قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة يوسف عليه السلام(3) (يوسف في إمتحان الحكم)
 ما إن أوصدت أبواب السجن على الفتى البريء يوسف حتى تاقت نفسه الأبية إلى نسمات الحرية فطلب من صاحبه أن يذكره عند ربه أنه يعبّر الرؤى لعله يأمر بإطلاق سراحه. ولكن شاء الله سبحانه شيئا آخر إذ حال سبحانه دون قلب الناجي من الموت من صاحبي السجن ودون ذكره يوسف، فلبث يوسف في السجن بضع سنين وهي تقريبا عدد أصابع اليدين. ولما شاء ربك أن يخرج يوسف البريء من سجنه أمر جنوده المجندة فأوحت إلى الملك في نومه أنه يرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف. ولمّا طلب من ملئه تعبير رؤياه إدّكر صاحب يوسف بعد أمّة وطلب إرساله إليه. 
هذه المرّة لم يكن يوسف متعجّلا على الخروج من السّجن ليس لأنّ أشواق الحرّية فارقت مهجته ولكن لأنّ الحياة علّمته دروسا عظمى منها أنّ هذه المدّة الطويلة من السّجن لفتى بريء لا بدّ أن يكون لها ثمن هو إعادة فتح التّحقيق في ملف فتى أريد له أن يدخل السّجن بلا جريرة إقترفها عدا رفع القصر والحاشية عن الشّبهات وحديث النّاس. بادر يوسف باستخدام نعمة ربّه عليه فعبّر رؤيا الملك من بعد ما سمعها كما هي حرفا حرفا من صاحب السّجن القديم ولم يزد عليها كلمة واحدة ربما لأنّه يعلم هذه المرّة أنّ الملك سيدعوه هو بنفسه إذ لم يجد تعبيرا لرؤياه عند غيره. وفعلا أمر الملك بالإتيان به ولكن أبى يوسف الخروج من سجنه طالبا من ساعي البريد بينه وبين الملك أن يفتح ملفّا طواه النسيان وهو ملفّ النّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن وهو مشهد متأخّر من مشاهد القصر من بعد مراودة سيدته له. 
لم يكن بدّ من فتح الملف إذن، فهذا صيد ثمين للملك الذي عقد إجتماعا بالنّسوة ضمن تحقيق قضائي جديد اعترفت فيه سيّدة القصر مرّة أخرى بمراودتها له وبصدقه بل تقدّمت خطوة أخرى فأهدت الإنسان درسا من فقه الحياة لم يتردّد الوحي الكريم في التقاطه وتسجيله في هذا الكتاب العزيز ليكون مع عبر أخرى من نساء أخريات حكمة : «إن النفس لأمارة بالسّوء. وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين». 
ما يهم الملك اليوم هو إجتباء هذا الصّيد الثّمين الذي يعبّر الأحاديث بيسر وبلا كبر وبلا ثمن، فأمر بالإتيان به هذه المرّة من بعد ما أعلم يوسف في سجنه بخلاصة التّحقيق الذي أشرف عليه الملك بنفسه وحصيلته كما ورد على لسان التي راودته وهو في بيتها أنّها مخطئة تائبة لا خائنة وأنّ يوسف مستعصم صادق. وبذلك ظفر يوسف بشهادة براءة من أعلى مؤسّسة وعلى لسان المرأة نفسها التي راودته وفي حضرة زوجها وهو ملك البلاد ولا مانع عنده الآن أن يخرج عزيزا كريما. 
ما إن دخل عليه في قصره وعلى عرشه حتى قلّده الملك شهادة أخرى أنّه اليوم في المملكة مكين أمين. لم يفلت يوسف الفرصة السّانحة ليطلب وزارة المالية وهي وزارة سياديّة عليا في تلك الأيام مزكّيا نفسه أنّه حفيظ عليم والتقت الإرادتان : إرادة الملك الذي علم من تعبير رؤياه بما يهجم على البلاد من سنوات عجاف تهدّد بالجوع والفقر والحاجة وإرادة يوسف الذي علم من التّعبير نفسه أنّ الوضع يتطلّب حفظا وأمانة لا خيانة فيها ولا أثرة وعلما بإدارة خطّة ماليّة سباعيّة توشك أن تغمر بفاقتها منطقة الشّرق الأوسط كلّها بتعبيرنا المعاصر.
