الأولى

بقلم
فيصل العش
التعليم في تونس بين معاناة الأولياء و ضياع البوصلة
 من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
«إنتهينا من الجهاد الأصغر وبدأنا الجهاد الأكبر» هي مقولة لبورقيبة كان يردّدها في خطاباته أمام الجماهير ليحسّسها بصعوبة ما هو آت ويبيّن لها أن الحصول على الإستقلال أمر هيّن أمام بناء الدولة. أمّا أنا فسأوظفها في الحديث عن موضوع آخر لا علاقة له بسياق الاستقلال وبناء الدولة وإنّما بما يعيشه الأولياء كلّ عام بمجرّد انتهاء عطلة الصيف وحلول السنة الدّراسيّة. إنّها مقولة يعتمدها المواطن التونسي الذي لديه من الأبناء من هو تلميذ ومن هو طالب في الجامعة ليُخاطب بها جيبه وميزانيّته. فما هو الجهاد الأصغر وما هو الأكبر؟ 
بمجرّد نهاية العطلة الصيفيّة ينطلق ماراطون المصاريف فبعد خلاص معاليم الترسيم ومعاليم الإشتراك الخاصّ بالتّنقل وشراء الأدوات المدرسيّة والمحافظ والميدعات للأبناء التّلاميذ يأتي دور المصاريف لدفع معلوم الكراء للأبناء الذين يدرسون في جامعات بعيدة عن مقر سكن العائلة خاصّة إذا استنفذوا حقّهم في السكن بالمبيت الجامعي بما أنّ الطالب التونسي ليس له الحقّ في السّكن الجامعي سوى خلال سنته الأولى، زد على ذلك معلوم الضّمان وثمن بعض الأثاث لسكنه الجديد الذي يستحقه خلال رحلته الشّاقة مع التّعليم الجامعي(1).
هنا ينتهي الجهاد الأصغر بالنسبة للوليّ ليستعدّ بما تبقّى له من مال وجهد للجهاد الأكبر الذي يمتدّ طيلة السّنة الدّراسيّة، فالوليّ مطالب بمزيد من المصاريف لكن هذه المرّة بصفة دوريّة ومستمرة طيلة السّنة الدراسيّة تنهك جيبه نهكا لتكون حملا ثقيلا على ميزانية موظف من موظفي الدولة مهما علا موقعه في السلّم الوظيفي أو عامل في مصنع حتّى ولو اشتغل أيام العطل والأعياد وألحّ على صاحب المصنع أن يمكّنه من العمل لساعات إضافيّة أخرى أو فلاّح له شجيرات قد تتلف وأغنام قد تموت إذا ما انحبس المطر وغاب الدعم الحكومي. ولن تكون المصاريف العنوان الوحيد لهذا الجهاد الأكبر، بل هناك أشكال أخرى للمعاناة على رأسها التوتّر المستمر خشية انحراف أحد الأبناء والخوف من النتيجة آخر السّنة وتحمّل وجوه التخلّف في العلاقة مع المؤسّسات التربوية التي ينتمي إليها أبناؤه الأعزاء. 
