إضاءات أدبية

بقلم
غنيّة بوحويّة
هجرة الحكمة من الدّين إلى الشّعر: قراءة في وصايا لقمان لابنه
 تتعدّد معاني الحكمة وتتباين، فمنها وضع الشّيء في محلّه اللاّئق به، ومنها الفهم الجيّد الصّحيح، والعلم النّافع، وحسن التّعبير والتّأويل، كما أنّها الصّواب في المعتقد، والفقه في الدّين والعقل. وقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم فضل الحكمة ومن يؤتاها، فقال: «يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، ومنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وما يذّكّرُ إلا أُولُو الألباب»[1] فممّن خصّهم بنعمته وآتاهم الحكمة داود، وعيسى عليهما السّلام، ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم ولقمان رضي الله عنه...؛ هذا الأخير الذي وردت حكمه بسورة لقمان من الآية 12 إلى الآية 19، لكنّها هاجرت إلى الشّعر العربيّ بشكل أو بآخر. من هنا ستكون انطلاقتنا، لنغوص في لجج دواوين الشّعر العربي على اختلاف الشّعراء وعصورهم، لنرصد هذه الحكم، ومنه نتعمّق بالبحث في الإشكالات التّالية:
1. الحِكمة: بحث في المصطلح
2. حكم لقمان رضي الله عنه في القرآن الكريم
3. مدى توظيف هذه الحكم في الشّعر العربيّ
4. الجماليّات المضفاة، والأبعاد والمرامي المرجوّة من هذا التّوظيف.
(1) الحكمة: بحث في المصطلح والمفهوم:
تعدّدت معاني الحكمة وتباينت، نذكر منها قول ابن منظور في لسانه:«والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم»[2]، أمّا الجوهريّ فذكرها في الصّحاح قائلا:«الحِكمة من العلم، والحكيم: العالم، وصاحب الحكمة، والحكيم: المتقن للأمور» [3]. والحكمة ضالّة المؤمن كما ورد في جمهرة ابن دريد؛ فكلّ كلمة وعظتك، وزجرتك، ودعتك إلى مكرُمة، أو نهتك عن قبيح، فهي حكمة [4]. ويذكرها الزّبيدي بقوله:«حكُم الرّجل يحكُمُ حُكْمًا بَلغ النّهاية في معناه مدْحًا لا ذمًّا» [5] .
من التّعريفات السّابقة، نستنتج أنّ الحكمة في معناها العام هي المعرفة، والإتقان، والمنع.
(2) التّعريف بلقمان الحكيم:
من المؤلّفات التّي أوردت سيرة لقمان الحكيم كتاب «البداية والنّهاية» لابن كثير؛ الذي جمع أقوالا متنوّعة بيّنت نسب لقمان، وقبيلته، وأخلاقه، وخلقتُه، وزواجه، وغيرها. منها قوله: «هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويقال: لقمان بن ثاران. حكاه السّهيلي، عن ابن جرير والقتيبي. قال السّهيلي: وكان نوبياً من أهل أيلة، قلت: وكان رجلاً صالحاً ذا عبادة، وعبارة وحكمة عظيمة. ويقال: كان قاضياً في زمن داود عليه السلام، فالله أعلم. وقال سفيان الثوري، عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبداً حبشياً نجاراً».
وقال قتادة، عن عبد الله بن الزبير قلت: لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم في شأن لقمان؟ قال: كان قصيراً أفطس من النوبة [6]. وقد وردت سيرته في العديد من المؤلّفات على اختلافها وتنوّع مجالاتها [7]. 
(3) وصايا لقمان رضي الله عنه لابنه في القرآن:
جمع لقمان الحكيم في وصاياه لابنه «بين الأصول والفروع، والأقوال، والأفعال، والاعتقاد، والأمر، والنّهي»[8]؛ فقد نهاه عن الشّرك، ثمّ أمره بالصّلاة، وذكّره بعدل الله، وشمول علمه، وبعدها أمره بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والصّبر على ما يصيبه، وعدم تصعير الخدّ للنّاس، كما نهاه عن الكِبر، والغرور، وأمره بالقصد في المشي، والغضّ من الصّوت. ضمّت سورة لقمان هذه الوصايا.
