في الصميم

بقلم
محمد الصالح ضاوي
قصة إبراهيم الخليل والمعبد الوثني مقدّمة نظرية في أصول المسرح الرسالي
 نسعى من خلال هذه الورقة إلى استعادة قصّة النبيّ الرّسول إبراهيم عليه السلام، مع قومه، في فصلها الخاصّ بالمعبد الوثني، وحادث الهدم الذي تعرّض له على يدي هذا الفتى الرّسول، من خلال قراءة فنية درامية للعرض الذي قدمه إبراهيم... وتبيّن الفرق بين العرض الإبراهيمي والعرض المسرحي التّقليدي، مع اكتشاف مقوّمات فنّ مسرحي نبوي رسالي، أهمله الباحثون، وسط الجدل الفقهي والعقائدي والمذهبي.
وعليه، يحقّ لنا التّساؤل: إلى أيّ مدى، يمكن إطلاق لفظ: عرض مسرحي أو فرجوي على الحدث الإبراهيمي؟ وما هي خصوصيّات هذا العرض الرّسالي مقارنة بالعروض الدّرامية الكلاسيكية؟وهل يمكن تبيّن مقوّمات عرض مسرحي إسلامي بكامل صيغته الفنية؟.
العرض من خلال القرآن
يعرض القرآن الكريم قصّة إبراهيم في عدّة سور، وما يهمّنا هو حادثة المعبد الوثني، الذي جاء وصفه في سورتي الأنبياء والصّافات على ترتيب المصحف، أو العكس على مقتضى ترتيب النّزول. والسّورتان مكيّتان، ونزلتا بعد الإسراء والمعراج، في أواخر الفترة المكيّة من بعثة الرّسول صلى الله عليه وسلّم (1).
والقصّة في سورة الصّافات، جاءت ملخّصة، لحادث هدم الأصنام، التي تولّى الفتى إبراهيم اقترافها، حيث يقول القرآن:
«فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)»
في حين، كانت آيات سورة الأنبياء، مفصّلة للمشهد الدّرامي، بأكثر تفاصيل، حيث تقول: «وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)».
والآيات مجتمعة تتحدّث عن مشهد درامي يتمثّل في تحطيم تماثيل المعبد الرّئيسي في بابل، باستعمال الفأس، وتعليقها على الصّنم الكبير... وقد قام إبراهيم بهذا الفعل بعد سلسلة من الحوارات والمجالس الجداليّة مع قومه، وأبيه الذي ينتسب إلى الفئة الكهنوتيّة المتزعّمة للمعرفة الدّينية والأسطوريّة... وكان زمن الحادث: آخر أيام المهرجان السّنوي الاحتفالي لشعب بابل منذ حوالي أربعين قرنا...
ربما، لا تكفي، بعض العناصر الدّرامية في القصّة، لإطلاق مصطلح: «العرض»، عليها...فطبيعة الزّمان والمكان (المهرجان-المعبد) وطبيعة الفعل (عنف فتوّة-هدم للأصنام) ووصف وتشريح العرض (كيد واعتداء على التّماثيل) وفحص العرض باعتباره صيغة اتصاليّة (قيس ردود فعل الجمهور البابلي إزاء الحدث) وفهم الهدف الشّامل من العرض (إيصال رسالة التّوحيد) كلّ هذه العناصر ضرورية لتركيز مفهوم العرض الدّرامي وإطلاقه على الحدث الإبراهيمي، ولكنّه غير كاف، لافتقاده إلى أهم عنصر وهو: المحاكاة.
المحاكاة والتأويل
فالعرض الدرامي، هو بالأساس محاكاة لحدث من الماضي، واقعي أو خيالي أسطوري، بلغة شعريّة راقية، باعتبار الشّعر: «أرفع إنجازات الروح الإنسانية»(2) على حدّ قول أرسطو. هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية، يقوم العرض على سلسلة من التّدريبات والبروفات، ليتحسّن أداء الشّخصية أو الشّخصيّات المؤدّية، والوصول بالجمهور إلى حالة اتحاد وفناء اتصالي، يشبع الرّغبة التي من أجلها حضر العرض.
ومن ناحية ثالثة، يتميّز العرض بقابليته للتّكرار، في مناسبات موسميّة وغير موسميّة، ليلبّي حاجات جمعيّة، نفسيّة ومعرفيّة واجتماعيّة. 