مجّانيّة التّعليم
من يقول لكم إن التّعليم في تونس مجّانيّ فلا تصدّقوه ... أين هي مجّانيّة التّعليم والطّلبات المادّية تأتي من كلّ حدب وصوب : فمعلوم الطّباعة يكاد يكون دوريّا وهو من تحصيل الحاصل لأنّ مدارسنا ،حفظها الله، ليس لديها ناسخات ولا إمكانيات. يضاف إلى هذا المعلوم مصاريف الدّروس الخصوصيّة العامّة أو ما يطلق عليها بحصص التّدارك.. قد يستغرب البعض من هذا المصطلح، لكن استغرابهم سيتلاشى بسرعة كما يتلاشى «المرتب الشهري» من جيب الوليّ وإذا عرف السّبب بطل العجب كما قال الأوّلون . نعم هناك دروس تدارك عامّة وأخرى خاصّة، فأمّا العامّة فهي التي تنظّمها المدرسة، وهي في ظاهرها «اختيارية» لكنّها في الباطن «إجبارية». فالسيد المدير والسّادة المعلّمون يقنعون الوليّ أو على الأقل يخيّل إليه أنّه اقتنع بضرورة تسجيل إبنه أو إبنته في حصص التّدارك، فالأمر ليس مرتبطا بالقدرات الذّهنية للتّلميذ ولكن، والحجّة على الإطار المدرسي، نتيجة لكثافة المادّة التعليميّة فإنّ المعلّم لا يستطيع إنهاء دروسه في الحصص المخصّصة لذلك، فتراه يكمّلها في «حصّة التّدارك» وهي بهذا المعنى إجباريّة حتّى يكتمل الفهم لدى التّلميذ . تصوّروا يا سادتي أنّ في بعض مدارسنا الابتدائيّة تقام دروس خصوصيّة للسّنة الأولى من التّعليم الأساسي؟؟؟؟ . إنّها ليست «حصّة تدارك» للتلاميذ بل هي «تدارك» للمدرّسين . أمّا دروس التّدارك الخاصّة فتلك مسألة أخرى فهي حقّا «اختياريّة» لكنّها بمرور الأيام تصبح «إجباريّة» لأن الوليّ ، سيلاحظ أن فلذة كبده بدأ يشكو من عدم قدرته على فهم الدّرس داخل الفصل نتيجة التّشويش المتعمّد والهرج والمرج الذي أصبح يميّز الجوّ العامّ داخل قاعات الدّرس وعدم قدرته على التّواصل مع أستاذه . فيحنّ فؤاده عليه، ويسعى جاهدا في البحث عن أستاذ يدرّسه حصصا خصوصيّة بالبيت ولا تسأل عن التّكلفة . أمّا إذا كان ابنه او ابنته في الباكالوريا فلا مناص من الإقتراض لتسديد معاليم الدّروس الخصوصيّة في الفيزياء والفلسفة والعلوم الطبيعيّة والإعلاميّة والرّياضيات وما أدراك ما الرّياضيات فقد تغيّر العالم كلّه إلاّ الرّياضيات بقيت سلطان المواد المدرّسة، لا أدري لماذا لكن هكذا قرّرت مناهجنا التّعليميّة، فلعلّها تهدف إلى تعليم الأجيال الحساب والهندسة حتّى يبقى التّونسي «يهندس» و«يحسب أخماسو في أسداسو» وفي الأخير «اللّي يحسب وحدو يفضلوا». 
الخشية من الانحراف
لنترك الحديث عن «وسخ الحياة الدّنيا» ولنتحدث عن جهاد آخر مطالب به الوليّ خلال السّنة الدّراسية وهو مراقبة تحرّكات فلذة كبده. سيضطر للتقرّب إلى رئيسه في العمل ليتحصّل على رخص الغياب الضّرورية للقيام بمهام المراقبة . فلا بدّ أن يعرف أيّ نوع من الأصدقاء يخالط ومع من يقضي ساعات الفراغ المفروضة في جدول التّوقيت، فالوليّ يخشى على ابنه أو ابنته أصدقاء السّوء وهم كثر وحكايات «الحشيش» والمخدرات وقارورات الجعة بالقرب من أسوار المدرسة والمعهد وداخلها تُرْوَى على آذانه صبحة وعشيّة (2) فالإدمان على المخدّرات في تونس بدأ يثير المخاوف لدى الأولياء، إذ تشير آخر الأرقام الى وجود نحو 400 ألف مدمن على مختلف أنواع المواد المخدرة،70 % منهم من الشّباب (3) ويخشى الخبراء من ارتفاع هذا العدد في ظلّ عدم وجود آليات وحلول من الدّولة (4) ولاسيّما مع انتشار الإدمان داخل المدارس. كما أنّ الإحصائيّات تؤكد بأنّ 80 بالمائة من جرائم الأطفال تقع داخل المدارس و المعاهد (5) ولا غرابة في الأمر مادامت مناهج الدّراسة عندنا بلا روح ولا توفّر للتلميذ الحصانة الأخلاقيّة والقيميّة اللاّزمة لمواجهة مثل هذه الأخطار. 
