الإفتتاحية

بقلم
فيصل العش
الإفتتاحية
 «التنوع والتعدّد والاختلاف» آيات من آيات الله وسنن من سننه وهي قوانين خلق عليها الكون وما فيه من مخلوقات جمادا ونباتا وحيوانا وبشرا. فقد خلق الله سبحانه وتعالى البشر متنوعين ومختلفين ليتعارفوا فيما بينهم ويشارك بعضهم البعض فيتبادلون المعارف والتجارب والمكتسبات، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُــمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(سورة الحجرات، الآية 13). لم يكن  الهدف من هذا التنوع التخاصم والتنافر  إلى درجة التقاتل وسفك الدّماء ونشر رائحة الموت في كل مكان، فما بالك إذا تعلّق الأمر بأبناء الأمّة الواحدة والمجتمع الواحد والدّين الواحد.
إن انقسام الإنسانية إلى مجتمعات مختلفة وانقسام المجتمعات ذاتها إلى مجموعات عرقيّة ودينيّة ولغويّة وثقافيّة متنوّعة هو الوضع الطبيعي للمجتمعات الإنسانيّة وظاهرة أصيلة في تكوينها. فمن الطّبيعي أن يتباين النّاس في رؤاهم الثّقافية والفكريّة والسّلوكية نتيجة لاختلاف ظروف عيشهم وبيئتهم وتعدّد مداركهم وتباين عقلياتهم ومعارفهم التي يكتسبونها من خلال تجاربهم وتفاعلهم مع الزّمان والمكان الذي يعيشون فيه.يقول سبحانه وتعالى : «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ»(سورة الروم، الآية 22 ).
وقوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(سورة هود، الآية 118) تأكيد على أنّ الاختلاف سنة كونيّة وأنّ المسعى الحقيقي هو استثمار هذا الاختلاف لصالح البشريّة وتحقيقها لخلافتها على وجه الأرض  عبر الاتجاه نحو «الدخول في السّلم كافّة» بما هو إقرار بالآخر المختلف والعمل على محاورته وفهمه والاستفادة من خصوصياته ومميزاته. 
لقد جاء القرآن الكريم ليؤكّد فكرة «الإختلاف والتنوع» وهو من خلالها يؤكّد وحدانيّة الخالق سبحانه وتعالى، فكلّ شيء مختلف ومتنوع ومتغيّر إلاّ الله فهو واحد أحد، فرد صمد. ولو تمعّنا الآيات القرآنيّة التي تحدّثت عن الاختلاف بين الناس لوجدنا ثلثيها قد نزل في العهد المكيّ إبّان ترسيخ عقيدة التّوحيد إذ عملت هذه الآيات المكيّة على امتداد ثلاث عشرة سنة على تجذير فكرة «الاختلاف» لدى المؤمنين وتأصيلها ودعتهم إلى استبطان تلك الفكرة والإقرار بها كشرط من شروط الاجتماع البشري. أمّا الثلث المتبقي فقد نزل بالمدينة لتوجيه  المؤمنين إلى التكريس العملي لمفهوم الاختلاف في مجتمع المدينة الذي أراده الله أن يكون مجتمعا منفتحا فيه اختلاف في الألسنة والألوان والعقائد والأفكار. 
لكنّنا ابتلينا في هذا الزمن بفئات منّا تكفر بالتعدد والاختلاف وتعتقد أن الحالة الطبيعية للمجتمع السويّ هي أن يكون على ثقافة واحدة ونمط واحد وفكر واحد ودين واحد بل وفهم واحد للدّين. يجعل هؤلاء من مدلولات التّنوع والاختلاف سببا للعصبيّة ومسلكا للصّراع والتناحر وحجّة لإقامة حدود وموانع تفصلهم عن غيرهم من أبناء جلدتهم أو من جيرانهم.
ينقسم هؤلاء إلى فريقين يختلفان في مظهر الفكرة لكنّهما يشتركان في جوهرها :
 فريق من المتشدّدين يصرّ على رفض الآخر و فرض ثقافة «الاستئصال والإنغلاق» إلى درجة التحوّل إلى إرهابيين لا يعرفون إلاّ لغة السّلاح والقتل. هولاء في تقديرنا مخطئون ليس في حقّ أنفسهم فحسب بل في حقّ مجتمعاتهم ومخطئون أيضا في حقّ دينهم لأنهم - بقصد أو غير قصد وبوعي أو لجهل - يريدون أن يغيروا سنّة من سنن الله سبحانه وتعالى.
وفريق من المستغربين - بتعلّة الحداثة ومحاربة التخلّف والرجعيّة - يريد فرض ثقافة لا تمتّ إلى المجتمع بصلة ويصرّ على طمس معالم الثقافة العربيّة الإسلاميّة واستئصال كل فكرة مخالفة وشيطنتها باعتماد كل الوسائل المتاحة من مؤسسات إعلاميّة وثقافيّة واحتكارها بالإضافة إلى تمرير مناهج تعليميّة أجنبيّة تُسوّق بشكل علنيّ تارة ومبطن تارة أخرى . 
إنّ من ينكر حقيقة الإختلاف ويعمل على فرض نمط معيّن على النّاس بمختلف الطّرق والأساليب، سواء كانوا من هذا الفريق أو من ذاك ، إنّما يخالف سنّة الله، ويريد أن يسيّر الكون حسب رغباته ولذلك فإن الفشل سيكون حليفه لامحالة والتّاريخ شاهد على ذلك.
نحن اليوم أمام تحدّ كبير يتمثّل في كيفيّة تأسيس مجتمعاتنا على أساس «ثقافة التنوع والتعدّد والاختلاف» وإنقاذها من ثقافة «الإنغلاق» حتى لا نحكم عليها بالفناء ولا نفوّت عليها فرصة التطور والنماء، لأنّ الاختلاف والتنوع والتعدّد في الفكر والثقافة هو الدّافع الأساسي للتّنافس والتّدافع والاستباق بين بني البشر «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ»(سورة البقرة، الآية 251) . 
ولأننا في «الإصلاح» لا نخفي إيماننا بأن الإسلام هو المكوّن الأساسي لهويتنا الضّائعة، فإننا نرى أنه من واجبنا العمل على تصحيح جملة من المفاهيم المدمّرة المتغلغة في النّفوس عبر عمل فكري ثقافي يدافع عن مبدأ التّعدّد والتنوع وما يولد عنه من قبول للرّأي الآخر ويبرز القيم الحضاريّة التي نادى بها الإسلام كقيم الخير والعدل والتآخي والتّسامح والتّحابب والتّفتح على الآخر والتّعاون معه وحبّ العمل وتقديس العلم ....وهي قيم إنسانيّة راقية توفر السّلام والسّلم للجميع وتحقّق الرّفاه وتقضي على كل فكر متحجّر لا يفهم غير لغة الحرب والخراب مهما كان منبعه ومهما كانت دوافعه.