الأولى

بقلم
فيصل العش
عبادة أحرار لا عبادة رقيق
 مقدّمة
وأنت تتأمّل قول الله تعالى : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِِ»(1) وقوله «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ»(2)  وقوله من جهة أخرى : «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (3) ينتابك تساؤل عن أيّة علاقة تربط العبادة بالخلافة؟ وهل تتلخّص خلافة الإنسان لله في الأرض في العبادة؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفسّر وصف الله سبحانه وتعالى هذه الخلافة بالأمانة التي أبت السّماء والأرض والجبال أن يحملنها «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (4) في حين أنّ السّماوات والأرض ومن فيهنّ يعبدون الله في كل وقت وحين «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون» (5) َ؟ 
الخلافة على الأرض عبادة لا تعبّد
لقد كرّم الله عز وجلّ ابن آدم، فخصّه بالخلافة في الأرض ورفع منزلته ومكانته على مكانة ومنزلة سائر مخلوقاته إلى درجة أنّه أمرهم بالسّجود له «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(6) ، وسخّر له ما في السّموات وما في الأرض وما بينهما «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(7) ، لينفّذ مهامه بمقتضى العقد الذي بينه وبين خالقه «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (8). فالإستخلاف بما هو تحقيق لصفات الله في الأرض وعمارتها وإنماؤها والتصرّف في ما تختزنه من خيرات وثروات لصالح الإنسانيّة جمعاء وفق ما يريده المستخلِف أي الله، هو سبب الوجود على الأرض، وهنا يأتي معنى العبادة. فالعبادة هي أن تتحرّك وتعمل بالله ولله سواء كان تحرّكك اختياريّا أو اضطراريّا أي أن تستحضر الله في كلّ أعمالك الصّغيرة والكبيرة، الخاصّة والعامّة، من شهوة تقضيها في غرفة نومك (9) إلى العلاقات الدّولية وتحرص على أن تصدر عن نيّة خالصة لله، «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (10) وإن كانت نتائجها وفوائدها ترجع بالنّفع لك ولغيرك من البشر لأنّ الله سبحانه وتعالى كامل غنيّ عن العالمين لا تنفعه طاعة ولا تزيده ولا تضرّه معصية. يتّضح هذا المعنى من خلال قول الله سبحانه وتعالى : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (11). وقوله:«وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ»(12) وقوله:«لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (13).
إذن ليس المقصود بالاستخلاف التعبّد المحصور في الشّعائر التّعبدية، من صلاة وصيام وتسبيح وتحميد وتقديس فتلك وسائل ضروريّة كما سنرى لدعم الإنسان في تحقيق مهامه..إذ لو كان الهدف هو التعبّد  لكانت الملائكة أجدر من الإنسان في الاستخلاف لأنّهم أكثر المخلوقات تعبداً لله،يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ولا يستطيع الإنسان مهما فعل مجاراتهم في هذا الأمر، ولهذا تساءل الملائكة قائلين: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» (14) . 