مناهج التعليم
عندما أحاول التفكير في مناهج التعليم، يصيبني الدّوار وتمتلكني الحيرة وتقفز إلى ذهني  أسئلة لا أجد لها جوابا. هل ينتمي من وضع البرامج والمناهج وصاغ نظامنا التّربوي والتّعليمي إلى هذا البلد؟ هل يعرف خصائص مجتمعه ومتطلّباته؟ هل وضع هذه البرامج لأبناء «تالة» و«برنوصة» و«الحزق» و«فريانة» و«دوار هيشر» أم لتلاميذ من كوكب آخر؟ ولماذا كلّ هذه التّجارب والتّغييرات في الكتب والبرامج؟ هل أطفالنا فئران مخابر؟ أسئلة يعود طرحها الأول إلى أكثر من ثلاثين سنة خلت أي بعد الانقلاب النّاعم على المسار البورقيبي وافتكاك بن علي السّلطة لتصبح البرامج والمناهج تتغيّر كما يتغيّر الطّقس في فصل الخريف وتتعدّد ما سمّي قسرا بعمليّات الإصلاح التّربوي. وكان واضحا أنّ البلاد أثناء إنجازها لتلك العمليّات خاصّة مع المرحوم محمد الشّرفي ومنصر الرويسي، مشغولة بالمقتضيات الخارجيّة، الاقتصاديّة والسّياسية، أكثر من تركيزها على الخصوصيّات المحلّية وحاجة المجتمع لتعليم يواكب تفاعلاته، لذلك غاب التّشخيص وانعدمت الحوارات الوطنيّة المتّصلة بالقضيّة، فكان الفشل الذريع نتيجة منطقيّة لها. حتّى إذا جاء من طبّق على أبنائنا ومعلّميهم قسرا ما سمّوه «المقاربة بالكفايات» علمت أنّ تعليمنا ونظامنا التّربوي قد دخل نفقا طويلا لا نهاية له وأنّه لا مفرّ للأولياء من زيارة قريبة لمختصّ في مرض «السكّري» و«ارتفاع ضغط  الدّم» وهو ما حصل فعلا للعديد منهم بعد أن أصبح من الصّعب تقييم مستوى أبنائهم ومعرفة كيفية التّفاعل مع المشهد التّربوي.
 تربية أم تعليم؟
المشهد التربوي؟؟؟ هل قلت المشهد التربوي؟ إذا، معذرة، كان من الأصحّ أن أقول المشهد التعليمي. لأنّني لم ألمس تربية ولا قيما تنحت في وجدان أبنائنا التلاميذ. لم يعد من مهام المعلّم والأستاذ تعليم التلاميذ السّلوك الحسن والقيم التي يزخر بها ديننا وتتميّز بها هويّتنا. لم يعد من مهام مدارسنا تجذير مبادئ المواطنة لدى النّاشئة ولا حتّى مبادئ التّسامح والتّعاون والتّكافل . بل العكس ما تراه عادة في مدارسنا، فالتّمييز بين التّلاميذ أصبح القاعدة والمساواة هي الاستثناء . فهذا ابن سي فلان وذاك ولد سي فلتان أمّا أنت فليس لك في القسم مكان. غابت المضامين وحضر الشّكل فأنتج جيلا بلا هويّة، ليس لديه عشق للتّعليم ولا رغبة في الاستفادة. همّه الوحيد النّجاح في آخر السّنة بكلّ الطّرق والوسائل وإذا لم ينجح فلا ضير. فلا فائدة تذكر من الدّراسة  والحلّ عندئذ في هجر المدرسة أو المعهد (6) وكما يقول شعار الحركة التّلمذيّة الشّهير«تقرأ ما تقراش .... مستقبل ما فمّاش». 
 العمل النقابي
من أبواب الجهاد الأكبر عند الأولياء معاناتهم المستمرّة من جرّاء ارتفاع نسق الإضرابات في قطاع التّعليم في السّنوات الأخيرة، والتّجاذب بين الهياكل النّقابية الممثّلة للقطاع التّربوي ووزارة الإشراف سواء خلال فترة حكم التّرويكا التي حطّمت فيها الأرقام القياسيّة في عدد الإضرابات أو خلال فترة إشراف «ناجي جلّول» على الوزارة ضمن حكومة ما سمي بالوحدة الوطنيّة، فقد تحوّلت السّاحة التّعليميّة التّونسيّة إلى حلبة صراع وليّ ذراع بين نقابات المعلمين والأساتذة من جهة والوزراء الذين عيّنوا على رأس الوزارة من جهة أخرى. لم تعبأ النقابات ولا سلطة الإشراف بما يمثّله توقّف الدّروس من اضطرابات في الحياة اليوميّة للتّلاميذ وأوليائهم وما ينجرّ عنه من انخفاض مستوى التّلاميذ وغياب جودة التعليم لتحتلّ تونس المراتب الأخيرة في ترتيب جودة التعليم عالميّا وعربيّا (7). إنّ الحرب المعلنة بين النقابات والوزارة لا تكشف فقط عن مجرد توتّر للعلاقة بين النّقابة والوزارة، ولا أيضا عن اختلاف الرّؤى بين الطّرفين، بل تحيل على ما هو أعمق ويتمثّل في أزمة عميقة طالت العمليّة التّربويّة التّونسيّة برمّتها. أمّا الخاسر الأكبر بعد البلاد ككل فهو التّلميذ أوّلا والوليّ ثانيا.