هذه العناصر الأساسيّة لتحديد الحدث الفنّي كعرض درامي، نجدها في الحدث الإبراهيمي بشكل غريب خارج عن المألوف، ممّا يعطي للعرض الإبراهيمي مميّزات لا نجدها في غيره من العروض. فشخصيّة إبراهيم: «النّبي الرّسول»، جعلت من طبيعة علمه: «الوحي»، المحدّد الرّئيسي لكلّ تحرّكاته وأفعاله. وأوامره يتلقّاها بالوحي، وبه يتحدّد مساره مع قومه... وهو مثل كلّ الأنبياء، تابع ومأمور، ولا يفعل أيّ شيء إلاّ بمثال يطبع في ذهنه، وخارطة طريق توجّهه وتنير طريقه... فإن كان هناك أناس ملهمون، ولهم قدرات فائقة للعادة، فإنّ الأنبياء أعلى درجة في مجال العلم الكشفي الذي يأتيهم بطرق عديدة، وبعلامات دالة، تؤمّن لهم الطمأنينة، وتحقّق لهم اليقين. وإبراهيم كان يحاكي مثالا في ذهنه، ويطبّق مخطّطا اطّلع عليه روحيّا، وطولب بتحقيقه وتنفيذه وتنزيله أرض الواقع... فالحدث الذي تحدّث عنه القرآن، من هدم إبراهيم لتماثيل المعبد البابلي، هو محاكاة دقيقة وتنفيذ لمثال في الحضرة الرّوحية التي يعيشها هذا النبيّ في كلّ لحظة، فعمله لا يعدو أن يكون إسقاطا عموديّا حسّيا لمثال روحي لطيف شفاف حصل له في عالم روحي وافتراضي...
وبالرّجوع إلى تجربة يوسف عليه السّلام، في آخر تمفصلاتها، نراه يعلّق عليها بقوله: «وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا»(3). فكان المثال البرزخي (الرّؤيا) حقيقة، وتجسيده في أرض الحسّ: تأويل... فالتّأويل: تنزيل التّنزيل(4)، وتعبير الحقيقة، وتجسيد المعنى والمثال وإخراج اللآلئ من الأصداف...فهو الواسطة بين المثال والحسّ...
العرض الرسالي
من هذه الناحية، لا يحتاج إبراهيم إلى تدريبات وبروفات لتحقيق عرض مثالي أمام جمهور بلده، لأنه سبق وأن مرّ بدورة تأهيلية وتزكوية، أهلته ليتلقى الوحي ويصبح رسولا نبيا، مثله مثل كل الأنبياء الذين مروا بخلوات وفترات اعتزال ومراحل تزكية وترقية روحية.
ولا يحتاج إبراهيم إلى نص شعري درامي متقن، ليحوّله إلى فعل على خشبة مسرح المعبد البابلي، باعتبار أنّ العرض هو الواصلة بين اللّغة والفعل(5) .. فالوحي، باعتباره طاقة نورانيّة ومحمول عرفاني ومعرفي، كان أرقى من كلّ عبقريّة إنسانيّة، إلى درجة أنّه يؤثّر بالعبارة والإشارة، وبالمثال والحسّ، وبالصّوت والصّمت.
ولعلّ أصدق دليل على قوّة الوحي الاتصاليّة والتّأثيريّة، أنّه تحدّى كلّ المخزون الأسطوري لشعبه، وكلّ السّرديات الدّينيّة والسّياسيّة، بعمله هذا... في موسم إثبات المتخيّل الجمعي لقومه... تحدّاهم بالوحي والحدث المحاكي له... وهو عمل لم يتجرّأ أيّ شخص على إتيانه...ممّا جعلهم ينسبوه إلى الفتوّة، مع ما تعنيه هذه اللّفظة من رمزيّة نفسيّة وغير نفسيّة.
من هذا الجانب الذي فصلناه، كان العرض الإبراهيمي مفاجئا للجمهور، على غير موعد ولا إعلان مسبق...أداء حيّ تلقائي... بحيث كان لعنصر الصدمة وقعا على الجمهور الذي استجاب كليا للرسالة المشفرة في المعبد... قبل أن ينتكس ويرجع إلى الدفاع عن السردية البابلية: انصروا آلهتكم...كان التأثير عظيما في نفوس الجماهير البابلية... عكسته النار التي هيؤوها لنصرة كونهم الأسطوري الذي تضرر بفعل العرض الرسالي الصامت والذي أيقظ ضمائرهم وبث فيهم الشك وألجأهم إلى البحث عن اليقين وطرح الأسئلة.
