شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
العلامة «محمد الخضر حسين» عصفور يغرّد خارج السرب
 العلامة «محمد الخضر حسين» واحدٌ من العلماء القلائل الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة. ثار وتمرّد على الأوضاع القائمة في البيئة الدينيّة والسياسية في عهده. هو عالم تونسي تولّى مشيخة الأزهر في الفترة من عام 1952 الي عام 1954 ليكون الوحيد من غير المصريين الذين تولوا هذا المنصب، فأنكر العقم المنهجي الفاضح في النظام التعليمي القائم آنذاك في الأزهر، و تمرّد عليه ..كان من الموهوبين الأفذاذ الذين جمعوا بين العلم الشرعي والأدب وتميّزوا فيهما على نحو مدهش !.
 والتحق بجامع الزيتونة وأكبّ على التحصيل والتلقِّي، وكانت الدراسة فيه صورة مصغرة من التعليم في الجامع الأزهر في ذلك الوقت، تُقرأ فيه علوم الدين من تفسير وحديث وفقه وعقيدة وعلوم اللغة من نحو وصرف وبيان، وكان من أبرز شيوخه الذين اتصل بهم وتتلمذ لهم: عمر بن الشيخ، ومحمد النجار وكانا يدرّسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب وكان يدرس صحيح البخاري، وقد تأثر به الخضر الحسين وبطريقته في التدريس. 
ولد الشيخ محمد الخضر حسين في نفطة بتونس في عام 1876، نشأ في أسرة علم وأدب ، فحفظ القرآن الكريم، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، ونهل شيئًا من الأدب والعلوم الشّرعية، ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة سنة (1305هـ=1887م) وهو في الثانية عشرة من عمره، والتحق بجامع الزيتونة أين درس العلوم الدينية واللّغوية على يد عدد من العلماء منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز. 
تخرج محمد الخضر الحسين من الزيتونة، غزير العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، محبًا للإصلاح، فأنشأ مجلة «السعادة العظمى» سنة (1321هـ= 1902م) وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس لتنشر محاسن الإسلام، وترشد الناس إلى مبادئه وشرائعه، وتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وقد لفت الأنظار إليه بحماسه المتقد ونظراته الصائبة، فعُهد إليه بقضاء «بنزرت»، والخطابة بجامعها الكبير سنة (1324هـ= 1905م)، لكنه سرعان ما استقال من منصبه وعاد إلى التدريس بجامع الزيتونة وتولى تنظيم خزائن كتبه، ثم اختير للتدريس بالمدرسة الصادقية وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة في تونس، وقام بنشاط واسع في إلقاء المحاضرات التي تستنهض الهمم، وتنير العقول وتثير الوجدان، وأحدثت هذه المحاضرات صدى واسعًا في تونس. 
حاولت السلطات الفرنسية ضمّه إلى المحكمة الفرنسية فرفض بشدة ممّا جعل المستعمر يضيّق عليه ويتّهمه ببث روح العداء للغرب ولسلطات الحماية الفرنسية في عام 1910 ويحكم عليه بالإعدام، فهاجر إلى دمشق مع أسرته وأقام فيها مدة طويلة تولى في مطلعها التدريس وأعاض الله به أهل الشام بعد رحيل علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي - رحمه الله - فكان الخضر من أسباب النهضة العلمية في بلاد الشام. قام الشيخ بعدّة رحلات إلى الآستانة، وألمانيا، وأتقن اللغة الألمانية وكتب عن مشاهداته في برلين. وبعد ذلك عاد إلى دمشق، فلحقته سلطات الاحتلال الفرنسي، فرحل إلى مصر لاجئاً سياسياً. 
نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1339هـ= 1920م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر وتوثقت علاقته بهم،  ثم قام بتأسيس جمعية الهداية الإسلامية، وكان نشاطها علميا أكثر منه اجتماعيا، وضمَّت عددا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ، واشترك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وترأس جمعية «جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية» واستلم رئاسة تحرير مجلتي «نور الإسلام» و«لواء الإسلام»،  ثمّ انضم إلى علماء الأزهر، وعين مدرساً للفقه في كلية أصول الدين، ثم أستاذاً في التخصص. عين عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة أول إنشائه، كما عين عضواً في المجمع العلمي بدمشق. حصل على عضوية هيئة كبار العلماء برسالته «القياس في اللغة العربية» في عام  1950 ثم اختير شيخا للأزهر في عام 1952. 
كان في ذهن الشيخ حين ولي المنصب الكبير وسائل لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، ثم لم يلبث أن قدم استقالته بعد عامين فقط احتجاجًا على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي. ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته: «إن الأزهر أمانة قي عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص» .
كان الشيخ عالما فقيها لغويا أديبا كاتبا من الرعيل الأول، أسهم في الحركة الفكرية بنصيب وافر وترك للمكتبة العربية آثارا علمية عديدة منها، «رسائل الإصلاح»، وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي. وكتاب «الخيال في الشعر العربي» و«آداب الحرب في الإسلام» و«تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي» و«الحرية في الإسلام»، و«السعادة العظمى»، و«نقض كتاب الشعر الجاهلي» وهو كتاب ردّ فيه على كتاب طه حسين، و«نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» ردّا على كتاب علي عبد الرزاق، وله ديوان شعر جمعه بعض محبيه واسمه «خواطر الحياة».بالإضافة إلى بحوث ومقالات نشرت في مجلة «نور الإسلام» و«لواء الإسلام» و«الهداية الإسلامية».
بعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبّى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ = 28 من فيفري 1958م).