لغتنا العربية

بقلم
سامي الشعري
«نورمال هكا»: العربية بين فكي اللسان الاجنبي والدارج
 «...لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين».
 قلنا اننا دائما ضمن وضعية، وان القول يرتد دائما إلى «خطاطة علاقات القوى». ابعد من تمجيد «اللغة العربية» ومميزاتها وانجازاتها وتراثها، تسكن العربية الان «ارضا» تحوي معاول هدمها: انها ، ثقافيا و سياسيا، تقع بين مطرقة الدعوة الايديولوجية للكونية (تجاوز الخصوصيات اللغوية لصالح «اللغات الحية») والايغال في المحلية (اللهجات الدارجة). ابدا بنفسي، فحتى لو خولت لنفسي ان «ادرس»، ان افكر في»، ان «اتحدث عن»، فذلك لا يجعلني كذات عارفة مكتفية بذاتها تتعالى عن غيرها كموضوعات. انا نفسي ضمن هذا الوضع الذي اتحدث عنه: هاتفي لا يتحدث العربية، وانا الان –وقد يتغير الحال بعد الانتهاء من المقال-لا احس بحرج في ذلك. على كل حال، وكمرحلة اولى انتبهت ان الأمر- وان بدا لدي ولدى الكثيرين غيري عاديا- هو «غير عادي»، انه ليس معطى او كيانا جاهزا وإنما متكون ومرتب، تم «ترسيخه»ضمن سهم ليس هو ذلك الذي  تحدث عنه الفصل 39 من الدستور. حانت اللحظة العملية إلى ان افضح ذلك. حدثني قريبا لي يدرس في احد المعاهد العليا في المرسى، ذات الاختصاص العلمي التقني، انه قد ادرج لديهم كذلك في برنامج الدراسة نص لموليير. ما دخل ذلك؟ ليس  اللسان هنا مجرد اداة (وسيلة) لابلاغ معلومات مجردة وموضوعية (وكأن الفرنسية قد تحولت إلى لغة صورية رياضية)، وإنما هي العقل والعاقل والمعقول، بحيث صار هناك «تلحم»(incarnation) بين الدال والمدلول، بل هي عدة في اطار خطاطة التغالب، واخطر ما في الوضع ان يرسم بهذا النمط «السلمي» الذهني (باث/ متقبل...). نحن يراد منا لا فقط ان نتعلم اللغة، ولكن ان نتعلم باللغة، إي ان نتلقى عبرها المعارف، إي المخزون الثقافي المكرس داخل هذه اللغة.
ان الذي يحاضر امامي بلغة اجنبية (فرنسية) لا يقوم بعملية تواصل «بريئة» لابلاغ معلومة او خبر، وإنما هي بالضرورة علاقة «سلطة» عبر تحويلي كمستمع إلى «عبد» (بالمعنى الهيغلي على الاقل) لهذه «الرسالة»، أي في الحقيقة لهذا الخطاب، وقد تكون في بعض الاحيان -علنا او ضمنا –علاقة ذات مرجعية عقائدية، نوع من «حملة» (صليبية او غيرها)، بحكم انه –عبر هذه الرموز المشفرة وغير المشفرة –يموضعني ويحيلني إلى هامش التخلف والبربرية والظلامية...