وصايا لقمان رضي الله عنه لابنه في أحاديث النّبيّ صلى الله عليه وسلّم:
وكما بيّنا ورود وصايا لقمان رضي الله عنه لابنه في القرآن الكريم، فإنّها تناثرت كذلك في ثنايا الأحاديث النّبويّة، بين صحيح وضعيف[9] . إلاّ أنّ دراستنا ستقتصر على ما ورد منها في الكتاب العزيز.
(4) تجلّيات وصايا لقمان رضي الله عنه 
في الشّعر العربيّ:
إنّ المنقّب في دواوين الشّعر العربيّ، لواجد لا محالة العديد من وصايا لقمان الحكيم لابنه، مضمَّنة، أو ممتصَّة، أو محوَّرة، لتنتقل بذلك هذه الوصايا من مهدها الدّينيّ، إلى الشّعر العربيّ، على لسان الكثير من الشّعراء. إنّها هجرة يمكن أن نصطلح عليها بالتّناص؛ هذا المصطلح المتعدّد المفاهيم، والذي يمثّل نظريّة حديثة ظهرت في منتصف السّتّينات من القرن العشرين الميلاديّ[10] . كما أنّه ظاهرة لغويّة معقّدة تستعصي على الضّبط التّقنين؛ إذ يُعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقّي وسعة معرفته، وقدرته على التّرجيح[11]، وهذا ما يشفّ عن أنّه يحتاج إلى مقارعة الفكر في استخراج خبيئه.
من أهمّ التّعريفات بهذا المصطلح تعريف جيرار جنيت بأنّه «الحضور الفعليّ لنصّ في آخر»، وداخل هذا النّوع يميّز بين ثلاث صور: الاستشهاد(Citation)، والسّرقة (Plagiat)، والتّلميح ( Allusion)ا[12]، وما ورد في المعجم الموسوعي لعلوم اللّغة: التّناصّ أيضا هو مجموعة العلاقات التي تربط نصّا أدبيّا مع نصوص أخرى في مستوى إبداعه من خلال: الاقتباس، السّرقة، التّلميح، المعارضة. وفي مستوى قراءته وفهمه بفضل الرّبط الذي يقوم به القارئ [13].  وعليه، تبدأ المهمّة هنا؛ إذ سنبيّن مظاهر هذه الوصايا في الشّعر العربيّ؛ الذي اتّخذ من القرآن الكريم بالدّرجة الأولى مرجعًا استند إليه، فولد ما يسمّى: التـّناصّ القرآنيّ.
4-1) الشّرك ظلم عظيم:
الشّرك باللّه كبيرة من الكبائر التى نهى الله تعالى عن الاقتراب من حماها، وقد وردت العديد من النّصوص القرآنيّة، والأحاديث النّبويّة المبيّنة لذلك، نذكر منها قوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود» [14]  ولمّا سئل الرّسول صلى الله عليه وسلّم عن الكبائر قال:» هُنَّ تِسعٌ: الشِّركُ باللهِ...» [15]  فهو ذنب لا يُغفر. قال تعالى في سورة النّساء: «إنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لِمَنْ يَشَاءُ» [16] وبالعودة إلى الشّعر العربيّ، نجد أنّ أوّل وصايا لقمان لابنه، تجلّت في إحدى قصائد ابن الرّوميّ؛ التي هجا فيها عمرو النّصرانيّ:
فَاشْكُرْ إِلَهَكَ لا تُشْرِكْ بِهِ أَحَــدًا * إِنْ كَانَ يُشْكَرُ شَيءٌ كُلُّهُ شُهَـــرُ [17]  
ويقول الأعشى:
وَرَبَّكَ لا تُشْرِكْ بِهِ إِنَّ شِرْكَـــــهُ * يَحُطُّ مِنَ الخَيْرَاتِ تِلْكَ البَوَاقِيَـــا [18]
ويقول محي الدّين بن عربي:
مَنْ يَعْبُدِ اللهَ إِنَّ اللهَ قَدْ عُبِـــــــــدَا* ذَاكَ الوَحِيدُ فَلا تُشْرِكْ بِهِ أَحَــــدَا [19]
فمن الأبيات السّابقة؛ تتجلّى لنا أوّل وصيّة من وصايا لقمان لابنه؛ إذ قال له: «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ باللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»؛ فكلّ من ابن الرّوميّ، والأعشى، ومحي الدّين بن عربيّ يوجّه خطابه إلى متلقّ مختلف عن الثّاني، إلا أنّ المضمون واحد، والهدف المرام منه واحد أيضا، وهو: لا تشرك بإلهك أحدًا. لا تجعل لله شريكا، فربّ العباد واحد منزّه عن أن يكون له شريك، ولولا عظم هذا الذّنب، لما ذكره الله في كتابه العظيم، وذكّر به رسولُه الكريم، ثم جاء على لسان الشّعراء ناصحين، ومذكّرين، مستقين ذلك من المنبع الأوّل، والأصل الحكيم.