والخلافة على حدّ تعبير الشّهيد باقر الصدر «تستبطن المسؤوليّة والمسؤوليّة تضع الإنسان بين قطبين: بين مستخلِف يكون الإنسان مسؤولاً أمامه، وجزاء يتلقّاه تبعاً لتصرُّفه، بين الله والمعاد، بين الأزل والأبد، وهو يتحرّك في هذا المسار تحركاً مسؤولاً هادفاً» (15) وأن تكون مسؤولا أمام الله يعني أن تكون عبدا له ولا يتحقّق ذلك إلاّ إذا آمنت به وبوحدانيته وعظمته وقدرته. والإيمان بوحدانيّة المستخلِف (الله) يخلق نوعا من التوازن في شخصيّة المستخلَف (الانسان) لأنّ أمامه سلطة واحدة، يتفاعل معها ويخضع لها ولو تعدّدت السّلطات لأصبح الإنسان تائها ولكان الفشل حليفه في تنفيذ مهامه وبالتالي لكان فساد الأرض نتيجة حتميّة لذلك «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (16) 
إنّ العبادة في شموليتها تعني أن يربط الإنسان المحدود مسيرته بالله المطلق، يستمدّ منه قوّته وتوازنه ليحقّق تكامله، إذ أنّ معرفة الله تعني معرفة صفاته التي هي عناوين الكمال، فيسعى الإنسان إلى تحقيق قيمة الرّحمة انطلاقا من صفة «الرّحيم» والعلم من صفة «العليم» والعدل من صفة «العادل»، والقدرة من صفة «القدير»..الخ وبذلك يستطيع أن يحمل عبء الأمانة إذ بارتباطه المستمر بالله يشعر المؤمن أن لا قوّة تستطيع أن تحدّ من عزيمته وحركته والتجائه إليه يكبح فيه غريزة الخوف «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(17)
ولأن الخليفة مخلوق فيه ضعف «اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» (18)، وجد السند من المستخلِف المطلق فأمدّه عبر مسيرته التكامليّة بالعون الذي تغيّر بمرور الزّمن حسب حاجته وقدراته، إذ أرسل الرّسل والأنبياء بالبيان والتّبيين لما يحتاج من تصوّر ومن منهج يهتدي به في إقامة خلافته على الأرض حتّى إذا بلغ هذا الخليفة مرحلة من النّضج، بعث الله النّبي محمدًا كخاتم للأنبياء والمرسلين وأنزل معه القرآن ليبقى من بعده مصدر إلهام للإنسان يستنطقه ويتفاعل معه من خلال طاقة السمع والبصر والفؤاد.  
التّعبد غاية أم وسيلة؟
ولكي يستمرّ التّواصل الغيبي مع المطلق خصّ الله عبده بمناسك وشعائر تعبّدية متنوعة ومختلفة في طبيعتها وشكلها وفي توزّعها الزّماني والمكاني وأمره بالقيام بها والمحافظة عليها. قال تعالى:«إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي»(19) وقال أيضا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(20) ولعلّ القصد من تنوع تلك الشّعائر من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وتوزّعها الى شعيرة يوميّة وأخرى أسبوعيّة أوسنويّة، إنّما للتّجديد المستمر للعقد بين الإنسان وربّه؛ والى تفعيل ذلك العقد بشكل لا انقطاع فيه ليبقى مستمرّا إلى أن يلقى الإنسان ربّه. هذه الشّعائر التّعبدية بكلّ أنواعها ليست على أهمّيتها غاية بحدّ ذاتها، إنّما هي وسيلة هدفها ربط مباشر للمستخلَف بالمستخلِف لتمتين العلاقة بينهما؛ وكلّما كان الرّابط سليما كان النّجاح حليف المستخلَف في مسيرته وكلّما كان التعبّد خالصا لله كلّما ازدادت حكمة المستخلَف وقدرته على القيام بوظيفته على أكمل وجه بعنوانه خليفة لله عزّ وجل.إنّها وسيلة يستعين بها الإنسان في كدحه إلى الله ومسيرته الصّعبة والشّاقة نحو تحقيق الهدف الذي خُلق من أجله، لهذا يقول الله سبحانه تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ»(21). وقد شرّع الله سبحانه وتعالى هذه الشعائر وجعل لمن يحافظ عليها ويخلص فيها أجرا عظيما لما لها من دور في تعميق الإيمان بالله والقرب منه والحثّ على طاعته وترك نواهيه كما يبرز ذلك جليّا في إقامة الصّلاة «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ»(22)
غير أن هذه الشعائر رغم أهمّيتها لا قيمة لآدائها لدى الخالق إلّا بمدى مساعدتها المؤمن في مسيرته لإنجاز ما جاء في عقده مع الله من نفع للنّاس وإعمار للأرض وتحقيق لصفات مستخلفِه فيها من عدل ورحمة وانتصار للمستضعفين. هي لا تساوي شيئا عند الله إذا ما تمّ عزلها عن حياة الإنسان ومشاغله وعن كدحه المتواصل وهمومه. لهذا جاء في حديث رسول الله أنّ «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلاّ بعدا» (23) وجاء في حديث آخر: « أتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ له وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار»ِ(24) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم : «من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (25) 
إنّ الذين يحصرون الحياة في إطار ضيّق من العبادة ويعتقدون أنّ كثرة الصّلاة والصّيام والقيام كافية للتّقرب من الله ونيل رضاه واهمون لأنّهم فرّطوا في عقد الاستخلاف الذي يربطهم بربهم، فالفصل بين الوسيلة وغايتها يفقد الوسيلة قيمتها وعدم ربط الشّعائر التّعبدية بغاية إعداد الإنسان للنّجاح في تحقيق الخلافة في الأرض يحوّلها إلى طقوس وعادات لا نفع فيها في الدّنيا ولا جزاء لها في الآخرة.