العبرة الأولى : الرؤى بين الهزء والتقديس
لكم أبدع الطبيب  النّمساوي المسلم ( ألكسيس كاريل) وهو يكتب كتابه : الإنسان ذلك المجهول  قبل عقود طويلات. إذ كنّا في تلك الأيام في معركة حامية حول وجود الله سبحانه مع الشّيوعيين والماركسيّين. إذا كان الإنسان مجهولا في بعضه رغم تقدّم الطبّ، فإنّه يظلّ مجهولا بنسبة أكبر من حيث تركيبه الرّوحي. الرّؤى شيء ينتمي إلى الشّخصية النّفسية المعنويّة وقد أخبر الصّادق المصدوق عليه الصّلاة والسّلام ـ في المتّفق عليه ـ أنّها إمّا رؤى من الله سبحانه تحمل بشارة أو نذارة أو هي حديث نفس أو تخويفات شيطان. بل قال عليه الصّلاة والسّلام أنّها ـ أي قسمها المتعلّق بالله ـ جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوة وأنّ النّبوة لم يبق منها عدا المبشّرات وأخبرنا عنه عليه الصّلاة والسّلام أنّه كان قبل بعثته لا يرى رؤيا إلاّ جاءت كفلق الصّبح. 
الرّؤى المتعلّقة بالله سبحانه تبشيرا أو تحذيرا ليست خاصّة بالمؤمنين ولا بالصّالحين، إذ رأى فرعون وهو رمز الكفر والقهر معا ما رأى في شأن بني إسرائيل ورأى ملك مصر هنا رؤيا جاءت كفلق الصّبح إذ هي تبشّر بسبع سمان تليها مثلها عجاف. السّؤال هو : كيف نميّز بين الرّؤيا الصّادقة وبين حديث النّفس وتخويف الشّيطان؟ وكيف نعبّر الرّؤيا الصّادقة؟ وكالعادة دوما بين الهزء والإستخفاف وبين التّقديس والتّهويل تضيع الحقيقة.
المؤكّد أنّ الرّؤى وبكلّ أصنافها الثّلاثة أداة من أدوات المساعدة على الإيمان بالغيب إذ أنّ النّائم في حكم الميت لقوله سبحانه: «الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها». أي أنّ النّائم متوفاة نفسه ولكنّه يحيا بلاوعيه كما يقول علم النّفس والعلاقة بين النّوم وبين الموت وطيدة كالعلاقة بين الإستيقاظ والبعث. لقوله عليه الصلاة والسلام : «لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون»
العبرة الثانية : الحرية غالية ولكن الكرامة أغلى منها
لما شبّ يوسف ورشد أدرك أن خروجه من السّجن إلى الحرّية ضروري لأنّ الحرّية غريزة تلحّ على الإنسان أكثر من إلحاح الأكل والشّرب عليه. ولكنّه أدرك مع ذلك أنّ كرامته أغلى من حرّيته أي أنّه لو خرج بعفو رئاسي خاصّ من الملك لظلّت شبهة المراودة تتابعه ولن ينجح من بعد ذلك في مهمّته النّبوية ولذلك لم يكن في عجلة من  أمره لمّا دعاه الملك إليه في إثر تعبيره لرؤياه، بل إشترط إعادة فتح الملف من جديد وعندما إستمع الملك بنفسه إلى شهادة زوجه فيه أنّه بريء وصادق إستجاب لدعوة الملك وخرج من السّجن كريما عزيزا بما ييسّر له أن يكون مهاب الجانب مطاعا في المجتمع بل في المنطقة الشّرق أوسطية كلّها.