4-2) الأمر بطاعة الوالدين على الخير، 
ومصاحبتهما معروفا فيما دونه:
الوالدان نعمة الخالق المالك، وهما السّراج الذي ينير ليل الحياة الحالك، بهما تُرسم الدّروب، وتُشحذ القرائح بالآداب، كما تُشحذ بالحبّ والوفاء القلوب. فضلهما علينا كبير، ولهذا أوصانا بهما خيرا مولانا العليّ القدير.
لقد قرن الله جلّ جلاله حقّ الوالدين بحقّه [20]، في آيات كثيرة من القرآن الكريم. يقول:«وَاعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»[21] وقال في موضع آخر:«وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوَالِدَينِ إِحْسَانًا»[22] 
ولم نعثر في الشّعر العربيّ على ما يشاكل وصيّة لقمان لابنه، وإنّما تناثرت في ثنايا بعض الدّواوين أبيات تبيّن بعض فضلهما، أو تعدّد خصالهما، وتعبهما، لكنّها بعيدة كلّ البعد عن الأصل الموجود بين أيدينا.
4-3) الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر«هو القطب الأعظم في الدّين، وهو المهمّ الذي ابتعث الله له النّبيّين أجمعين» [23] ؛ فالمعروف ما يعرفه الشّرع، ويدعو إليه، والمنكر ما ينكره الشّرع، ويحذّر منه، وينهى عنه[24]، وهذه إحدى وصايا لقمان الحكيم لابنه؛ إذ قال: ﴿ وامُرْ بالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ﴾، فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ميزة لولا قداستها، ومكانتها لما خصّ بها الله جلّ جلاله رسوله الكريم، حيث قال في محكم تنزيله:«الذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النّبيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ» [25]  
وقد ذكر هذه الوصيّة الشّاعر عبد الغنيّ النّابلسيّ في قوله:
وَمَا الأَمْرُ بالمَعْرُوفِ إِلاَّ حِكَايَــــــةٌ * عَنِ اللهِ لا عَنْ نَفْسِ مَنْ سَمِعَ النـَّــدَا
كَذَلِكَ إِنْكَــــــارُ المَنَاكــِــــرِ كُلِّهَــــا * حِكَايَةُ عَبْدٍ عَــــــنْ شَرِيعَةِ أَحْمَــــدَا
تحدّث عن الأمر بالمعروف في البيت الأوّل، والنّهي عن المنكر في البيت الثّاني، قائلا إنّهما حكاية عن الله ورسوله. فهذان الفعلان المتقابلان: أمر ونهي، لذوا أهمّيّة بالغة، وأجرهما عند المولى كبير، يجب العمل بهما، وخير أرض لزرعهما هي الابن؛ الذي يشيب على ما شاب عليه، ويشبّ على ما رُبِّي عليه، وهو السّرّ في وصايا لقمان لابنه.
4-4) الصّبر على المصيبة:
أصل كلمة«الصّبر»: المنع والحبس؛ فالصّبر حبس النّفس عن الجزع، واللّسان عن التّشكّي، والجوارح عن لطم الخدود، وشقّ الثّياب ونحوهما [26]. 
والصّبر الذي أوصى به لقمان الحكيم ابنه، عن المصائب. قال تعالى:«واصْبِرْ عَلَى ما أصَابَكَ»، والمصائب هي النّائبات التي تختلف من حيث وقعُها على القلب، وتأثيرُها فيه، فمنها ما يُستساغ ويُتحمّل، ومنها ما الظّهْرَ يقصم.
