وجهة نظر

بقلم
إبراهيم والعيز
تجديد الدين في الواقع المعاصر
 مقدمة.
إن لتجديد دين الإسلام سندا وأصلا في السّنة النّبوية، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النّبــي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله يبعث لهذه الأمّــة على رأس كلّ مئة سنة من يجــدّد لهــا دينهــا»(1)، فهذا الحديث النبوي الشّريف فيه تأكيد على أنّ الله عزّ وجل قضــى –وقضاؤه حقّ- أن يهيئ في كل مائـة سنة فئة مخلصة من عباده، وظيفتهم بعث الديــن في نفوس المسلميــن وإحياء تعاليمــه في سلوكهم، وتجديد الصلة بينهم وبينه. 
فما معنى تجديد الدّين؟ وما هي طرق تجديده وإحيائه في نفوس المؤمنين به وسلوكهم في الزّمن المعاصر؟ وما هي المجالات التي أصبحت حاجة إحياء تعاليم الدّين فيها مطروحة بإلحاح؟.
(1) مفهوم تجديد الدّين.
الواقع أن تجديد الدّين وبعثه في نفوس المسلمين وإحياءه في مجالات الحياة في مجتمعهم بصفة عامّة، يأخذ جملة من الدّلالات، لعلّ أبرزها:
أولا: تصحيح الأفهام السّلبية لبعض الأحكام الشّرعية التي تصيبها عندما يسود الجهل بأحكام الإسلام وتعاليمه عقول النّاس، فينسى بعضها ويحرّف البعض الآخر، ومن تلك الأفهام السّلبية التي يلزم تصحيحها؛ نظرة الإسلام إلى المرأة وبيان أنّها نظرة إيجابيّة، لأنّ المرأة إنسان مكرّم مثلها مثل الرّجل، لها نفس الحقوق وعليها نفس الواجبات. ومنها كذلك؛ تصحيح فهم بعض الأحكام الشّرعية، كتلك المتعلّقة بتعدّد الزّوجات، وعمل المرأة وتولّيها بعض المناصب، وكذا ما يتعلّق بالفقه السّياسي في الإسلام. 
ثانيا: إزالة ما قد علق بالإسلام من معتقدات باطلة وتخريفات وتحريفات فاسدة، وذلك إمّا بسبب جهل المسلمين بموقفه منها، وإمّا بسبب أغراض سياسيّة ومذهبيّة يسعى أصحابها إلى ربطها به وإلصاقها بأتباعه. وممّا اتصل بدين الإسلام اليوم من تلك التّخريفات والتّحريفات وأصبحت في معتقد كثير من النّاس أنها جزء لا يتجزأ منه:
* التمسّح بالقبور والأضرحة والاستغاثة بالموتى والمقبورين.
* اعتقاد النّفع والضرّ في غير الله، وذلك إمّا في أناس أحياء يعتقد ويظن أنّهم مقرّبون من الحضرة الإلهيّة بسبب تلبيس الأمر من قبلهم على النّاس، وإمّا في بعض الأموات الذين ترسخ في أذهان النّاس أنّهم أولياء نالوا الزلفى من الله، وأنّهم يسمعون من طلبهم ويقدرون على تحقيق رجاء من توسّل بهم. 
* التطرّف والإرهاب، وقد أريد لهما من قبل ذوي القرار في العالم –لحاجة في نفوسهم- أن يكونا مرتبطين بهذا الدّين العظيم الذي أراد الله له أن يكون خاتم الرّسالات السّماوية، وكأنّه دين حاضن للعنف والتّقتيل والتّخريب والتّدمير، لا يحبّ السّلام والأمن والحياة لكلّ من خالف تعاليمه وتوجيهاته.
ثالثا: الجرأة في تبليغ الخطاب الإسلامي والتوجيهات والتّعاليم الإسلاميّة إلى كلّ الجهات، ومحاولة تسريب كلّ ذلك إلى مختلف المجالات والقطاعات والمؤسّسات، باستعمال كلّ الوسائل واستغلال كلّ المنابر المتاحة والمباحة، وباعتماد أسلوب الابتكار والتّجديد في المواضيع وطرق التّبليغ وأساليب الخطاب، مع استصحاب الحكمة والموعظة الحسنة في الحال والمقال.