وإذا كان العرض الدرامي التقليدي يعتمد على التأثير بالخيال ونقلة الجمهور إلى لحظة خيالية لمدّة من الزمن...يستعيد فيها مجد الماضي الأسطوري أو الواقعي، فإن العرض الرسالي اختراق روحي ونوري للحظة الحاضر والماضي والمستقبل، وحضور روحي في واقع حسي، وانكشاف معنى ورمز وعرفان، في عمق الكون الأسطوري المحنط بالرموز الحسية المتمثلة في التماثيل وحكاياتها وخدامها.
خاصية الخلود في العرض الرسالي
لقد قام القرآن بتأمين تكرار العرض الرسالي، عبر تسجيله بلغة إعجازية، في صورتين مختلفتين من حيث الإيجاز والاختصار (سورتي الأنبياء والصافات)، ودعانا إلى استعادة العرض الإبراهيمي عبر القراءة والتلاوة والتدبر. ولعل فعل التكرار في القراءة للقرآن ما هي إلا إعادة نسخ للمثال الروحي العالي، ومحاكاته من جديد، عبر التصور والخيال (7)...  
لقد أمّن القرآن خاصية طالما افتقدها العرض الدرامي الكلاسيكي، وسعى مؤدوه إلى امتلاكها، وهي: الخلود، خلود العمل المسرحي وتجاوزه للحظة الراهنة للعرض والأداء، وتجاوزه أيضا للحظة الماضي المستعادة عبر الاستعراض الصناعي والفرجة. لقد حقّق القرآن بتسجيله للحدث الإبراهيمي، خاصية الخلود لهذا العرض الرسالي، وإمكانية معايشته في كل لحظة وحين، مع جمهور جديد... جمهور عالمي وكوني... فعملية الاسترجاع تتم بسهولة، عبر فعل تكرار القراءة والتلاوة والتدبر للآيات الحدث... وكأنها صدى للعرض الرسالي الأول، في أعماق كل نفس... تؤمّن أيضا، عمليات استقبال المدد الرسالي المثالي الروحي، مصدر التأويل والمحاكاة التلقائية الإبراهيمية...إنه عرض متواصل ومتجدد بكل شخوصه وأحداثه ومشاهده وجمهوره أيضا... 
والخلود تحقّق أيضا، من خلال الرّسالة التي سعى البطل، إلى نشرها وإيصالها إلى الجمهور، وهي: رسالة التّوحيد، عبر كنس كلّ أنواع الشّرك والشّراكة، والإبقاء على الواحد الأحد... المشترك الكوني والإنساني في المعتقد (8)...فإذا كان للمسرح قدرة رهيبة على شحذ رؤيتنا للواقع، فإنّها في الأخير تضلّ مصطنعة ومفتعلة وزائفة، عكس المسرح الرّسالي المتميّز بالنموذج الإلهامي والإيماني المتنزّل تنزيلا. ولعلّ إدراك الكهنة لقوّة التأثير الدّرامي الإبراهيمي، جعلهم ينتصرون لسرديتهم الأسطوريّة، ولمصالحهم الطّبقية، فيقرّروا حرق إبراهيم،الفتى الثّائر والمزدري لآلهتهم... 
إيقاع الميم والنون
كما أنّ التّسجيل القرآني للحدث الإبراهيمي، كشف لنا، من خلال بنائه البياني، الموسيقى الدّاخلية التي رافقت العرض، رغم أنّ جزءًا هاما منه كان صامتا... ألا تنطقون؟... كما وفّر القرآن لنا فرصة إدراك الجانب الجمالي في العرض، خاصّة وأنّه ارتبط بالفتوّة والحكمة، في امتزاج غريب ونادر... كثيرا ما يثير المخيال الشّعبي...فملاحظة أنّ الآيات تنتهي بقافية النّون في أغلبها، وفي بعضها تنتهي بحرف الميم، يعطينا فكرة عن نوع الإيقاع الموسيقي الذي ساد العرض الإبراهيمي داخل المعبد... 
فحرف الميم الشّفوي، تكفّل بأسئلة إبراهيم للتّماثيل: ألا تنطقون؟... وهو حرف يرمز إلى مصدر حقيقة إبراهيم، وهي: الحقيقة المحمّدية (لاشتراكهما في الميم... فآخر إبراهيم بداية محمد)، التي في إحدى تجلّياتها العرفانيّة، وفي مستوى وجودي أولي، تمثّل العلم الإجمالي الإلهي الممدّ للقلم الأعلى، وهو في شكل روح يطلق عليه أهل التّصوف: النّون (9) ، وهو روح مهيّم ومهيمن، وهو الحاكم والمتصرّف في الحدث الإبراهيمي (الاسم: المهيمن)... وقد أقسم الله به في سورة القلم، فقال: نون والقلم وما يسطرون(10)... وفي هذا المستوى الأمري، فوق العرشي الطبيعي، لا نكاد نميّز زمانا ولا مكانا... إلاّ صمتا رهيبا ونافذا في كلّ مستويات الوجود...فلا متكلّم إلاّ هو...