ان الاستعمال يحيل لا فقط إلى ذاته، وإنما مرة أخرى إلى الفضاء الثقافي السائد، إلى نسق المعايير السائدة. لماذا مثلا، كما بين الدكتور الذوادي، تكون التونسيات  اكثر استعمالا للسان الاجنبي (الفرنسي) من الذكور؟ لست ادري حول علاقة ذلك بالجنس و محدداته...، ولكن على كل حال هذا الوضع يشير إلى استراتيجيا ما تحرك هذا الفضاء: انها هي الكائن التي طوعت لان تستعمل الجسد فقط كسلطة لشد الانتباه، للتاثير عبر الاغراء. انها «الدرجة الصفر للمعنى»، حيث لم يعد هناك من مسوغ، من مشروعية لما يجب ان يكون، إي للقيمة الأخلاقية. ان الاستعمال ليس مجرد «حضور» او «غياب»، ليس مجرد اختيار طوعي وحر، ليس فعلا واعيا عقلانيا يعي بالضرورة تبعاته، وإنما هو محصّلة صيرورة  تتفعل فيه ارادة قوة ومتغيرات وقيم تظهر على الشفاه وفي الاقلام، في التعامل مع هذا الكائن المشرف والحاضن للكينونة المدعو ب»اللغة»  
لقد صار الأمر كالتالي:  لكي امر على بلدي، علي في هذه الحال ان امر ببلاد الاخرين: الأمر ليس مجرد «توسط» انطولوجي او معرفي ضروري للاخر (لادرك الذات)،  وإنما هو غياب الذات وامكانية ادراكها (الا بظهور، بسطوة ما يقابلها، وبالاحرى ذابحها). إن «الساحة» التونسية، كساحة معركة إذا، «تنطق» حتى دون رموز لغوية –ولعل ذلك بعض من معالم الخلل في هذه الساحة- بهذا «الاستعباد-الاستبعاد»: لكم ان تلاحظوا مثلا «شطحات»  المقيم العام الفرنسي الذي هرول مسرعا إلى «جلول» عندما «اخطا» واعلن انه سيجعل من الانقليزية اللّغة الثّانية، وانّبه على صنيعه المشين، بما اضطر الوزير إلى «اعلان التّوبة». لدينا الآن أحد التّونسيين موقوف في مدغشقر لأنّه كتب مقالا ضدّ الفرنكفونية...
ان اعلان اللغة الوطنية هو اعلان عن سهم تفكيك لسلطة اللغة «الاخرى» المهيمنة، ورفع الهالة المقدسة المزعومة ( باعتبارها القضاء السيميائي الذي يجب ان يمر عبره والى الابد المعنى). انه نزع للاسطرة والتقديس اللتين حفلت بهما الفرنسية، وسخرت من أجلها «الاجهزة» (السيادية والادارية والإعلامية والتعليمية...)
لكن الساحة تحفل بخيط أخر هو الخصوصية المحلية، اعني ما عرف «باللسان» او «اللهجة الدارجة». اذكر فيما اذكر ان عبد العزيز العروي قد لقي معارضة شديدة من شيوخ الزيتونة، باعتبارهم كانوا عارفين بالدواعي الخفية من وراء استعمال هذا اللسان (حتى ولو لم يعها العروي نفسه)، معرفة لم يستطيعوا مع ذلك بلورتها من قول معقلن وبرهاني قادر على الحجاج على وجاهة الموقف، بما جعلهم يرتدون إلى مجرد «شيوخ الظلام والتخلف» كما وسمهم بورقيبة وورثته.
الذي يمر على اعلاناتنا الاشهارية، المكتوبة منها والمصورة يصدم (هذا لمن بقيت فيه بقية باقية لحمية على اللغة العربية) من الغياب شبه الكلي للعبارات العربية الصحيحة (بالمعنى التركيبي للكلمة). سنلاحظ ازدياد العبارات التي «تشير للمعنى»(والتي لا تؤديه ولا تعبر عنه في الحقيقة) من نوع: «الرخ لا/ سيب التروتوار/ يزي/ القرينتا»... قد يكون في الأمر بعضا «من العفوية» بحكم ان الذي «فعل» ذلك لم يكن ينطلق بالضرورة من عداء سافر للعربية، ولكن هذه العفوية نفسها تصير بالضرورة –بحكم انها فعل ضمن بنية متغيرات واستراتيجيات وعلاقات قوى- فعلا موجها وقصديا ويخدم غائية ما. ان المؤلم في المشهد كما راينا ليس فقط ذلك الذي يعادي الهوية، بل واخطر من ذلك اللامبالي الذي ترك فعليا المجال متاحا لانفاذ مخطط هذا المعادي.