والباحث في دواوين الشّعر العربيّ، يجد الكثير من الشّعراء الذين اتّخذوا من الصّبر مدماكًا أقاموا عليه قصائدهم، على اختلاف العصور، وكذا الدّيانة، فممّن تغنى به، وحمده من شعراء العصر الجاهليّ: عبيد بن الأبرص القائل:  
صَبِّرِ النَّفْــسَ عِنْــدَ كُـــلِّ مُلِــــــمٍّ * إِنَّ في الصَّبْرِ حِيلَةَ المُحْتَــــالِ
لا تَضِقْ فِي الأُمُورِ ذِرْعًا فَقَدْ يُكْـ * ـشَفُ، غَمَّاؤُهَا بِغَيْرِ احْتِيَــــالِ
رُبَّ مَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مــنَ الأَمْـــ * ـرِ، لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَـــالِ [27] 
فها هو ينصح بالصّبر عند الملمّات، والمصائب، قائلاً إنّ الأمر إذا استعصى، فالأصحّ ألاّ تجزع النّفس منه، فسيَلحقه فرجٌ غير محتسب، مشبّها ذلك بحلّ العقال لسهولته.
ويقول الشّاعر المسيحيّ خليل بن ناصيف اليازجي:
الصّبرُ إذ تقعُ المصيبـــةُ أوجـــــبُ  *  والحزنُ قبل وقوع ذلك أصـــــوبُ
وعلامَ يَبكي الفاقــدون فقيدَهــــــــم  *  هَل كانَ ذلـك غَيرَ مــــــا يُتَرَقَّــــبُ
إنــي إذا أبكـــي لوقــــع مصيبـــــةٍ  *  أبكي على دَمــعٍ سفكـــتُ وأنــــدبُ
وَلَقَد رأَيتُ الصبرَ مرّا طعمُـــــــــهُ  *  لكنّـــــهُ عنـــد الحقيقـــــة يعـــــذبُ
وَلربمَّا عيفَ الدواءُ كراهــــــــــــةً  *  لكن يُنال بِهِ الشفــــــا إذ يُشـــــرَبُ
الصّبر على المصيبة فعلا مرير الطّعم، لأنّ الإنسان في الغالب ميّال إلى فعل بعض الأمور والتّصرّفات التي تهوّن همّه، وتثلج نار قلبه، وهو على مرارته، يشاكل الدّواء الكريه المذاق، لكنّه للأدواء أحسن راق.
وإذا عدنا إلى الشّعراء الذين حوت أشعارهم تناصّا مع هذه الوصيّة، نجد أبا العتاهية، القائل:
اصْبِرْ عَلى نُوَبِ الزَّمَـــا  *  نِ، وَرَيْبِهِ وَتَقَلُّبِــــهْ [28] 
يأمر، هنا، بالصّبر على نائبات الزّمان، وتقلّبه، وريبه، فالصّبر عن تجربة من سبق نافع، ونوره في أقوالهم ساطع. يقول الإمام عليّ كرّم الله وجهه [29]:
إنِّي وجدْتُ وفي الأيام تجربةٌ * للصّبرِ عاقبةً محمودةَ الأثرِ 
وهو ما لمسناه سابقًا في إحدى وصايا لقمان لابنه؛ الذي أمره بالصّبر على المصائب، لأنّ الصّبر ممّا أمر به الله تعالى من الأمور.
4-5) النّهي عن تصعير الخدّ للنّاس:
وذكر هذا الأخطل في هجاء قيس وأحلافها فقال:
إِذَا الأَصْعرُ الجَبَّارُ صَعَّرَ خَــــدَّهُ  *  أَقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّهِ المُتَصَاعِـــــرِ [30] 
 يريد أنّ كلّ من يتكبّر علينا، ويميل بخدّه عنّا، فإنّنا نقاتله حتى يعود إلى سيرته الأولى، وهو دليل قاطع على أنّها صفة دنيئة، والمتحلّي بها أدنى.
يقول لقمان لابنه كما في الآية:«وَلا تُصَاعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ»؛ وتأويل الكلام: ولا تُعْرِض بوجهك عمّن كلّمْتَه تكبّرا واستحقارا لمن تكلّمه، وأصل(الصّعر) داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها، فيشبّه به الرّجل المتكبّر على النّاس [31] .