ومن هنا، فإنّ واقعنا اليوم يفرض على العلماء والدّعاة وكلّ العاملين في مجال الدّعوة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكــر من مختلف الفرقاء، أن يبذلوا مجهودات جليّة من أجــل تصحيح صورة الإسلام في مجتمعاتهــم قبل تصحيحهــا في المجتمعات الأخــرى، وذلك بدحض كل ما لصــق بالإسلام زورا وبهتانــا من خرافات وأباطيل وتحريفــات وتخريفـــات، مع العمـــل الجاد على تصحيح صورة الإسلام لدى خصومه من أتباع الديانات الأخرى أو ممن لا دين لهم بالمرّة، وذلك ببيان أوجه التّسامح فيه ومظاهره انطلاقا من النّصوص الصّريحة في القرءان والسّنة، مع ما صاحــب ذلك من تطبيقات عمليّــة لهــا في السّيرة النّبوية وسيرة الخلفــاء الراشديــن والصّحابة الكــرام ومن ســار على هداهم من أبناء الأمّة الإسلاميّة الأبرار، ثمّ التّفكير في ابتكار طـرق كفيلــة لإدخــال قيــم الإســلام إلى مختلف مناحي الحياة العمليّة في المجتمعات الإسلاميّة، بحيث لا يصبــح الإسلام محصورا في المساجد وفي القيام ببعض العبادات، وإنما تصير قيمه وأحكامـه وتعاليمه سارية في التّعليم والثّقافة والفنّ والإعلام والسّياسة والاقتصاد والاجتماع ومختلف مؤسّسات الدّولة.
(2) طرق تجديد الدّين وكيفياته.
وممّا يناسب عصرنا من طرق تجديد دين الإسلام بإحيائه في نفوس أتباعه، وبعثه في سلوكهم ومعاملاتهم وفي مختلف مناحي حياتهم:
أولا: عرض هديه وتوجيهاته وتعاليمه على المسلمين وعلى غيرهم على وجه شامل، حيث يتمّ إبراز عناصره الأساسيّة المنسقة والمتكاملة، اعتقادا وتشريعا وسلوكا بالنّسبة للحياة العامّة والخاصّة، وليس كما هو حاصل اليوم، حيث نجد غالبيّة المشتغلين في حقل الدّعوة والتّوجيه يركّزون في دعوتهم على جانب العبادات وعلى بعض فضائل الأعمال، ويغفلون الجوانب الحيويّة الأخرى المتعلقة بجوانب السّياسة والاقتصاد والعلم والفنّ والثقافة والإعلام وغيرها، ممّا جعل المسلمين يقعون في مشكل تجزيء الإسلام على مستوى العمل والتطبيق.
ثانيا: تحليل خطاب الإسلام ومكوناته للمسلمين وغيرهم بأسلوب سهل واضح ومفهوم، مع مراعاة حال المخاطبين وواقعهم ومستواهم الإيماني والمعرفي، ولسانهم في التّخاطب والتّواصل حتّى يتمكّنوا من فهم الإسلام فهما سليما بالأسلوب الذي يفهمون ويدركون. 
ثالثا: تفسير المفاهيم الإسلاميّة والمصطلحات الشرعيّة والحادثات التاريخيّة الإسلامية تفسيرا صحيحا يتّفق ومقاصد الإسلام وأهدافه الكبرى وحقائق تاريخه، وذلك من أجل تصحيحها وتطهيرها من العناصر الدّخيلة عليها حتّى تعود إلى أصلها القويم، طبقا لما في السّنة والكتاب ووفقا لما أجمع عليه علماء الأمّة في كلّ باب، لأنّ دين الإسلام قد تعرّض من قبل خصومه لعمليّة تشويه وتزييف عبر العصور، سواء في ذلك الجانب النّظري أو العملي.