ان بعضا من دواعي العمل مظاهر الاستعمال الممنهج للدارجة، لعل احدثها الحملة التي دشنها وزير البيئة (هذا الذي حدد موقعنا باننا «تحت» ايطاليا» ) تحت عنوان : «نخليو شطنا نظيف»، ووظف فيها بعض الوجوه الاعلامية والفنية ليقولوا في عبارة موحية «نورمال هكا»: هكذا اذا تقبر الفصحى لصالح عبارة اجنبية (ولكن بحروف عربية، وهي وسيلة اخبث لتسويق المقصد على طريقة اتاتورك في حربه على الحرف العربي)، واخرى من اللسان الدارج. انه مشهد معبر للحال الذي صار اليه اللسان العربي، وما قولنا هذا في موضع الحسرة والفزع والانفعال المزاجي، فما يجدر بنا عندها ان نكتب مقالا، وإنما ننخرط مع جملة المولولين ممن يندبون «حظ الامة وامجادها»، ممن صموا آذاننا بذكر الامجاد والتحسر على ما فات، دون اضافة ولو خيط واحد إلى النسيج.
ان الخطير هو ان يصير «الدارج» إلى «درجة»(mode) ، إي امر معتاد، واكثر من ذلك إلى «نموذج» يحتذى يمر عبره ما يجب ان يكون سواء في النظر او الفعل. ان ترسب «الدارج» عبر الزمن يحوله بالضرورة إلى امر معتاد ومقبول، بحيث يصير الأمر-بحكم هذا الترسب- إلى امر لا يثير الريبة او حفيظة المستمع. ان ذلك يتم عبر عمل منظم حتى ترفع أخر الحواجز بين «النفس اللوامة» لغويا كما يعبر عن ذلك الاستاذ الذوادي، وبين هذا الكائن اللساني الهجين. يتم ذلك بطبيعة الحال عبر اجهزة وادوات وفاعلين اجتماعيين، سياسيين كانوا او اعلاميين او راسماليين او مثقفين. انظروا مثلا إلى ما تقوم به بعض القنوات الاعلامية من نوع «شمس اف ام»او «موزاييك» او «نسمة» او «الحوار التونسي». ان من «كوة» هذا اللسان الهجين  يمكن ان نفهم حتى المشهد السياسي نفسه، من حيث ان رهان استبعاد اللغة العربية هي منطقة عمليات، منطقة تقاطع بين الفرنكفوني والعميل والمتصهين والانتهازي والاستئصالي وقاطع الطريق وبقايا المخلوع   
ربما سيكون ذلك مجال عمل قادم ( «اللسان الدارج ورهاناته»). لكن دعنا نقول مرة أخرى ان معالجة «مشكل اللغة» لا يرتد إلى مجرد مرور معرفي يتخذ لنفسه أي «موضوع» (و»اي» هذه تعني ضمنيا الاستواء والتماثل بما هي سمة «الاشياء»، إي بما ينزع عن «المشكل»طرافته وفرادته)، وإنما هو يضعنا راسا ضمن مسطح الكلي بما هو افق للعقلنة: لعل من المفارقات ان يعبر عن هذا «الكلام الدارج» ب «العامية»، وهو لفظ لم اجد له مشروعية لغوية سوى علاقته ب»العام»، ولكن «الدارج»هو الموغل في الخاص، في الخصوصية بحيث انه يقطع «العام» الحقيقي (ذلك المشترك بين الناطقين بتلك اللغة، والحامل اولا ل «كلمات الله») إلى محليات تقضي على حضوره وحتى على مشروعيته. ما اشرنا اليه في خصوص محاصرة «الفصحى»لصالح الدارجة هو امر مشترك في اقطار متعددة، ويتخذ من الخصوصية الوطنية مبررا ومسوغا لهذا الخط، بما يبين ان وحدة المستهدف (العربية) تعلن عن وحدة الشر الذي يحدق به، نعني الغاءها من الفضاء العام الاعلامي والتعليمي والاداري. 
واذا كان الشر الاول (الفرنكفونية، وقد افردناها بهذه «الميزة» لا من باب احادية النظرة، بل لخصوصية الفضاء الذي نتحرك فيه (تونس)، ولخصوصية الاستعمار الفرنسي بما هو بالاساس استهداف للثقافات والعقائد الوطنية) قد يسهل ظهوره بحكم تباعده اللغوي والثقافي مع اهل البلد، فان الثاني هو اكثر خطرا واكثر فعالية، بما انه -غالبا-ما يكون من فعل «بعض ابناء البلد»، ولان فيه تتقاطع كما ذكرنا اصناف المعادين لخط الهوية.