وجهة نظر

بقلم
محمد الهميلي
العمل التطوعي ... الفريضة الغائبة في تونس
 من الغباء أن نتصور أنّ شعبا لا يقدّر قيمة العمل قادر على التّطوع ومدّ يد المساعدة للوطن أو لغيره لأنّه ضحيّة الفراغ الرّوحي والتّربوي والأخلاقي والقيمي الذي عاشه من جرّاء سياسة تجفيف منابع التّدين، فالتّشوّه الذي لحق أخلاقيّات الشّعب التّونسي خطير لدرجة أنّه أصبح  يبعث على الانشغال والحيرة! خاصّة مع تنامي ظاهرة العزوف عن محاولة إنقاذ البلاد لدى المواطنين عبر التطوّع لخدمتها في كلّ المجالات المتاحة سواء بالجهد أوبالمال أوبساعات العمل الإضافية أوبالمشورة في ظلّ الظّروف الإقتصاديّة والأمنيّة والاجتماعية الصّعبة التي تعيشها. وقد أصبح هذا العزوف مرضا عضالا يصعب دواؤه إلاّ بجهد جهيد وتكاتف أصحاب النّوايا الحسنة والجهود الطيبة.هذا المرض الاجتماعي أصاب كبد المجتمع مباشرة حتّى أصبح جزء كبير منه غير منتج وفوضويّا لا يعير الوطن أيّة عناية أو إحاطة أو اهتمام. لقد انتشرت ثقافة التّواكل والأنانية والانتهازية واللاإنتاجية واللامبالاة عوضا عن ثقافة التطوع وغابت القناعة وحضر الجشع واستحلال الملك العام واستغلال النفوذ للمصلحة الشخصية والتقصير المبالغ فيه في آداء الواجب (العمل)، فلو نظرنا مثلا إلى عدد لابأس به من الموظفين والعملة للاحظنا أنّهم أصبحوا عالة على خزينة الدّولة لأنّهم يتقاضون جراية ومنحا عديدة دون أن يقدّموا مقابل ذلك جهدا أو إنتاجا، فهل من المعقول أن نجد من بين هؤلاء متطوّعين؟
 إنّ هذه الظّواهر المرضيّة التي ابتلي بها جزء لابأس به من المجتمع التونسي خاصّة بعد الثّورة، وجب الانتباه إليها والوقوف عندها بالتّحليل والدّراسة لمعرفة أسبابها الحقيقية حتّى نتمكن من إيجاد الحلول المناسبة لها ومعالجتها معالجة جذرية قبل أن تستفحل فترة الركود الاقتصادي الاجتماعي الخطير الذي ينبئ بإنحلال الدّولة ومؤسّساتها. 
هذه الظاهرة هي منتوج سياسي وثقافي وإعلامي موروث من أنظمة سابقة خرّبت العقل والفكر والأخلاق العامّة وقتلت إرادة الإصلاح والطّموح وحبّ الوطن،. وقد اجتهدت الأطراف المعادية للثّورة في الترويج لها لغاية كسر ظهر الإنتقال الديمقراطي وإفشال تجربة الحكم الرشيد بتونس ومحاربة كلّ مسعى إصلاحي لإنقاذ البلاد في محاولة لمنع تحقيق أهداف الثورة.
 إنّ الطريق الأنسب للقضاء على هذا الدّاء يتمثّل في تشجيع جمعيات المجتمع المدني النّابعة من الشّعب على العمل من أجل ترسيخ ثقافة التّطوع لدى التّونسي والوقوف سدّا منيعا أمام أعداء هذه الثّقافة. وهو ما حصل إبّان الثورة مباشرة، حيث عاشت البلاد طفرة كبيرة للجمعيات التّطوعيّة وكان ذلك نتيجة لتعطش جزء من الشعب التونسي إلى حرّية التنظم والنّشاط بعد كلّ سنوات الكبت والتّضييق والمنع التي عاشها في ظلّ حكم الاستبداد. لقد غطت تلك التشكيلات الجمعياتية الناشئة كامل تراب الجمهوريّة التونسيّة خالقة مدًا تضامنيّا تاريخيّا منقطع النّظير ظهر جليّا إبّان موجات البرد والثّلوج وفي المناسبات الدّينيّة والمدرسيّة، وتكرّرت الأنشطة التّطوعيّة في أرجاء المدن والقرى خاصّة في مجال النظافة بعد أن تسببت إضرابات عمال النظافة طويلة الأمد في إغراق البلاد تحت جبال من القمامة والفضلات. 