الإسرائيليون المحتلّون اليوم هم السّجناء في أرض فلسطين يحسبون كلّ صيحة عليهم رغم ما يبدو عليهم من حرّية ظاهريّة، أمّا الحرّية الحقيقيّة فإنّها تزكم أنوف الأسرى والمساجين الذين يقضون عشرات السّنين مقاومة دون حرّية وطنهم وأهلهم. ترى من هو الحرّ؟ هل هو شارون السّفاح ـ الهالك غير مأسوف عليه ـ الذي يبدو في الصّورة الدّنيا أنّه أطلق صاروخا على «أحمد يسن» فجعله كالعصف المأكول أم هو سيّد شهداء العصر الشّيخ المقاوم «أحمد يسن» الذي يبدو في الصّورة الظّاهرية ميّتا من الأموات إنتقم منه الإحتلال؟ لو تعلقت بموازين الدّنيا فأنت سجينها
العبرة الثالثة : باب التوبة مفتوح لا يغلق أبدا
 أخبرنا قبل قليل أنّ إمرأة العزيز ثارت فيها الغريزة الجنسيّة حتّى كادت أن تجرّها إلى إثمين : إثم الفاحشة أي الزّنى المغلّظ وإثم السّوء أي خيانة زوجيّة موصوفة بالتّعبير القانوني المعاصر. بل إثم ثالث عنوانه : وضع الصّفة أي مباشرة الزّنى من لدن سيّدة القصر الأولى مع عبدها ورقيقها وذلك هو غمز نساء المدينة اللاّتي قلن : «إنا لنراها في ضلال مبين». هو ضلال الوضاعة وليس ضلال الزّنى. وللشّرف في الأسلاف إعتبار كبير وليس هو حالنا اليوم. وبعد ذلك أصرّ الوحي الكريم إلاّ أن يسجل توبتها وأوبتها في مناسبتين : الأولى عندما قالت  : «ولقد راودته عن نفسه فإستعصم». والثانية عندما قالت : «الآن حصحص الحقّ، أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصّادقين». أي أنّها لمّا تابت أثابها بالذّكر مرّتين. ولم يقتصر على ذلك بل كافأها بأن التقط من فيها حكمتين هما : «إن الله لا يهدي كيد الخائين وإن النفس لأمارة بالسّوء إلاّ ما رحم ربي». التجربة المعيشة تقول أنّ الشّهوة يتوب منها صاحبها وما من عبد إلاّ وهو معرّض للوقوع في  الشّهوة. سوى أنّ الذّين لا يعلمون فقه الحياة يغلظون على جريمة الزّنى كأنّ الواقع فيها لا توبة له ويشنّعون على المرأة عندما تكون متوحّلة في تلك الجريمة أكثر من تشنيعهم على الفحل. أمّا الشّبهة فقليل من يتوب عنها. ولذلك ترى اليوم مئات من الملاحدة والماركسيّين الشّيوعيين يصرّون على غيهم إصرارا عجيبا رغم ظهور الآيات التي وعد بها صاحبها في قوله : «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم  أنّه الحق». ولكنك ترى أضعافهم ممّن انزلقوا إلى الشّهوات يدخلون في الأوبة أفواجا من بعد أفواج. وعلى كلّ حال يظلّ باب التوبة مفتوحا حتّى غرغرة الموت.
العبرة الرابعة : ليس العيب في طلب السلطة بل في الطريق إليها
ظللنا لسنوات طويلات نعيش على صوت إعلام منافق يهجم على المعارضين أنّهم طلاّب سلطة والحال أنّه ينطق بلسان قوم هم أنفسهم في السّلطة. كأنّ السّلطة التي يحتلّونها حكر عليهم ويشنفون الآذان أنّنا في نظام جمهوري لا ملكي. الحكم حقّ لكلّ إنسان إذ لم يحب به الله سبحانه أحدا دون أحد عدا الأنبياء وقليل من الأنبياء من حكم. المشكلة في طريقة الوصول إلى السّلطة ولذلك لم يتردّد يوسف عليه السلام أن يطلب السّلطة إذ آنس في نفسه ـ  بما لديه من أهلية تأويل الأحاديث والعلم بالأزمة الإقتصاديّة التي توشك أن تداهم النّاس ـ
طولا لذلك وحولا. ماذا لو لم يطلب السّلطة تعففا أو تقوى مزيفة أو ورعا كاذبا؟ أليس يغرق الناس في أتون فاقة مالية وأزمة إقتصادية مستعصية؟ ثم يظل هو على الربوة يتفرج. لا. ذلك تفكير الذين لا يفكرون. بل إن المشاركة النسبية في سلطة جائرة مطلوب وفق مبدإ المصالح والمفاسد إذا غلب على الظن أن المرء يستطيع لجم الفساد  أن يتقدم بل حتى لو غلب على ظنه أنه يستطيع أن يلجم وتيرة تقدمه وذلك هو معنى أن الميزان الإسلامي في السياسة معياره المصلحة والمفسدة والعدل والجور وليس الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والحلال والحرام. ومن عدم فقه إختلاف معايير الإسلام التي تناسب هذا الحقل ولا تناسب ذاك فقد عدم الفقه وتنكب المعرفة ويصلح أن يكون راعيا للأغنام وليس راعيا لمصالح الأنام