رابعا: التّعليل الصحيح والتوجيه السليم لأحكامه، ببيان المعاني والمقاصد والحكم والأسرار التي أودعها الله في عقائد الإسلام وشعائره وتشريعاته أصولا وفروعا، حتّى يتبين للمتلقي ما فيها من تجاوب عميق مع الفطرة الإنسانيّة وانسجام تامّ مع المنطق السّليم، ليتّضح للنّاس ما تتضمّنه من مصلحة الإنسان وسعادته في العاجل والآجل.
(3) مجالات تجديد الدين في الواقع المعاصر.
أما المجالات التي أصبحت حاجة إحياء تعاليم الدّين فيها مطروحة بإلحاح في حياة المسلمين المعاصرة، فيمكن إجمالها في:
أولا: مجال التّربية والتّعليم؛ وذلك عن طريق إقامة نظام التّربية والتّعليم في البلاد الإسلاميّة على أساس عقيدة الإسلام وفلسفته ونظرته الخاصّة إلى الحياة والكون والمصير، وهنا يلزم القيام بمراجعة جميع المناهج الدّراسية والكتب المدرسية لتكون منسجمة مع الإسلام دون تناقض ولا تعارض، بالإضافة إلى إلزاميّة إدراج مواد تهتمّ بدراسة أصول ومميّزات الحضارة الإسلاميّة، وبالتّعريف بالعالم الإسلامي في المقرّرات الدّراسية، حتّى يكون النّشء على بيّنة من حال حضارته السّابقة التي تعدّ حضارته الحالية امتدادا لها، ويكون كذلك على بينة من واقع إخوانه المسلمين حتّى يعيش معهم كالجسد الواحد يفرحه ما يفرحهم ويؤلمه ما يؤلمهم، تمهيدا لبناء وحدة إسلاميّة تجمع بين جميع أبناء دول العالم الإسلامي.
ثانيا: مجال الإعلام؛ لا شكّ أنّ الإعلام الإسلامي بالمقارنة مع الإعلام المغترب المعادي لهدي الإسلام وتعاليمه، يشكّل نسبة ضئيلة في العالم الإسلامي، ومردّ ذلك راجع بالأساس إلى أنّ التاريخ فرض على واقع الصّحافة الإسلاميّة في جلّ الدّول الإسلاميّة صورة نمطيّة لم تصب في مجملها لصالح المشروع الحضاري الإسلامي، ذلك أنّه مع بواكير الاستقلال ظهرت على السّاحة السّياسية نخب فكرية وثقافية ارتبطت بالاستعمار فكرا وثقافة وتشرّبت كثيرا من توجهاته، حتّى إنّ السّاحة الإعلامية باتت في الغالب الأعمّ مرتبطة بهذه النّخب. وقد عانى المشروع الإسلامي كثيرا من أن يجد لنفسه موطئ قدم في هذا الواقع الوليد، إلاّ أنّه فوجئ بواقع أشدّ ضراوة من الواقع الذي خلفه الاستعمار نفسه، إذ شهدت السّاحة الإعلاميّة في جلّ الدّول الإسلاميّة احتكارا واسع التّأثير واستقطابا فكريا، ونفيا مهنيا وفنيا كبيرا لأصحاب المشروع الإسلامي بنسبة عالية أدى إلى تراجع فرص التّدريب والانتماء للمهنة في كثير من الحالات.
والحال أنّ من ضرورات تجديد الدّين وصلة النفوس به، أن يبذل المجددون والمصلحون كلّ ما يملكون من طاقات وأموال لتأسيس وسائل إعلاميّة ذات مرجعية إسلاميّة تناسب تطورات العصر ومتطلباته، يكون هدفها؛ تنوير العقول وبثّ المبادئ والأفكار بغية تعميم الوعي الإسلامي بين الجماهير الإسلاميّة، ثم إبعاد كلّ ما فيه تنفير وتعسير في مجال الدعوة، عملا بقوله تعالى: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(2)، وبذلك تكون هذه الوسائل أداة منافسة للإعلام الحالي الذي لا يقيم لحرمات الإسلام ولشعائره وزنا.