أمّا الذين يسعون إلى فصل الدّين عن الدّنيا والعبادة عن العمل بتعلّة أنّ لدى الإنسان من الوسائل والإمكانيات ما تجعله قادرا على فكّ الإرتباط مع الله وتسيير أموره بكامل الاستقلاليّة وتحقيق ما تسمو إليه البشريّة من رقيّ وتقدّم، هؤلاء أيضا واهمون لأنّ فكّ الارتباط مع الله يعني خلق ارتباط جديد بمطلق آخر لكنّه مصطنع لأنّ من فطرة الإنسان البحث عن مطلق يستند إليه في مسيرته الشّاقة الطّويلة المدى، ويستمدّ من إطلاقه وشموله العون والمدد، ويربط من خلال ذلك المطلق حركته بالكون وبالوجود كلّه. «فالتّحرك الضّائع بدون مطلق تحرّك عشوائي كريشة في مهبّ الرّيح، تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثّر فيها، وما من إبداع وعطاء في مسيرة الإنسان الكبرى على مرّ التأريخ، إلاّ وهو مرتبط بالاستناد إلى مطلق، والالتحام معه في سير هادف» (26) 
إنّ الشعائر التّعبدية هي ضمان ارتباط الإنسان بالخالق المطلق والسّير نحو تحقيق صفاته من علم وعدل وقدرة. وهو ما يعني: «أن تكون المسيرة الإنسانيّة كفاحاً متواصلا باستمرار ضدّ كلّ جهل وعجز وظلم وفقر»(27) وتحرّرا من سراب كلّ مطلق مصطنع يعطّل مسيرة الإنسان نحو الكمال.
عبادة أحرار  لا عبادة رقيق
الإستخلاف في الأرض أمانة والأمانة مسؤوليّة، ولأنّها مسؤوليّة فهي تتطلّب ممّن يتحمّلها أن يكون حرّا ذا إرادة، لأنّ فاقد الإرادة لا يمكن بحال من الأحوال أن يتحمّل المسؤولية، فكيف تجتمع الحرّية مع العبودية؟ وهل تعني العبوديّة لله الاسترقاق بما تحتويه الكلمة من معنى؟
تختلف العبوديّة لله عن العبوديّة لغير الله،فالأولى على عكس الثانية مقترنة بأعلى درجات الحرّية، إذ العبوديّة للبشر أو الإسترقاق قسريّة في حين تكون العبوديّة لله اختياريّة «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»(28) والأمانة لم تفرض فرضا على الإنسان بل هو الذي حملها بكامل الحرّية، ولهذا فإنّ الله سبحانه وتعالى اعتبر مماثلة عبده بالعبد المملوك للبشر ضربا للمثل بجهل «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (29). ثم يضرب لنا في الأيتين المواليتين مثلا يحدّد به الفارق بين عبودية البشر لله وعبودية المسترق المملوك لمالكه البشري «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُونَ ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (30) فالعبد الذي يعيش الرّق لا يقدر على شيء لأنّه لا يملك حقّ التصرّف، وهو أبكم لاحقّ له في التّعبير أو إبداء الرّأي وإنّما ينفّد أوامر مولاه، فهو إذا «كامل الاستيلاب العبودي لمولاه» على حدّ تعبير الدكتورالمرحوم حاج حمد. أمّا عبدالله فله الحقّ في التّصرّف في ما أعطاه الله من رزق وهو يسعى إلى تحقيق صفات المعبود ومنها العدل. لقد أراد الله أن يكون الإنسان حرّا كامل المسؤوليّة في ما يقرّره لحياته، يمارس إرادته كما يشاء سواء اختار سبيل الحقّ أو سبيل الباطل، قال تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» (31) لهذا فإنّ العبادة التي يرضاها الله للإنسان والتي من شأنها تأهيله ليكون خليفته في الأرض هي عبادة أحرار وليست عبادة رقيق. إنّ العبوديّة لله هي نفي قاطع لكل أنواع العبوديّة الأخرى وهي تحقيق فعلي لحرّية الإنسان وفي هذا يقول أحمد بن خضرويه البلخي: «في الحرّية تمام العبوديّة وفي تحقيق العبوديّة تمام الحرية» (32) 
