مبدعون صغار

بقلم
محمد حيدر النهدي
عندما يستوطن الحزن القلب
 جمعت غزالة الكون آخر خيوطها الذّهبيّة، وانحدرت مودّعة المكان والزّمان معلنة بداية فجر جديد.
 هنا.. وُجِـدت السّيّدة هاجر تتأمّل خرفانها وتحثّها على الاجتماع ومغادرة المكان في اتّجاه العودة؛ لكن للأسف شيء ما يمنع الخرفان من الاجتماع والالتحاق بالتّلة الموازية لمنزل السّيدة هاجر. 
شيء ما يمنعها من الرّجوع، وكأنّ غزالة الكون مازالت تبحث بنورها وتشجّعها على البقاء. نظرت السّيّدة هاجر نظرة المستغرب، وقالت :
- «يكفينا نزهة، يا أحبابي، أريد الرّجوع إلى منزلي، تنتظرني عدّة أعباء».
لكنّ الخرفان لم تأبه.. وواصلت رعيها، لهذا جلست السّيدة هاجر تحت شجرة زيتون وارفة الظّلال، أحبّ شجرة إلى قلبها، كيف لا؟ وهي المكان الّذي طالما جمعها بأبنائها عندما كانوا صغارا.
تلك الزّيتونة جمعتها بفلذات أكبادها، ورأتهم يكبرون يوما تلو الآخر، تحت هذه الشّجرة لعب معين وتعثّر، وأين سقط وبكى، ومن حركاته ضحك سامح وتخاصما.. افتكّت شروق الأنظار بغنائها وصوتها الهادئ الحزين.
تحت هذه الشّجرة طالما بسطت السّيدة هاجر لحافا، عليه وضعت ما لذّ وطاب من خيرات أشجارها، اجتمعت مع أبنائها في جوّ من الحبّ لا مثيل له، ولم تترك لقسوة الوقت مكانا، ولا للفقر والبرد سبيلا، ولا لغياب الزّوج بسبب  الموت داعيا للحزن.
اتّكأت الخالة هاجر على الشّجرة، كأنّما تطلب منها الحماية وقالت : 
-   «أين أحبابي؟ يا شجرتي الغالية.. أين أبنائي؟ يا عزيزة القلب.. أين؟ من كنت أشبع دون أن آكل فقط لأنّي أراهم يأكلون.. أين أعزّائي الّذين كنت أفرح فقط لفرحهم ولابتساماتهم؟ أين أحبابي؟... يا رفيقة دربي، لم يبق لي منهم غير الذّكريات... لِــمَ رحل أحبابي؟ ولِــمَ بقيت وحيدة؟ آه.. يا أغنامي.. لِـمَ رفضتم الرّجوع وذكّرتموني بما أريد أن أنسى؟
 آه.. يا ربّي، ما أقسى الذّكريات! وما أقسى الحنين إليها !
 كلّ مكان في هذه التّلة، يذكّرني بـمَن نزفت العرق لأجل إطعامهم ووصولهم إلى أعلى المراتب. وها  إنّي اليوم وحيدة! .
 فهذا طبيب سافر إلى النّمسا، والآخر صحفي هاجر إلى روما والأخرى لا أعرف لها مكانا إلاّ من خلال مقالاتها الأسبوعيّة الصّادرة بلندن. 
يا مَـن استوطنتم القلب، ثمّ رحلتم، وتركتم الفؤاد والمكان يتألّمان..
 آه.. يا قلبي، لِــمَ تتذكّر من اختار غيرك رفيقا وغير وطنه مستقرّا؟
 آه.. يا شجرتي لم يعد للعين دموع ولا في القلب دماء. فأنا أحيا بذكراهم وما زلت.
استوت السّيدة هاجر في جلستها حتّى لم تعد ترى جذع شجرة الزّيتون. لا ... بل أصبحت توأمها...
ويقال أنّ أوّل من مرّ صباحا بتلك التّلة وجد خرفانها تقف كالحصن بجانب شجرة الزّيتون، والأغرب أنّ السّيّدة هاجر كانت جثّة هامدة تستوطنها الذّكريات والأحزان...