فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
المصالحة الفلسطينية أملٌ وحقيقةٌ أم وهمٌ وخيالٌ
 يحقّ للفلسطينيين ألاّ يصدقوا الاتفاق الذي تمّ التّوصّل إليه في القاهرة برعايةٍ مصريةٍ بين حركتي فتح وحماس، رغم أنّهم تابعوا البيانات المتعدّدة التي صدرت عن طرفي الانقسام، وعن الوسيط المصري ممثلاً بالمخابرات الحربيّة، التي بذلت جهوداً حقيقية وجادّة ليتوصّل الطّرفان الفلسطينيّان المختلفان إلى تسويةٍ شاملةٍ ومصالحةٍ حقيقيّةٍ، تضع حداً لسنوات القطيعة والانقسام والتّراشق الإعلامي وتبادل الاتهامات، وإلقاء اللاّئمة على بعضهما البعض، دون أدنى إحساس بمصالح الشّعب وهمومه، ومعاناته وأحزانه وآلامه، إذ لا يدفع ثمن الانقسام اللّعين غير الشّعب، ولا يقاسي الآلام مثله أحد، ولا يكتوي بناره الحارقة وحصاره القاتل سواه.
أعلنت الحركتان عن قبولهما بالمبادرة المصريّة، وموافقتهما على شروطها، واستعدادهما للمضي قدماً في تنفيذ اتفاق القاهرة للعام 2011، والمباشرة في الخطوات التي نصّ عليها الاتفاق، فحلّت حركة حماس لجنتها الإداريّة التي كانت عقبةً كبيرةً ومحلّ خلافٍ حادٍ، وأبدت استعدادها للمشاركة في انتخاباتٍ تشريعيّة ووطنيّة عامّة، في حين أعلنت حركة فتح ترحيبها بالمبادرة، وأشادت بجدّية الموقف المصري، وأعلنت استعدادها للتّراجع عن الخطوات العقابيّة التي اتخذتها ضدّ سكان قطاع غزّة، مقابل تمكين حكومة الوفاق الوطني برئاسة «رامي الحمد لله» من ممارسة كامل صلاحياتها في قطاع غزّة، وعدم إعاقتها أو تعطيل عملها.
الفلسطينيون جميعاً في الوطن والشّتات، الذين يراقبون الحوارات الجارية في القاهرة بقلقٍ وخوفٍ، ويتابعونها بمسؤوليةٍ جادةٍ وأملٍ كبيرٍ، لا يشعرون بجدّية الاتفاق، ولا يظنّون أنّه سيصمد كثيراً، أو أنّه سينجح في إنهاء الانقسام وتحدّي الحصار، والتّصدي للمهام الوطنيّة الكبيرة، إذ أنّ هذا الاتفاق ليس الأول، فقد سبقه الكثير من الحوارات واللّقاءات والاتفاقيات، كانت نتيجتها الفشل وخاتمتها خيبة كبيرة، كاتفاقيات القاهرة المتعدّدة ومكّة والدّوحة وغزّة، حيث أنّ الذي أفشل الاتفاقيات السّابقة أدعى أن يفشل الجديدة وغيرها.
الفلسطينيون لا يثقون في طرفي الانقسام، ويشكّكون في نواياهما، ولا يصدّقون تصريحاتهما، ولا يشعرون بإخلاصهما وصدقهما، ويرون أنّهما يتربّصان ببعضهما البعض، ويكيدان لأنفسهما، ويبحثان عن نقاط الضّعف لديهما، ويضغطان على شعبهما من خلالها، وهما اللّذان لا يعنيهما أمره، ولا يشغلهما همّه، ولا يحفزهما وجعه، ولا يدفعهما للاتفاق سوء أحواله، حيث يتطلّع كل طرفٍ منهما لهزيمة الآخر أو النّيل منه وإسقاطه، ويجتهدان في البحث عن آليةٍ أو أداةٍ يوجّهان بها لبعضهما البعض الضّربة القاضية، ولا يترفّعان في معركتهما عن استخدام أخسّ الوسائل وأسوأ الأدوات من أجل الوصول إلى أهدافهما وتحقيق غاياتهما، ولعلّهما معاً يتطلّعان إلى تغير الظّروف أو تبدّل الواقع ونشوء مستجدّاتٍ تخدم أحدهما وتصب في صالحه.
