في الصميم

بقلم
محمد الدرداري
من صور البر بغير المسلمين من خلال بعض النصوص النوازلية بالغرب الإسلامي
 تتميز الشريعة الإسلامية بنظام اجتماعي يكفُل العيش الكريم لكلّ أفراد المجتمع مسلمين وغيرهم، ولا يليق بالمسلمين  أن يبقى  في مجتمعهم إنسان محروم من حاجياته الضّرورية من الطّعام، أو الكسوة، أو المأوى، أو العلاج ... فإنّ رفع  ذلك ضرورة إنسانيّة، وواجب دينيّ،  لا فرق فيه بين مسلم وغير مسلم.
إنّ ما تفخر به اليوم بعض الدّول الحديثة من توفير الرّعاية الاجتماعيّة للمعوزين، هو أمر سبق إليه الإسلام وقرّره قبل أربعة عشر قرنا، بل وجعله واجبا على الدّولة الإسلامية، بحيث يأثم وليّ الأمر لو قصر في إيصال هذا الحقّ لأهله، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالأمير الذي على النّاس راع، وهو مسؤول عن رعيته » (1)
ولا زال المسلمون عبر عصورهم المختلفة حريصين على ضمان هذا الحقّ لغير المسلمين، سواء من قبل الخلفاء والولاة، أو أهل العلم من الفقهاء والمفتين، والأمثلة والشّواهد على ذلك كثيرة، من ذلك ما أورده الونشريسي عن أبي القاسم أحمد بن محمد بن وَرْد، فقد سئل عن رهبان النّصارى الذين انتقلوا إلى عدوة المغرب، وليس لهم من العيش  سوى غلّة الأحباس الموقوفة على كنائسهم بالأندلس؟
 فأجاب: « قيل: إنّ لهم ما لسائر أهل الذّمة في هذا، من أنّهم إذا افتقر منهم مفتقر، وعجز لزمانة وهرم عن الاكتساب، أن ينفق عليه من بيت المال على طريق الإنعاش أو على طريق الاحتساب » (2) 
إن الإسلام لم يكن ليترك ذوي الحاجات من غير المسلمين عرضة للضّياع والفقر، لأنّ ذلك يتنافى مع دعوة القرآن إلى البرّ بهم والإحسان إليهم، قال تعالى: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (3) ومن أجل ذلك لما رأى عمر بن الخطاب شيخا كبيرا على باب قوم يسال الصدقة سأله: « من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم « إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...»(4)،والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه » (5)
وإذا ما حاولنا تلمس معالم الإحسان وحدوده في نصّ هذه النازلة، فسنجده عامّا، لا يميّز بين طوائف أهل الكتاب، بحيث يقتصر على رهبان النّصارى ورجال دينهم، ــ لمنزلتهم الدّينية في أقوامهم ــ بل إنّ منطوق هذه المسألة وجوابها جعل هؤلاء الرّهبان بمنزلة سائر أهل الذّمة، لهم من حقّ الكفالة من بيت المال ما لأهل ملّتهم جميعا دون تمييز، وهذا مقتضى القسط الذي أمر به القرآن الكريم، وحثّ عليه النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
والملاحظ أنّ المفتي في هذه النّازلة قد قيّد حق أهل الذّمة في بيت المال بالحاجة التي تلحقهم، بسب ظرف طارئ، أو عجز، أو هرم، أو غيرها من نوائب الدّهر التي تنزل بهم، وهي من الأحوال التي يضعف فيها الإنسان،  ويحتاج إلى من يغنيه في تلبية حاجاته الأساسيّة، ولئن تركوا ـ مع ضعفهم وحاجتهم ـ دون رعاية أو نفقة لتنافى ذلك مع صفة الرّحمة التي جاء بها الإسلام،  وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا يرحم الله من لا يرحم النّاس» (6) وكلمة الناس في الحديث عامّة تشمل كلّ الأجناس والأقوام، بغضّ النّظر عن الدّين أو اللّغة أو العرق.