4-6) النّهي عن المشي في الأرض مرحًا:
الاختيال في المشي من الأمور التي نهى عنها لقمان ابنه في قوله تعالى:«وَلا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور» وهو من الأمور المكروهة منذ الجاهليّة، فها هو حاتم الطّائيّ يقول في أحد الثّقلاء:
يَا مَنْ تَبَرَّمَــــتِ الدُّنْيَـــــا بِطَلْعَتِــــهِ * كَمَــا تَبَرَّمَــتِ الأَجْفَــــانُ بالرَّمَـــــدِ
     يَمْشِي عَلى الأَرْضِ مُخْتَالاً فَأَحْسِبُـهُ * لِبُغْضِ طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبـــــــِدِي [32] 
أما في العصور التي شهدت الإسلام، فنجد من الأشعار التي استقت معنى هذه الوصيّة قول أبي العتاهية:
ألا أيّها البانِي لِغَيْرِ بَلاغِهِ *أَلا لِخَرَابِ الدَّهْرِ أَصْبَحْتَ بَانِيَا
أَلا لِزَوَالِ العُمْرِ أَصْبَحْتَ جَامِعًا * وَأَصْبَحْتَ مُخْتَالاً فَخُورًا مُبَاهِيَا [33] 
بناءٌ دون مرام، وجمعٌ عاقبته إلى الظّلام، هذان المتلازمان يجعلان من المرء متباهيا، ومختالا فخورًا، لأجل أشياء سيحضنها خراب الدّهر ذات يوم، لذا فقد صدق تعالى، إذ وهب لقمان الحكمة، فأوصى ابنه بعدم الفخر والاختيال، وهي وصيّة وجّهها لقمان سالفا لابنه، ووجّهها الله تعالى على مدار الأزمان لعباده.
والمشي الوسط هو القصـــد؛ الذي ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريـــع المفرط، بل العدل الوسط بين بين[34]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قـــال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ»[35]. 
4-7) الأمر بغضّ الصّوت:
أوصى لقمان ابنه بالغضّ من الصّوت، وخفضه إلى مستوى الحاجــــة، حتى لا يكــــون في ذلك سوء أدبٍ، وإساءة للآخرين، فرفعه منكَرٌ كصوت الحمير. وقد ذكر العديد من الشّعراء الصّوت، من بينهم خليل مطران القائل مادحا:
في نُطْقِهِ الدُّرُّ النّفِيسُ وإِنَّمَـــــــــا * تَصْطَادُهُ الأَسْمَاعُ بالإِصْغَـــــــاءِ
  لَكِنَّ ذَاكَ الصَّوْتُ مِنْ خَفْضٍ بِـــه * يَسْمُو الحِفَاظُ بِهِ إلى الجَــــوْزَاءِ [36] 
إنّه معجب بصوت هذا الممدوح، المنخفض الصّوت؛ الذي يلفظ كلامًا كالدّرّ النّفيس، وزاده رِفعة وسموًّا عدم ارتفاعه.
وذكر الجاحظ في البيان والتّبيين قول الحسين بن عرفُطة بن نظلة:
لِيَهْنِيكَ بُغْضٌ في الصّديق وظِنَّـــــةٌ * وتَحْدِيثُكَ الشَّيْءَ الذِي أَنْتَ كَاذِبُــــهْ
وأَنَّكَ مِهْدَاءُ الخَنَا نَطِفُ النَّثَــــــــــا * شَدِيدُ السِّبَابِ ورَافِعُ الصَّوْتِ غَالِبُهْ
     وأَنَّكَ مَشْنُوءٌ إِلى كُلِّ صَاحِـــــــــبٍ * بَلاكَ، ومِثْلُ الشَّرِّ يُكْرَهُ جَانِبُـــــــــهْ [37] 
يقول لهذَا المخاطَب هنيئا لك كره أصدقائك يا من تتّصف بالكذب، يا أيّها الفاحش الملطّخ بالعيوب، إلى أن يصل إلى الصّوت في عجز البيت الثّاني ليعيّره بشدّة سبابه، ورفع صوته، وهذا دليل على دناءة هذه الصّفة للرّجل( كونه المقصود بالذّمّ هنا)، بلْهَ المرأة.
الخاتمة:
أسفر  هذا البحث عن النّتائج التّالية:
1. تحمل الحكمة العديد من المعاني، أشهرها: المعرفة، والإتقان، والمنع.