إلآّ أن بروز ظاهرة الإرهاب وهجرة بعض الشّباب التّونسي للقتال ضمن الجماعات المتشدّدة خارج الوطن عطّلت تلك الهبة الكبيرة للمجتمع المدني ومثّلت تعلّة لأطراف عديدة داخل البلاد وخاصّة المعارضة الإستئصالية لتصفية هذا المجتمع المدني الناشيء وتمّ في ظرف وجيز تجميد نشاط عدد كبير جدّا من الجمعيات التطوعيّة وبالأساس تلك التي تحمل هويّة إسلاميّة أوصفة ثوريّة وتشكّل تهديدا كبيرا لمصالـح النّظام القديم وحلفاؤه نظرا لطبيعة نشاطها الذي قد يتسبّب في قلب موازين القوى السّياسية للمجتمع التونسي بغير ما تشتهي تلك الأطراف الداعمة للثورة المضادّة .  
إن انكماش نشاط الجمعيات العاملة خاصّة في المجال الاجتماعي التكافلي والتضامني أو توقفه ناتج عن  فـرط الهرسلة والتخويف والتضييقات التي مارستها عدّة أطراف وبعض الجهات السّياسية والإعلامية والتي اتخذت من التشويه والتخوين والترذيل وسيلة لحشر تلك الجمعيات والشبكات في زاوية الخوف من اتهامها بشبهة تمويل الإرهاب « كلمة حقّ أريد بها باطل». إنّه من غير المعقول أن توضع أكثر من 18 ألف جمعيّة في سلّة واحدة مع بعض الجمعيات المنحرفة والمشبوهة التي لم تحترم القانون وارتكبت أخطاء فادحة في حقّ الوطن.
إن بلادنا الآن هي في أشدّ الحاجة إلى زرع قيمة التطوع وتفعيل قيمة العمل لتكون تونس قادرة على الخروج من عنق زجاجة الأزمات المتتالية مهما اشتدت وصعبت وذلك بالتضامن الشعبي والتفكير الجماعي في مصلحة الوطن أسوة بما نعرفه عن أدبيات الثّورات في العالم التي تتكفّل شعوبها بعد الثورات بالبناء والتشييد تطوّعا ودون مقابل .
 إن الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للبلاد مرهون بتفعيل دور المجتمع المدني بما له من دور في حراسة القيم والمبادىء الإنسانية بالبلاد وهو الجهة التي تمتلك مصداقية لدى المجتمع الدولي وتحفيز المستثمرين على جلب أموالهم وضخّها في الدورة الاقتصادية للبلاد، فعامل الاستقرار الاجتماعي الذي يشهد به المجتمع المدني هو شهادة لدى المجتمع الدولي والمنظمات الأمميّة والجهات المانحة لتسهيل التعامل مع الدولة دون تحفظات. إنّ المجتمع الدّولي يعطي المجتمع المدني بكلّ مكوّناته صفة مراقب وضامن أساسي لتطوّر المجتمع باتجاه الحوكمة الرّشيدة والمواطنة الحقّة والسّليمة، والمعروف أنّ أيّة مساعدات خارجيّة أو أيّ دعم إقتصادي لا يمكن أن تتمتّع به الدّولة دون إستجابتها إلى شروط وضمانات بتوفير مناخ سليم يضمن حرّية التّنظم والنّشاط ويحقق العدل والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.  
إنّ تصفية المجتمع المدني أوتفريغه من قدرته على مراقبة السّلطة بالبلاد وإيقاف أنشطة جزء كبير من مكوناته وتجميدها يعدّ جريمة في حقّ البلاد والعباد لأنّ هذا الاستئصال يكلّف الدّولة خسارة كبيرة بفقدانها للدّعم الهام للمدّ التضامني الذي ينعش الاقتصاد الاجتماعي ويحرّك النسيج التّطوعي للشّعب. 
إنّ من واجب الحكومة أن تعطي قيمة كبرى للمجتمع المدني وتقدّم له الدعم الكافي لمزيد من الانتشار داخل النسيج المجتمعي وعليها أن تعتبر أنّ الانتشار الكبير للكمّ الهائل من الجمعيات هو في حقيقة الأمر ظاهرة صحّية  تعبّر عن مدى تطوّر الشّعب التّونسي الذي أصبح يؤمن بالتّنظم داخل جمعيات وأحزاب وينبذ كلّ أشكال التّطرف والإنكماش السّياسي سعيا منه لإعطاء البلاد جرعة كبيرة من الأمل والاستقرار عبر البناء والتشييد وفرض تنمية مستدامة يكون فيها المجتمع المدني شريكا فاعلا آمنا وقادرا على تقديم الإضافة.
أمّا محاصرة المجتمع المدني والتنكيل به فلا تنتج غير مزيد من غياب ثقافة التّطوع وهيمنة ثقافة التواكل والأنانيّة المفرطة.