قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
يا له من ظمأ
 عاد التلاميذ للدّراسة فى المدارس والمعاهد وعاد الطّلبة إلى الجامعات ولعودة هؤلاء أثر على كل نواحي الحياة. عودة التّلاميذ تزيد الشّارع زخما وبهجة وتعيد للعام الجديد رونقه المعتاد وترفع عن النّاس ما كان يتملّكهم من دعة وكسل فكلّ العائلات تعيد ترتيب ساعتها ووقع حياتها اليوميّة على حسب ما يقتضيه اختلاف الدّارسين إلى المدارس.
كلّما قدم عام دراسي جديد عادت بي الذّاكرة إلى زمن بعيد وتحديدا إلى اليوم الأول من عمري الدراسي. لا أذكر لذلك اليوم مقدّمات كتلك التي نشهدها الآن، فلم أرتد قبل ذلك كتابا ولا روضة ولا شاهدت مدرسة أو عرفت معلّما. فجأة أيقظتني أمّي ذات صباح وألبستني لباسا جديدا وحملتني محفظة جديدة وضعت فيها كتابا وكرّاسا وريشة وقالت لي – ستذهب إلى المدرسة صحبة الذّاهبين من أبناء عمومتك –ثم سارت بي مسافة تزيد عن الكلمترين حتّى لحقنا بركب التّلاميذ وتركتني معهم وعادت أدراجها.
وجدّت نفسي في مدرسة فسيحة بها قسمان لم ألبث أن أدخلت قسما منهما صحبة أطفال كثيرين فتسنّى لي أن أرى للمرّة الأولى مسطبة وطاولات وأوراق معلقة على الحائط وأدوات أخرى معدّة للدّراسة ويومها رأيت لأوّل مرّة في حياتي معلّما يرتدي بدلة على غير عادتنا في اللّباس، شابّا وسيما دخل في جدّ الدّرس من السّاعة الأولى وكان درسا في اللّغة الفرنسيّة.
ظلّت أمّي رحمها الله تمسك بيدي كلّ صباح مهرولة لتلحق بركب التّلاميذ وأنا أجري خلفها متعثّرا في أغلب الأحيان حتى أمضي مع الماضين إلى المدرسة من دون أن أفهم معني لكل ذلك، ولم يكن في مدارس الرّيف في حينه ما يبعث على البهجة، إذ كنّا نقضي وقتا طويلا في العراء ما بين زمني الدّراسة من دون أن يعبأ بنا أحد، وقد يقرصنا الجوع أو يشتدّ بنا البرد ولكنّنا لا نبالي بذلك بل نمضي في اللّهو واللّعب حتى يأتي المعلم وتحين ساعة الدّرس.
بعد سنوات طويلة من ذلك اليوم وقف أستاذ الخدمة الاجتماعيّة يحدثنا عن فوبيا الدراسة وعن تأثير اليوم الأول في نفسية الأطفال وما قد يسبّبه للطّفل من متاعب قد تستمرّ معه طول حياته إذا تعرّض إلى حادث أو سوء معاملة أو صعوبة في الاندماج والتّفاعل مع المدرسة والأتراب.لاحظ الأستاذ ابتسامتي فسألني عن سرّها وهو لا يعرف أنّني لم أجد في يومي الأول في المدرسة غير ما يستدعي هذه الفوبيا وأنني ما زلت لا أفهم كيف أفلتّ من أي صدمة.
لم يعد الأمر كما كان، في الرّيف أو المدينة، فلقد أصبح الصغير يعرف اللّوح والقلم والكرّاس من سنّ الثالثة، وانتشرت الرّوضات والكتاتيب في كلّ مكان وصار الاختلاف إليها ضرورة. أصبحنا نتحدّث عمّا قبل الدّراسة بل ونحمل الصّغير أكثر ممّا يطيق قبل أن نأخذه إلى درسه الأول في المدرسة، فهل صار أطفالنا في منآى عن هذه الفوبيا وهل صاروا أقلّ عرضة للصّدمات؟ .