2. اتّفقت كتب السّير على أنّ لقمان الحكيم كان رجلاً صالحاً ذا عبادة، وعبارة وحكمة عظيمة، والأشهر أنّه ليس نبيًّا، وإنّما وهبه الله الحكمة.
3. وردت وصايا لقمان لابنه في القرآن الكريم بسورة لقمان، من الآية الثانية عشرة، إلى الآية التّاسعة عشرة.
4. استقلّت أحاديث كثيرة من أحاديث النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بذكر وصايا لقمان لابنه.
5. شملت وصايا لقمان لابنه أمورا عقديّة، فأمر ابنه بأشياء، ونهاه عن أخرى؛ نهاه عن الشّرك بالله، ووصّاه بوالديه، مذكّرا له بالأسباب التي تحتّم عليه الشّكر لهما، ومصاحبتهما في الدّنيا معروفا، حتى وإن أمراه بالشّرك الأكبر. أمره بإقامة الصّلاة، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والصّبر على المصاب، ثمّ نهاه عن الكبر وتصعير الخدّ للنّاس، والمشي في الأرض مرحًا، لينهي في الآية الأخيرة بوصيّته المتمثّلة في الأمر بالقصد في المشي، والخفض من الصّوت.
6. تعدّدت مظاهر توظيف هذه الوصايا في الشّعر العربيّ، على اختلاف العصور، والتّوجّهات، وهو ما اصطلحنا عليه بالتّناصّ القرآنيّ.
7. هناك بعض الوصايا لم نعثر عليها في ثنايا الشّعر العربيّ، بدْءًا من صدر الإسلام إلى ما تلاه؛ وعدم التّوظيف لا يعني الخلوّ التّامّ من موضوع الوصيّة، وإنّما لم نعثر على ما يدانيها لفظا ومعنى.
8. إنّ تواجد التّناص في النّصوص الشّعريّة المذكورة، ليس اعتباطاً، وإنّما يكشف الغطاء عن عدّة جوانب؛ منها الخلفية الدّينيّة، والثّقافيّة، والفكريّة للمبدع، إضافة إلى ما يضفيه من محاسن وجماليّات عليها.
الهوامش:
[1] سورة البقرة -الأية 269 
[2] ابن منظور: لسان العرب، ج11، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، دار المعارف، القاهرة، مصر، ص951. مادة(ح.ك.م).
[3] الجوهريّ: الصّحاح: تاج اللّغة وصحاح العربيّة، المجلّد الخامس، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط4، 1990، ص1901. مادّة( ح.ك.م)
[4] ابن دريد: جمهرة اللّغة، ج2، مطبعة مجلس دائرة المعارف، ط1، 1344ه، ص186. مادّة( ح.ك.م)
[5] الزّبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، ج31، تحقيق: عبد الحليم الطّحاوي، مؤسّسة الكويت للتّقدّم العلميّ، ط1، 2000، ص522. مادّة( ح.ك.م)
[6] ابن كثير: البداية والنّهاية، ج2، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان، 1990، ص123، 124
[7] وردت سيرة لقمان الحكيم في مؤلّفات أخرى، غير أنّنا رأينا أنّ أشملها ما أورده ابن كثير، ومن هذه المؤلّفات نذكر:«ابن قتيبة: المعارف» و«المسعودي: مروج الذّهب، ومعادن الجوهر» و«المقدسي: البدء والتّاريخ.
[8] ناصر بن سليمان العمر: الحكمة، دار الوطن للنّشر، الرّياض، ط1، 1412ه، ص 35.
[9] ينظر: الدّارمي: المسند الجامع، دار البشائر الإسلاميّة، ط1، 2013.
« أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ سَمِعَ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ يَقُولُ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تَعَلَّمْ الْعِلْمَ لِتُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ تُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَتُرَائِيَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ وَلَا تَتْرُكْ الْعِلْمَ زَهَادَةً فِيهِ وَرَغْبَةً فِي الْجَهَالَةِ وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ إِنْ تَكُنْ عَالِمًا يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلًا عَلَّمُوكَ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ فَيُصِيبَكَ بِهَا مَعَهُمْ وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْمًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ إِنْ تَكُنْ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلًا زَادُوكَ غَيًّا أَوْ عِيًّا وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِسَخَطٍ فَيُصِيبَكَ بِهِ مَعَهُمْ»
وينظر أيضا: موطّأ الإمام مالك، ومسند أحمد، وفتح الباري شرح صحيح البخاري...