 الخاتمة
هذا «غيض من فيض» كما يقال، لأنّ الحديث عن أزمة التّعليم في تونس وما تعانيه العائلات التونسيّة من جرّائها حديث يطول، لهذا سنكتفي بما ذكرنا ونقول: «لكم الله يا أولياء «تلاميذ تونس»، اصبروا ورابطوا ولا تفقدوا الأمل في مصير أبنائكم وأبناء أبنائكم . فقد تنفرج الكرب ويأتي الفرج ويتغيّر الحال بعد أن تتفطن،إن شاء الله، حكومات ما بعد الثّورة إلى معاناتكم فتعدّل الأشرعة وتوجه المركب نحو الطّريق الصحيح... من يدري؟
الهوامش
(1) قدّرت كلفة العودة المدرسيّة لتلميذ واحد بالمرحلة الابتدائية 250 دينارا، أما بالنسبة للإعدادي، فإنّ التّكلفة تبلغ 317 دينارا، فيما يبلغ معدل التكلفة بالنسبة لتلميذ الثانوي 389 دينارا، ولا تشمل هذه المعدلات مصاريف النقل المدرسي. وفي ما يتعلق بالعودة الجامعية، فإن التكلفة تبلغ 1002 للطالب الواحد، منهم 185 دينارا للسّكن و96 دينارا للتّرسيم و312 دينارا للأدوات و410 دينارا تخصص لمصاريف أخرى على غرار النّقل ( حسب استبيان أجرته منظمة الدّفاع عن المستهلك وقدّمته في النّدوة الصحفية ليوم 14 سبتمبر 2017)
(2) بحسب بحث تجريبي أعدّته إدارة الطبّ المدرسي والجامعي، حول التّدخين والكحول والمخدّرات في المؤسّسات التّربوية في محافظة تونس في عام 2013، تبيّن أنّ 11.6 في المائة من التّلاميذ جرّبوا مواد مخدّرة، و50 في المائة استهلكوا مواد مخدّرة أو كحوليّة أو سجائر (60 في المائة ذكور و40 في المائة إناث).
(3) سليم شاكر وزير الصحّة التونسي، خلال ملتقى «الخيارات السّياسية أمام الإدمان» الذي نظّمته الجمعيّة التّونسية لطب الإدمان يوم 23 سبتمبر 2017 بنزل القولدن توليب المشتل،تونس 
(4) لم تجد الدولة من الحلول غير إلغاء العقوبة على متعاطي الزّطلة وذلك بإصدار القانون عدد 39 لسنة 2017 المؤرخ في 8 ماي 2017 الذي يتعلق بتنقيح القانون عدد 52 لسنة 1992 المتعلق بالمخدرات والذي يعطي للقاضي سلطة تقديرية لتكون الأحكام أقلّ وطأة وخطورة خاصّة بالنّسبة للمستهلكين المبتدئين. 
(5) تقرير المرصد الوطني للعنف المدرسي 05 ديسمبر 2014 وتصريح القاضية «ليلى عبيد» لقناة نسمة بتاريخ 14 فيفري 2017.
 (http://www.achahed.com/80-بالمائة-من-جرائم-الأطفال-تقع-داخل-الم)
(6) بلغ على سبيل المثال لا الحصر الانقطاع عن الدّراسة خلال السّنة الدّراسية 2015-2016 بولاية القصرين 63 بالمائة وبولاية قفصة 37 بالمائة، حسب نتائج بحث ميداني حول موضوع «الانقطاع المدرسي بقفصة والقصرين :العوامل والتحديات»، أعده المجلس الجهوي للحد من الانقطاع المبكر عن التعليم بقفصة والقصرين بمساعدة من بعثة الاتحاد الاوروبي بتونس
(7) كشف مؤشر جودة التعليم الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عن احتلال تونس المرتبة السابعة عربياً من مجموع 13 دولة والسادسة والثمانين عالميا عام2016.