شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
الجاحظ... المفكر والأديب الذي قتلته الكتب.!!!
 يعدّ الجاحظ من كبار أئمة الأدب العربي الذين اشتهروا في العصر العباسي. وهو موسوعة تمشي على قدمين، وتعتبر كتبه دائرة معارف لزمانه، كتب في كل شيء تقريبًا؛ كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء والسلطان والجند والقضاة والولاة والمعلمين واللصوص والإمامة والحول والعور وصفات الله والقيان والهجاء.
هو «عمرو بن بحر بن محبوب الكناني» أشتهر بالجاحظ بسبب جحوظ عينيه أي بروز العينين من مكانهما الطبيعي. وكان معروفاً بقبح المظهر، لكنّ روحه تميّزت بالفكاهة والقدرة على الهزل.
ولد في البصرة سنة 159 هـ /776م من أسرة فقيرة. قضّى طفولة صعبة حيث كان يبيع الخبز والسمك في سوق البصرة وهو صبي حتى يؤمن لعائلته لقمة العيش، ولكنّه كان يحب تعلم القراءة والكتابة فبدأ بحفظ القرآن ثم أخذ العلم عن أعلام البصرة فجلس إلى الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري وأخذ عنهم علم اللغة العربية وآدابها ودرس النحو على الأخفش، وتبحر في علم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري. وعندما اشتد عوده وأصبح شاباً تعلم اللّغة الفارسيّة والهنديّة وأصبح مواظبا على الذهاب إلى مربد البصرة فيأخذ اللغة مشافهة من الأعراب، ويناقش حنين بن إسحاق وسلمويه فيتعرَّف على الثقافة اليونانية، ويقرأ ابن المقفع فيتصل بالثقافة الفارسية، ثم لا يكتفي بكل ذلك، بل يستأجر دكاكين الوارقين ويبيت فيها ليقرأ كل ما فيها من كتب مؤلفة ومترجمة، فيجمع بذلك كل الثقافات السائدة في عصره؛ من عربية وفارسية ويونانية وهندية أيضا. ثم توجه إلى بغداد، وفيها تميز وبرز، وتصدّر للتدريس، وتولّى ديوان الرسائل للخليفة المأمون. 
كان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون علم أرسطو، أو بعض من ينقلون الحديث النبوي.
كان الجاحظ يؤمن بأهمية الشك الذي يؤدي إلى اليقين عن طريق التجربة. وهاجم الجاحظ رجال الحديث، لأنهم لا يحكّمون عقولهم فيما يجمعون ويروون، فكان يقول: «ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهانها لخفّت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان». وكان يرفض الخرافات كلها، وينقد من يرويها من العلماء أمثال أبي زيد الأنصاري، فيقول: إن أبا زيد أمين ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار التي يرويها عن السحالي والجن، وكيف يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتزوجونهم وينجبون؟» كما رفض وضع صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكانة أعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد أن يتعرض لأعمالهم ويقيمها وينقدها، فهو يرى أن من حق المؤرخ أن يتناول أعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر كالبشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وإذا كانت صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- تعطيهم حق التوقير فإن هذه الصحبة نفسها تجعل المخطئ منهم موضع لوم شديد؛ لأنه أخطأ رغم صحبته وقربه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
أمّا في السياسة فقد رفض الجاحظ بشدة القول بأن سب الولاة فتنة ولعنهم بدعة، وكان-كمعتزلي- يرى ضرورة الخروج على الإمام الظالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثقة في القدرة على خلع الظالم وإحلال العادل محله، دون إحداث أضرار أكثر مما يتوقع جلبه من المنافع. وكان الجاحظ يؤكد أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع. 
من مجامع كلام الجاحظ: «المنفعة توجب المحبة، والمضرة توجب البغضة، والمضادة عداوة، والأمانة طمأنينة، وخلاف الهوى يوجب الاستثقال، ومتابعه توجب الألفة. العدل يوجب اجتماع القلوب، والجور يوجب الفرقة. حسن الخلق أنس، والانقباض وحشة. التكبر مقت، الجود يوجب الحمد، والبخل يوجب الذم». ويعرّف الجاحظ منهجه في تبيان الحلال والحرام بقوله : «إنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، وبالسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المعينة» رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حله أو حرمته؛ لأن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولأن أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة «وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا».
ويعد الجاحظ من أغزر كتّاب العالم ؛ فقد كتب حوالي 370 كتابًا في كل فروع المعرفة في عصره… وكان عدد كبير من هذه الكتب في مذهب الاعتزال.. وبحث مشكلاته.. والدفاع عنه… لكن التعصب المذهبي أدى إلى أن يحتفظ الناس بكتب الجاحظ الأدبية.. ويتجاهلوا كتبه الدينية فلم يصل إلينا منها شيء. وكان أسلوبه في الكتابة أحد المميزات الكبرى التي تمتع بها الجاحظ، فهو سهل واضح فيه عذوبة وفكاهة واستطراد بلا ملل، وفيه موسوعية ونظر ثاقب وإيمان بالعقل لا يتزعزع. من أشهر مؤلفاته رحمه الله: «البيان والتبيين» في أربعة أجزاء، و«كتاب الحيوان» في ثمانية أجزاء، و«البخلاء»، و«المحاسن والأضداد»، و«البرصان والعرجان»، و«التاج في أخلاق الملوك»، و«الآمل والمأمول»، و«التبصرة في التجارة»، و«البغال»، و«فضل السودان على البيضان»، و«رسائل الجاحظ».
اشتد المرض بالجاحظ في أواخر أيامه فأصيب «بالفالج»، وهو نوع من الشلل النصفي، ومن كثرة ولعه بالقراءة والكتابة زحف وحيداً إلي مكتبته المكتظة بالكتب المكدسة، فانهالت مجلداتها الضخمة عليه فمات عن عمر يناهز التسعين عاماً سنة 255 هـ/ 869م.