دخلت الفصل الدّراسي الأول من دون أن أكلّف عائلتي شيئا يذكر، ولم يكن الحال هكذا لأنّني درست في الرّيف كما هو الظن، وإنّما كان هذا هو الحال على امتداد الوطن كلّه فقد كان القليل يغني عن الكثير، وكان المعلّم لا يطلب منّا شيئا تقريبا سوى بعض الكرّاسات وكتابا لكلّ فصل، فالمعلّم هو صاحب الكلمة العليا،لا يسمح بأيّ تميّز لطفل عن طفل آخر مهما كان مبلغ الغنى ولذلك لم يكن أطفال جيلنا يحسّون الغبن لأنهم فقراء ولا كان الأغنياء منهم يعرفون معنى لذلك الغنى. كانت وسطيّة النّاس في الانفاق تنعكس على كلّ نواحي الحياة ومنها الحياة المدرسيّة إذ تتآلف المدرسة مع هذه الوسطيّة ولا تشذّ عنها أمّا مناهج التّعليم كذلك فقد كانت مناهج تكره الحشو وتمقته، فكان القليل الجيّد يغني عن الكثير الذي لا يعدو أن يكون تكرارا لا خير فيه.
لطالما فاخرت دولة ما بعد الاستعمار وزعيمها بتعميم التّعليم ومجانيته، والحقّ أنّ هذه الدّولة لم ترفع شعارات من فراغ، فقد حرصت فعلا أن يكون التّعليم مجانيا غير مكلّف وأن يكون الحقّ في العلم حقّا مكفولا للجميع بدون استثناء بغضّ النّظر عن هدف الدّولة الفتيّة من تعميم التّعليم. بسطت هذه الدّولة سيطرتها على المناهج والمؤسّسات التّعليمية وقضت نهائيا على التّعليم الأهلي حديثا كان أو تقليديّا، فصار ارتباط العائلات بالتّعليم الحديث ارتباطا وثيقا حتى أصبح مدخلا ضروريّا لا محيد عنه للوصول إلى موقع في المجتمع علا شأنه أو صغر.
 لم تكن الدّولة تخشى تعليما هي من يشرف عليه ويضع مناهجه ولكنّها كانت تخشى تمرّد المتعلّمين عليها وهذا ما حصل مبكّرا وظلّ يحصل باستمرار، لم يكن الهدف من إشاعة التّعليم بين النّاشئة من مختلف الأعمار بريئا تماما من لوثة السّياسة، فقد كان للدّولة حساباتها في شأن مفصلي كهذا وعبثا حاولت إخفاء ذلك إذ ما لبث الأمر أن صار مكشوفا بدءا بالمناهج وصولا إلى الطّرق والغايات. لم تكتف الدّولة بالرّعاية والإشراف على تعليم تنبثق روحه من المجتمع فيكون وفيّا للغته ودينه وهمومه، بل صار التّعليم أداة في أيدي دعاة التّحديث بدءا بالزّعيم الأوحد وصولا إلى مدّعي الحداثة ممّن رفعوا شعارات الحرّية والعصرنة والتّجديد وغيرها من الشّعارات التي لم تكن في الحقيقة سوى مزاعم لاحتكار أهمّ أداة من أدوات الحضارة في أيّ مجتمع ألا وهي أداة التّعليم.
حملتني أمّي إلى معلّمي الأول ولم يدر في خلدها أبدا أن تسأل عن المعلّم ولاعن الجهة التي يمثلها، كانت أمّي صادقة في مسعاها بلاريب وكان معلّمي يعطيني درسا أولا في لغة المستعمر وهو صادق بلا ريب أيضا، والمعلم كأمّي تماما لم يكن يعنيه من الأمر سوى أنّني سأتعلّم درسا جديدا وأنّني سوف أكون في قادم الأيام غير ما كانه أبائي وأجدادي تخلّفا وجهلا. 
الآن أحمل أولادي طوعا إلى مدرسة ما زالت ترفع ذات الشّعارات وتدّعي نفس الإدّعاء ، غير أنّني خلافا لأمّي لست على يقين من أنّ هذه المدرسة سترفع الجهل عن أبنائي، ولا يدور في خلدي أنّني وضعتهم في أيد أمينة عليهم. لم تعد فوبيا الدّرس الأول هي الفوبيا التي تخيف بل تعدّدت الفوبيا واتخذت عشرات الأشكال .
كلّما عدت إلى مدرستي الأولى زائرا، انتابني شعور بالخجل من أمّي وتملّكتني حسرة على المكان والزمان أيضا. أمّا المكان فلأنّه مرتع الصّبا وأين منّي هذا الصّبا وأما الزّمان فلأنّني لم أجد في غير تلك المدرسة ما يروي الظّمأ لا ظمئي ولا ظمأ أولادي ويا له من ظمإ