ثالثا: مجال السّياسة؛ إن تجديد الدّين في هذا المجال الحيوي والخطير في ذات الوقت، يكون بردّ الاعتبار للمفاهيم الإسلامية والقيم الخلقية في حياة المسلمين اليومية في مجالي الإدارة والحكم، ويكون أيضا بالعمل على بعث الرّوح الإسلاميّة الحقّة في طريقة الحكم، وإضفاء الطّابع الإسلامي الصحيح على تصرّفات الإدارة، وألزم ما يلزم لتجديد الإدارة في نطاق الإسلام أن يكون اختيار المسؤولين الذين يتولّون تسيير أمور الناس وتدبير شؤونهم على أساس شرطين اثنين ورد بهما نصّ الكتاب؛ شرط الكفاءة أولا، وشرط الأمانة ثانيا، عملا بقوله تعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»(3) . 
رابعا: مجال الاقتصاد؛ إن واقع الاقتصاد في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، يفرض على رجال الإصلاح الحاملين لهم الدعوة والإرشاد، والعاملين من أجل تجديد الدين وتصحيح صورة الإسلام وربط الناس به، بإحياء قيمه وأحكامه وتوجيهاته في الحياة العامة للمسلمين، أن يوجهوا اهتمامهم نحو تحقيق أمرين اثنين:
* إحياء مختلف العقود والمعاملات المالية المضبوطة بأحكام الشريعة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية، وتشجيع كل من له القدرة على الاستثمار في نطاقها، وتشكيل أقطاب بنكية إسلامية لها القدرة على منافسة البنوك الربوية التي تستغل حاجة المحتاجين واضطرار المضطرين فتختلس منهم ثمرة أعمالهم وتقطف زهرة أموالهم، إنقاذا للشعوب والدول الإسلامية من حيرتها الاقتصادية، وتوجيها لمنظماتها التجارية والمالية ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيي عن بيّنة.  
* إعمال النّظر الشّرعي في الصّور الجديدة والمعقّدة من المعاملات التّجارية والمالية التي ظهرت في العصر الحديث، والتي لم يسبق لها نظير ولا أفتى فيها الأئمة والعلماء بحكم سابق، حيث لم تكن متعارفة ولا معهودة في وقتهم، وذلك طبقا لمقاصد التشريع وأصوله الثّابتة وتمييز ما يندرج منها تحت الرّبا وفي حقيقته، حتى يعلم المسلمون قاطبة حكم الله تعالى في شأن المعاملات الرّبوية الحديثة، كما عرفوا حكم المعاملات الرّبوية القديمة.
خامسا: مجال الفنّ؛ إنّ الفنّ بكل ألوانه وأطيافه صار أداة مؤثّرة في أفكار النّاس وسلوكهم وفي تكوين شخصيتهم وقناعاتهم، وصار كذلك وسيلة قويّة يستغلها المناهضون للمشروع الإسلامي لصرف النّاس عن كلّ المشاريع الإصلاحية المؤطرة بالمرجعية الإسلامية، وبما أنّ الأمر كذلك فقد صار لزاما على دعاة الإصلاح ورواد التّجديد في عصرنا الحاضر أن يشجّعوا أصحاب المواهب ممّن لهم غيرة دينية، على المغامرة من أجل اقتحام هذا المجال المؤثّر، حتّى يكون هناك فنّ بديل يحترم الضّوابط الإسلاميّة ويسعى إلى غرس القيم النّبيلة في النفوس والسّلوك، ويقلّل من تأثيرات الفنّ السّاقط الذي كاد أن يستأصل القيم الإسلاميّة في المجتمعات المسلمة من جذورها، ويحلّ محلّها القيم الغربية المستورد من قبل فنانين تربّوا في أحضان الغرب وتأثّروا بلغته وثقافته ونمطه في الحياة ونظرته إلى المستقبل.
الهوامش
(1) سنن أبي داود. حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه؛ العلامة محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به؛ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. كتاب الملاحم-باب ما يذكر في قرن المئة. رقم؛ 4291. ط/ 2. 1424هـ. مكتبة المعارف للنشر والتوزيع-الرياض. ص/ 768.
(2) سورة النحل - الآية 125
(3) سورة القصص - الآية 26