّنة النّبويّة كذلك، إلاّ أنّ الذين عدّوا القرآن دليلا باعتبار التّفصيل قالوا، بتقسيم أدلّة القرآن نفسها، إلى خمسة أقسام: نصّ القرآن، وظاهره وهو العموم، ودليله وهو مفهوم المخالفة، ومفهومه وهو مفهوم الأولى، وتنبيهه وهو تنبيه العلّة. ومن السّنة النّبويّة مثل ذلك،«ويظهر أنّ الطّريقة الأولى أولى وأسلم، لأنّها هي التي يدلّ عليها تقسيم الإمام مالك نفسه»(4). ثم يتضح من خلال استقراء كتب السّادة المالكيّة، أنّ الأدلّة النّقلية عندهم هي: القرآن الكريم، والسّنة النّبوية، ثم أضافوا الإجماع، وعمل أهل المدينة وقول الصّحابة، وشرع من قبلنا، أمّا ما بقي فتعتبر أدلّة عقليّة، كالقياس، والاستحسان، وسدّ الذّرائع...
لكن هناك من عدّ القياس والعرف دليلان نقليّان، لكنّنا نقول: إذا أردنا إثباته بالنّقل فهذا صحيح، لأنّ النّقل هو الذي دلّ عليه وأثبته، وأمّا إذا تكلّمنا عن «أفراد الأقيسة وما فيها من مسالك هي من الأدلّة النّقلية فهذا غير مسلم» (5)  وأمّا العرف فيظهر أنّه دليل نقلي لأوّل وهلة، لكنّنا عند التّأمل نجده دليلا عقليا، نظرا لأنّ عقول النّاس قبلته على أساس أنّه يعتمد على الاتفاق، والرّضى النّاتج عن الجماعة، ومن جهة أخرى أوضح، حيث نعلم أنّه ليس من قبيل الوحي، وما يهمّنا هنا - في هذا المقال - هي الأدلة العقليّة، لما لها من علاقة وطيدة باستعمال العقل واعتبار مكانته، ولنفنّد شبهات بعض الذين زعموا أنّ الإمام مالك غيّب دور العقل في مذهبه.
مثال على العمل بالقياس
ممّا يدلّ على أنّ الإمام كان ينظر إلى العقل بعين الاعتبار في تنزيل الأحكام، اعتماده على القياس حيث «استدلّ في مواضع كثيرة من فقهه على الحكم الشّرعي بالقياس الأصولي» (6)  قال مالك: «والمعدن بمنزلة الزّرع. يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزّرع يؤخذ منه إذا خرج من المعدن من يومه ذلك، ولا ينتظر به الحول. كما يؤخذ من الزّرع، إذا حصد، العشر ولا ينتظر أن يحول عليه الحول» (7) 
وهنا يتّضح جليّا أنّ مالكا أثبت تزكية الفرع، فور حصوله كما هو الحال في الأصل، ولقد استعمل العقل في استناده إلى أنّ العلّة المشتركة بين المعدن والزّرع هي أنّ أصلهما الأرض « التراب»، لذا وجب إخراج زكاة المعدن دون انتظار مرور الحول، وما يسجّل على هذا المستوى أنّ الإمام مالك كان حكيما حينما قرّر هذا الحكم، حيث كان الحصول على المعدن في زمنه قليلا، أمّا الآن وبتطوّر وسائل استكشاف واستخراج المعادن، فإنّ هذا الحكم موافق أكثر من أيّ وقت مضى، لذا نشهد باستمراريّة صلاحية هذا الحكم.