[10] عمر عبد الواحد: التّعلّق النصّيّ، مقامات الحريري نموذجا، دار الهدى للنشر والطّباعة، ط1،2003، ص 37.
[11] سورة الحج -الأية 26 
[12] محمّد مفتاح: تحليل الخطاب الشّعريّ ــــ استراتيجية  التّناصّ ـــــ ، المركز الثّقافي العربي، ط3، 1992، ص 131.
[13] سورة الحج -الأية 48 
[14] Franck NEVEU : Dictionnaire des sciences du langage̦, Armand ـ Colin, Paris, 2004, P168.
[15] Oswald DUCROT et Tzvetan TODOROV: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Édition du seuil ,1972 ,P444.
[16] سند الحديث وتتمّته: أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى، حدثنا أحمد بن سعيد أخبرنا ابن الأعرابي حدثنا أبو داود حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا معاذ بن هانىء حدثنا جندب بن سواد حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الحميد بن سنان عن عبيد بن عمير عن أبيه أنه حدثه وكانت له صحبة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال: «هن تسع: الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس التي حرم الله، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً».
[17] ابن الرّوميّ: الدّيوان، ج2، شرح: أحمد حسن بسج، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط3، 2002، ص81.
[18] سورة النساء -الأية 36 
[19] سورة الإسراء -الأية 23 
[20] الأعشى: الدّيوان.
[21] محي الدّين إبن عربي: الدّيوان، تقديم: محمّد قجّة، دار الشّرق العربي، بيروت، لبنان، ص106.
[22] سورة الأعراف -الأية 157 
[23] ينظر كتاب: ربيع بن هادي عُمير المدخليّ، وصايا لقمان الحكيم لابنه، دار الميراث النّبويّ، الجزائر، ط1، 2010، ص 10.
[24] تفسير القرطبي( 4/ 47). ينظر: خالد بن عثمان السّبت: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أصوله، وضوابطه، وآدابه، نشر: المنتدى الإسلامي، الشّارقة، ط1، 1995، ص60.
[25] ربيع بن هادي المدخلي: وصايا لقمان الحكيم لابنه، عرض: فواز الجزائري، الجامعة الإسلاميّة، المدينة المنوّرة، ص18. مأخوذ من الموقع الإلكترونيّ:  www.sahab.net/ www.Rabee.net
[26] ابن قيّم الجوزيّة: عدّة الصّابرين، وذخيرة الشّاكرين، دار ابن كثير، دمشق/ بيروت، ط3، 1989، ص 15.
[27]عبد البديع النّيرباني: ديوان المعاني: منتخبات من عيون شعر الحكمة، ص 18.
[28] أبو العتاهية: الدّيوان، دار بيروت للطّباعة والنّشر، بيروت، لبنان، 1986، ص64.
[29]عليّ بن أبي طالب: الدّيوان، تحقيق: محمّد عبد المنعم خفاجي، دار ابن زيدون، مصر، ص70.
[30] الأخطل: الدّيوان، شرح: مهدي محمّد ناصر الدّين، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط2، 1994، ص133.
[31] الطّبري: التّفسير، من كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مجلد: 6، تحقيق: بشّار عوّاد معروف، عصام فارس الحرشاني، مؤسّسة الرّسالة،  بيروت/ سوريا، ط1، 1994، ص 130.
[32] ابن عبد ربّه: العقد الفريد، ج2، تحقيق: مفيد محمّد قميحة، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ص 156.
[33] أبو العتاهية: الدّيوان، ص 484.
[34] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج6، تحقيق: سامي بن محمّد السّلامة، دار طيبة للنّشر والتّوزيع، المملكة العربيّة السّعوديّة، ط2، 1999، ص 339.
[35] أخرجه مسلم برقم(2330)
[36] خليل مطران: الأعمال الشّعريّة الكاملة، المجلّد الأوّل، جمع: أحمد درويش، مؤسّسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشّعريّ، الكويت، ط1، 2010، ص91.
[37] الجاحظ: البيان والتّبيين، ج3، تحقيق: عبد السّلام محمّد هارون، مكتبة الخانجي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، القاهرة، مصر، ط7، 1998، ص 249.