الفلسطينيّون يريدون أن يكون هذا الاتفاق جدّياً وحقيقيّاً ونهائيّاً، وثابتاً ودائماً ومستقرّاً، ويتمنّون أن يكون أطرافه صادقين وجادّين ومسؤولين، وألاّ يكونوا مناورين ومخادعين، وكاذبين ومنافقين، يريدون شراء الوقت والبحث عن فرصٍ، أو إلهاء الوسيط وإشغاله، وتجاوز ضغوطه والخروج من دائرة سلطته ونفوذه، إذ أن المصالحة هي أملهم الوحيد في تحسين صورتهم التي تشوهّت، وإعادة التّقدير والاحترام إلى قضيتهم التي تضرّرت، وتسليط الأضواء عليها وحسن طرحها وحكمة عرضها، إذ شابها ما يشوهها، وأصابها ما يسيئ إليها ويفض الأمّة من حولها، والمصالحة هي السّبيل إلى رفع الحصار عن شعبهم الذي يتألّم، ووقف المهاترات الإعلاميّة المتبادلة بين الفرقاء، وإنهاء حملات الاعتقال الكيديّة والإجراءات الأمنيّة المتبادلة، والتفرّغ التامّ إلى ما يخدم الشّعب ويرفع عنه عناء الحصار وظلم الاحتلال.
لكنّهم وبالقياس إلى ما سبق، واستناداً إلى التجارب الكثيرة التي خاضوها، وهي تجارب كبيرة رعاها ملوكٌ ورؤساء، واستضافتها دولٌ وحكومات، فإنّهم لن يصدّقوا الاتفاق حتّى يمثل أمام عيونهم حقيقةً، ويعيشونه واقعاً ملموساً بأيديهم لا أحلاماً وخيالاً في أذهانهم، فيرونه حكومةً واحدةً في رام الله وغزّة، ومعبراً مفتوحاً بين مصر والقطاع على الدّوام بلا انقطاع ولا إغلاق، وتسييراً للشّاحنات التّجارية والمؤن والمساعدات الغذائية والدّوائية إلى غزة، ومباشرةً لورشة إعادة إعمار ما دمّره العدوان الإسرائيلي على القطاع، وإطلاقاً لسراح المعتقلين من الجانبين في سجون بعضهما البعض، والتّوقف عن الاستدعاءات والمضايقات والاستفزازات، ولن يكون الاتفاق حقيقيّة حتّى يروا حلاً لأزمة الموظّفين من الطّرفين، وعودةً للرّواتب المقطوعة، واستئنافاً للوظائف الموقوفة، وتشغيلاً لمحطة الكهرباء وتزويدها بالوقود اللاّزم، وإخراجها من دائرة المناكفات الحزبيّة والمساجلات الفصائلية، لئلاّ يكون الشّعب محلّ مماحكة القوّة وتنافس السّلطات.   
أيّها المتخاصمون ليس بعد مصر وسيطاً، ولا راعي للحوار بعدها أو بديلاً عنها، ولا مكان بعد القاهرة اجتماعاً، ولا فرصة بعد اليوم للمصالحة، فلا تضيعوا الفرصة، ولا تحاولوا الخدعة، بل تنافسوا فيما بينكم فيما يخدم شعبكم وينفع أهلكم، وانشغلوا في حاجاته واسهروا على راحته واعملوا لسلامته، وتعاونوا في خدمته، فهذا هو ميدان السّبق وساحة النّزال، وهو جبهة المقاومة ومنطلق المنافسة، واعلموا أنّ شعبكم يدرك حقيقتكم ويعلم نواياكم، ويعرف قدراتكم ويحيط علماً بخطواتكم، وما يريده منكم واضحٌ وصريحٌ.
وعلى غير الفريقين من القوى والفصائل الفلسطينيّة، أن يشجّعوا على الاتفاق، وأن يحرضوا على الالتزام به، وأن يدعو أطرافه إلى الأمانة في التّنفيذ والصّدق في الأداء، وأن يكونوا مراقبين لما يجري ومتابعين لما يحدث، وألاّ يقفوا إزاء الاتفاق متفرّجين ساكتين، أو سلبييّن غير مبالين، بل عليهم أن يكونوا عامل قوة وصمام أمانٍ لهذا الاتفاق، الذي قد يكون هو الفرصة الأخيرة.
فيا أيها المفاوضون المتحاورون، المنتدبون عن تنظيماتكم، والممثّلون لحركاتكم، والمتحدّثون نيابةً عن أحزابكم، لا تخذلوا شعبكم ولا تخدعوه، ولا تكذبوا عليه ولا تؤذوه، ولا تجعلوه أضحوكة بين الأمم ولقمةً سائغةً بين فكي العدوّ، ولا تكونوا سبباً في انتكاسته ولا عاملاً في يأسه وأداةً في المزيد من قنوطه، ولا تتسببوا في هجرته وشتاته، وهروبه ولجوئه، وتيهه وضياعه، بل اصدقوه القول وامحضوه النّصح، وصارحوه بالحقيقة، ولا تخفوا عنه الوقائع، وأخلصوا من أجله، وضحّوا في سبيله، وكونوا عوناً له وسنداً معه، ولا تكونوا عليه أنتم والظّروف، وسلطتكم والاحتلال، وقوتكم والحصار، فهذا شعبٌ من حقّه الحياة، وأبناءُ أمةٍ من حقهم الفرح.