مثال على العمل بالاستحسان
وأمّا فيما يتعلق بدليل الاستحسان الذي قال فيه مالك: «إنّ الاستحسان تسعة أعشار العلم»(8) وهو دليل عقلي، فذلك يبيّن لنا أنّ هذا الإمام وضع في  الحسبان العقل الذي ينبغي استعماله، وهاك مثالا على ذلك. لقد جوز الإمام مالك إبدال الدّينار النّاقص بالدّينار الوازن لما في ذلك من رفق بالنّاس ودون الزّجّ بهم في العنت والحرج، قال ابن رشد نقلا عن مالك: «والمرأة تأتي بغزلها (يريد أنّ المرأة قد تأتي بغزلها تبيعه)،وتأخذ الدّينار النّاقص لجوازه بجواز الوازن»(9) وهذا المثال ذكره الدّكتور «فاديغا موسى» حينما تعرّض للكلام عن الاستحسان عند مالك، في كتابه «أدلّة مالك العقليّة»(10)
مثال على العمل بسد الذرائع
لقد ثبت أنّ الإمام مالك اتخذ هذا المسلك أصلا وبنى عليه أسس الاستنباط الفقهي، يقول الشاطبي رحمه الله «وكان مالك شديد المبالغة في سدّ الذّرائع» (11) ولا شكّ أنّ هذا من الأدلّة العقليّة كما أسلفنا، بل نقل غير واحد من تلامذة الإمام مالك أنّ سدّ الذّرائع مذهب مالك، بل وقد تميّز به دون غيره من الأئمة، لذلك نجد أنّه منع الدّفن بالمساجد سدّا لذريعة الصّلاة إلى القبور مع اتخاذها معبودات من دون الله عزّوجل «وقد روى أشهب عن مالك أنّه لذلك كره أن يدفن في المسجد وهذا وجه يحتمل أنّه إذا دفن في المسجد كان ذريعة إلى أن يتّخذ مسجدا، فربّما صار ممّا يعبد» (12) من هنا نفهم أنّ هذا الحكم أيضا يصلح لهذا الزّمن ، خصوصا ونحن نعلم أنّ النّاس ابتعدوا عن الدّين غاية الابتعاد ــ كحال بعض فرق الصّوفية الذين يصلّون في مساجد بها مقابر شيوخهم ــ فصار ذلك الحكم صالحا لترك الصّلاة في مساجد بها مقابر. 
وخلاصة القول، واكتفاء بالأمثلة القليلة التي استعرضناها يتبيّن بوضوح أنّ الإمام مالك وتلامذته اعتمدوا على الأدلّة التي مصدرها العقل، بل وحضي العقل عندهم بمكانة سامية، وذلك بغية أن يلائم الفقه المالكي كل القضايا المستجدّة في حياة النّاس، لأنّ النّصوص تنتهي وقضايا النّاس لا يحدّها زمن، لذا وجب الاجتهاد من أجل إيجاد حلول دائمة ومستمرّة تراعي تغيّر الأحوال والأزمان.
الهوامش
(1) منتخب صحاح الجوهري باب عقل ص3489  بدون طبعة  
(2) كتاب التقريب والإرشاد للباقلاني باب الإخبار عن ماهية العقل ص195 ج1  ط الرسالة 1998  
(3) كتاب أصول مالك وأدلته العقلية،  للدكتور فاديغا موسى ص 46 الجزء الأول دار ابن حزم ط م2007  
(4) المصدر السابق ،ص 55  
(5) المصدر السابق، ص 57  
(6) المصدر السابق، ص 59  
(7) موطأ مالك باب الزكاة في المعادن ج1 ص241 ط 1985    
(8)  كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي ج 1 ص 187 نشر دار ابن الجوزي  ط 2008  
(9)  البيان والتحصيل لابن رشد ج 9 ص 328 باب الدرهم الناقص... نشر دار الغرب الإسلامي بيروت ط 1998  
(10)  أصول مالك وأدلته العقلية ج 1ص 349
(11)  كتاب الاعتصام للشاطبي ج 1ص 270  
(12)  كتاب المنتقى في شرح الموطأ لإمام الباجي ج1 ص 306 مطبعة السعادة - بجوار محافظة مصر ط 1992