الخاتمة
إنّنا في زمن تاه فيه الإنسان المسلم بين اتجاهين، أحدهما يسير به نحو الانغماس في مادّية تبعده عن عبوديّة الله وتغمسه في عالم تسوده عبودية الشّهوات والسّلطان والمال وتحكمه الصّراعات والمصالح والثاني يسير به نحو ما يسمّى بالخلاص الفردي يحصر العبادة في شعائر وأذكار ويتعامل مع الله تعامل التّجار، لاتأثير لتعبّده على حياته الاجتماعيّة والسّياسية والاقتصادية أو على علاقاته بالنّاس من حوله. هذان الاتجاهان لا يؤهّلان الإنسان لممارسة خلافته في الأرض على النّحو الذي يرضاه المستخلِف (الله) ولهذا وجب علينا العمل على إبراز خصائص الاتجاه الذي يدعو إلى نظام تعبّدي ينظّم علاقة الإنسان بالله بطريقة تحقّق التّوازن والانسجام بين العبد وخالقه في المقام الأول، وبين مطالب الروح والعقل والنفس والجسد في الإنسان ذاته في
المقام الثاني، وبين الإنسان ومحيطه وسائر محتويات الكون في المقام الثالث.
الهوامش
(1) سورة الذاريات - الآية 56
(2) سورة البيّنة - الآية 5
(3) سورة البقرة - الآية 30
(4) سورة الأحزاب - الآية 72
(5) سورة النحل - الآية 49
(6) سورة الحجر - الآيتان 28-29
(7) سورة الجاثية - الآيتان 12-13
(8) سورة الأحزاب - الآية 72
(9)  عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « وَفِي بِضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ». قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ يَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ : « أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ»رواه مسلم -جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي الحديث 25.
(10) سورة الأنعام  -الآيتان 162 و163،
(11) سورة الذاريات -الآيات 56-58
(12) سورة محمد - الآية 28
(13) سورة الحج - الآية 37
(14) سورة البقرة - الآية 30
(15) عبادتنا، من سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر- نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية - ط1 - جانفي 2011 - 1432 هـ - ص 18
(16) سورة الأنبياء - الآية 22
(17) سورة الرعد - الآية 28
(18) سورة الروم - الآية 54
(19) سورة طه - الآية 14
(20) سورة البقرة - الآية 183
(21) سورة البقرة - الآية 45
(22) سورة العنكبوت - الآية 45
(23) عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش - الجامع لأحكام القرآن - (13/348) 
(24) رواه مسلم عن أبي هريرة
(25) صحيح البخاري عن أبي هريرة 
(26) الشهيد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 808، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثامنة، بيروت 1983م.
(27) نفس المصدر:  ص710 .
(28) سورة الكهف - الآية 29
(29) سورة النحل - الآية 74
(30) سورة النحل - الآيتان 75-76
(31) سورة الأحزاب - الآية 72
(32) السُلمي، طبقات الصوفية، تحقيق: نور الدين شريبة، الطبعة الثالثة، (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1969م)، ص 94.