إنّ في هذا الحديث كما يقول ابن بطال: «حضّ على استعمال الرّحمة للخلق كلهم، كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم والرّفق بها. وأنّ ذلك ممّا يغفر الله به الذّنوب ويكفّر به الخطايا، فينبغى لكلّ مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظّه من الرّحمة، ويستعملها فى أبناء جنسه ... وكلّ أحد مسؤول عمّا استرعيه وملكه من إنسان أو بهيمة » (7)
وممّا يكشف لنا عمق هذا التّسامح أيضا، ما أبداه بعض الفقهاء من موافقة في إعطائهم من الزّكاة المفروضة إذا ضعفوا عن الخدمة، ولم يجدوا ما يسدّون به خلتهم، ومن ذلك ما علّق به الإمام البرزلي في نوازله على إحدى مسائل صرف الزّكاة بقوله: « ونقل ابن هارون عن ابن عبد الحكم إعطاءها لذميّ ضعف عن الخدمة » (8)
لقد جعل الإسلام فريضة الزّكاة ركنا من أركان الدّين،  وحدّد مصارفها في قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(9) قال القرطبي: « ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذّمة » (10) ونَقل عن عِكرمة قوله: « الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب » (11)
ولئن كان رأي جمهور الفقهاء هو المنع في برّ غير المسلمين من أموال الزّكاة المفروضة، فإنّ  فئة منهم تساهلت  في ذلك، وجعلت لهم حدّ الكفاية في أموال الزّكاة إذا ضعفوا عن الخدمة (12) ، ولم تف الصّدقات التّطوعية بحاجاتهم، وهذا مقتضى البرّ الذي أمر به القرآن حينما ذكر غير المسلمين المسالمين الذين لم يحاربوا المسلمين ولم يخرجوهم من ديارهم فقال: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(13)  ولقد فصّل الإمام القرافي في بيان معنى البرّ والعدل المأمور بهما في معاملة غير المسلمين المسالمين فيقول: « وأمّا ما أمر به من برّهم ومن غير مودّة باطنيّة، فالرّفق بضعيفِهم، وسدّ خلّة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم » (14) 
وعلى كلّ حال فإنّ ما نقله البُرزلي أعلاه حول إمكانيّة صلة أهل الذّمة من أموال الزّكاة، يبقى خاصّا بحالات الضّعف الشّديد الذي لا يمكن جبره بوسائل الإنفاق التّطوعية الأخرى. 
كما أنّ هذا المنحى من التّسامح نجده أيضا في ما نقله كلّ من الونشريسي  والبرزلي عن الإمام القابسي من جواز إعانة الجار الذّمي، وخدمته، وقضاء حاجاته، فقد سئل عن جار  يهودي ربّما يستقضونه بعض حوائجهم ويقضون له بعض حاجاته... هل في ذلك من حرج؟ فأجاب:«... وأما جارك من أهل الذّمة فيستقضيك حاجة لا مأثم فيها فتقضيها له فلا بأس » (15)
وباستعراض محتوى هذه النّازلة، نقف على جانب مهمّ ممّا كان عليه وضع أهل الذّمة باعتبارهم أقليّات دينية داخل المجتمع الإسلامي، إذ نجد المسلم   ـ وهو في موضع قوّة ـ يسعى في قضاء حوائج جاره غير المسلم، بل ويستقضيه هو بعض حاجاته، وهو سلوك يُنمّ عن رقي أخلاقي، وتفاعل إنساني وحضاري، يعكس أجواء التّسامح التي سادت بين المسلمين وغيرهم من أتباع الشّرائع الأخرى.
من حصيلة هذه النّصوص النّوازلية،  يتّضح أنّ مسلمي الغرب الإسلامي في علاقاتهم مع أتباع الملل الأخرى قد تمثّلوا قيم الإسلام الصّحيح في التّعايش والتّعاون، وضربوا الأمثلة في الرّحمة والتّضامن، ولم يكن تواجدهم في موضع القوّة ليدفع بهم نحو التّسلط والاستبداد والتّهميش والإقصاء،  بل بادروا إلى احتضان هؤلاء، والدّفاع عنهم، وحمايتهم، وتقديم يد العون لهم متى ما احتاجوا إلى ذلك، فكان من الطبيعي أن  تبرز ــ نتيجة لذلك ــ علاقات إنسانيّة متميّزة، محورها الإنسان، وجوهرها الإحسان، ومجالها حاجات الإنسان، ــ أي إنسان ــ  دون اعتبار لعامل الدّين أو العرق.
الهوامش
[1] متفق عليه. البخاري: كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» حديث رقم: 7138 مسلم: كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، حديث رقم: 1829
[2] المعيار 8 / 61 ــ 62.
[3] سورة الممتحنة - الآية 8 
[4] سورة التوبة - الآية 60 
[5] الخراج، أبو يوسف، تح: طه عبد الرؤوف سعد و سعد حسن محمد، المكتبة الأزهرية للتراث، دون طبعة ولا سنة النشر، ص: 139.
[6]  صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن» حديث رقم: 7376. ج/ 9 ص: 115.
[7] شرح صحيح البخارى ،ابن بطال، تح: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد – الرياض، ط/ 2. 1423هـ ج/ 9 ص: 219.
[8] جامع مسائل الأحكام، 1 / 566.
[9] سورة التوبة - الآية 60 
[10] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تح: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، ط/ 2. 1384هـ ج/ 8 ص: 174.
[11] المرجع نفسه، 8 / 174.
[12] جامع مسائل الأحكام، 1 / 566.
[13] سورة الممتحنة - الآية 8 
[14] الفروق، القرافي، الناشر: عالم الكتب، بدون طبعة وبدون تاريخ، ج/3 ص:15.
[15] المعيار 11 / 300. جامع مسائل الأحكام  6 / 233.