الخاتمة
وخلاصة القول: أنّ الحدث الإبراهيمي في معبد بابل الوثني، زمن الاحتفال السّنوي، مثّل عرضا دراميّا استثنائيا، تميّز عن كلّ عرض كلاسيكي، بطبيعته الفجئية الصّادمة، وبمحاكاته لمثال منقوش في الحضرة الإلهيّة  الإبراهيميّة، عبر تأويل المعنى وتنزيل الإشارة وتجسيد المثال، وحقّق القرآن خلود العرض الرّسالي بالتّسجيل الوحيي في سورتين، مكن إيقاعها ومفاتيح قافيتها (الميم والنّون) من النّفاذ إلى موسيقى الحدث والمنظر، من الدّاخل...
ولم يتحقّق لأفلاطون، الفيلسوف والحكيم الإلهي، مقومات العرض الرّسالي ليمجّده، وإنّما نظر إلى العروض الدّرامية المزدهرة في عصره، وعارضها باعتبارها تكرّس خيالا بعيدا عن الواقع (محاكاة مضاعفة:محاكاة لواقع يحاكي المثال) (11) وتمثل خطرا على الأخلاق المثالية. في حين، دافع أرسطو على المسرح واعتبره مطهّرا للنّفوس. ولو نزلنا موقفي الفيلسوفين على الحدث الإبراهيمي، لوجدنا إبراهيم أرسطيّا وقومه أفلاطونيّين بإمتياز... وهذه مفارقة أخرى... وليست أخيرة.
الهوامش
(1) سورة الصافات، ترتيبها في المصحف: 37. وترتيبها في التنزيل: 56. 
سورة الأنبياء، ترتيبها في المصحف: 21. وترتيبها في التنزيل: 73.
(2) هلتون، جوليــان:  نظرية العرض المسرحـي، ترجمــة: د. نهاد صليحــة، هلا للنشر والتوزيع، مصر، ط 1، 2000، ص 19.
(3) سورة يوسف الآية 100. 
(4) يقول أحمد الرفاعي في كتابه: البرهان المؤيد: «أول مراتب القرآن معرفة التنزيل، والثاني معرفة التأويل، والتنزيل ينبغي أن يكون أمرا كما جاء، لا يحرّف ولا يبدّل، لأنه أساس التأويل. والتأويل منزل عن التنزيل، لا يخرج به عن مطابقة التنزيل، فلا يعدل بمعانيه إلى التعطيل، ولا يحاد به عن موافقة طريق السنة الواردة عن سيّد المرسلين». 
الشيخ محمّد الكسنزان الحسيني، موسوعة الكسنزان فيما اصطلــح عليــه أهــل التصـوف والعرفـان، ط 1 سنة 2005. مادة: أ و ل. (ص 324 بالنسبة لنسخة وورد –الألف الثانية).
(5) هلتون، جوليان: نظرية العرض المسرحي، ترجمة: د. نهاد صليحة، هلا للنشر والتوزيع، مصر، ط 1، 2000، ص18. 
(6) لفهم التضاد بين الوحي والأسطورة، يرجى الرجوع إلى كتاب: الضاوي، محمد الصالح: «أساطير الأولين، رؤية إسلامية مغايرة»، دار الكتب العلمية، ط 1، 2011.  
(7) يرجى مراجعة كتاب: الضاوي، محمد الصالح: «تجليات فعل القراءة في القرآن»، نشر مديرية الثقافة لولاية الوادي، ط 1، 2013. 
(8) بل الغريب أنّ الخصوم ساهموا في تخليد العرض الإبراهيمي، عبر مشهد النار العظيمة التي كانت بردا وسلاما على إبراهيم، وخرج منها منتصرا...
(9) قد فصّلت الكلام عن النون والقلم، في كتاب: الضاوي محمد الصالح: «أولى الحقائق الوجودية الكبرى»، إشراف ومراجعة: الشيخ عبد الباقي مفتاح، نشر كتاب ناشرون، لبنان، ط 1، 2016، صص78-80. 
(10) سورة القلم الآية 1. 
(11) هلتون، جوليان:  نظرية العرض المسرحي، ترجمة: د. نهاد صليحة، هلا للنشر والتوزيع، مصر، ط 1، 2000، ص 14.