في الصميم

بقلم
لسعد الماجري
حديث جديد في الأزمة : من أجل اٍعادة صياغة تجربة الوحي في التاريخ
 كلمة أزمة في حدّ ذاتها كلمة مقرفة لأنّها تخفي في طياتها موقفــا سلبيــا من وضــع ما أو حادثة ما أو...
نحن نتحدث عن العقل العربي ..هناك من يشير إلى أزمة هذا العقل وأنّه غير متحرّر بما فيه الكفاية وأنّه منغلق وأسير مناهج عقيمة في الفهم سواء تعلّق ذلك بالدّين وفهمه أو بالتفكير العقلاني عموما ووراء ذلك يربض موقف يقزّم العقل ويؤكّد على محدوديته. وهناك أيضا من لا يؤمن أصلا بوجود عقل عربي فضلا عن الحديث عن أزمته ويؤكّد هذا الموقف على غياب العقل العربي فهو عند هؤلاء لم يتشكّل بعد ولم يتّخذ له منحىً أو تمشّيًا واضح المعالم.
والحقيقة أنّ كلا الموقفين له مشروعيته فلا أحد في أوطاننا وفي زماننا هذا راض عن الوضع الذي تعيشه أمّتنا سواء كنّا تقليديين أو معاصرين تقدّميين، فالكلّ متخلّف ومتقدّم، مثقّف وسياسي علمي وتاجر كبير وصغير يقرّ بالوضع الكارثــــي للأمّة العربيّـــة الإسلاميّة ولكن لا يكفي الوقوف عند الإحساس بالمشكـــل رغم أنّ هذا يعتبر بداية ايجابيّـــة ولكن الأهم هو القيام بالتّشخيص الصّحيح لأسباب التقهقر الحضاري، وهنا يتمترس الكثيــر من المحلّلين وراء مواقف جاهزة تتّخذ الدّثار الايديولوجي قالبا يسهل ضمنه تقديم التّشخيص والحلول الجاهزة ويتناسى هؤلاء مركزيّة الإنسان العربي ومخياله الاجتماعـــي ومخزونه الثّقافي الذي يربض حول جاهزيّة الحلّ والأهم إمكانية تطبيقـــه على أرض الواقع.
(1) الموقف الإيديولوجي الأول ينبع من المرجعية الدّينية وهو تحليل يتّسم خاصّة بأنّه أخلاقي، يرى الحلّ جاهزا في التجربة الأولى للخلافة الرّاشدة وفي القرآن دستورا ويرتمي في أحضان التّراث غثّه وسمينه ويتناسى أنّ التّراث متنوّع، فيه العقلاني وفيه الأشعري وفيه المجبرة والمرجئة والشيعة والفرق والنحل، كلّ له فكره ومواقفه التي تتّخذ الحيز الدّيني مجالا لها فلا نفهم أين يصطفّ هؤلاء عندما ينادون بهذا الحلّ دون تبيان أين وفاؤهم التاريخي ثم إنّ القرآن حمّال أوجه ويتطلّب فهما وتأويلا في أكثر الأحيان رغم وضوح مقاصده وآياته فيها المحكم والمتشابه و...
ثم اٍنّ الفهم الأخلاقوي للدّين يكلّسه كحلّ أخلاقي مثالي قد لا ينجح في التّطبيقات إلاّ ضمن تسطير قانوني واضح...الخ. ويتناسى القائلون بالرجوع إلى الماضي أنّ الإسلام ليس وراءنا بل يسبقنا دائما بأجيال كونه يبعث يوم القيامة بكرا أي لم ننجح في فهمه الفهم الذي يليق به...
 (2) موقف قومي يتكلّس وراء تشخيص شعبوي للمشكل، فيرى في الوحدة الحلّ ويتناسى جهلا أن تعقّد نوعيّة الإنسان العربي بعدما صاغته الأنظمة الإقليميّة سنوات بعد حركات التّحرير من الاستعمار جعلت هذا الإنسان العربي يضيع في الزّحام، فيختلف الجزائري عن التونسي وعن المصري وعن الليبي...الخ، فالوحدة في هذا الوضع تصبح تجميعا بضائعيّا يفتقد للعقلانيّة ويكاثر المشاكل التي هي أصلا كثيرة في حين يمكن أن نحلم بإتحاد لا بوحدة. إضافة لهذا، يحقّ لنا أن نتساءل ضمن أيّ فكر وأي توجّه ورؤية نتّحد؟؟؟
(3) الموقف اليساري الذي يتكلّس حول مسألة الصّراع الاجتماعي الطبقي، هذا الموقف يرجع كل الأمور إلى التشاحن الاقتصادي والحقد الطبقي ..وهو موقف يسبّق الهدم على البناء
هذه المواقف الايديولوجية الثلاثة الكبرى هي التي سادت لفترات طويلة ومازالت تسود حتّى بعد ثورات الربيع العربي، سواء في الحكم أو في المعارضة وساهمت في أزمة تخلّف العقل العربي، فلم تنجح في صياغة مشروع حقيقي واقعي للأمة وأهدرت طاقات وسنوات من دون تشكيل بداية الحلّ. وزاد توسّع المشروع الصهيوني المعادي للأمة الطّين بلّة، فلا نحن نجحنا في بناء وصياغة مشروع للعقل العربي ولا نحن حاصرنا المشروع المعادي.
اٍنّ أهمّ مرجعيّة يمكن اٍعادة استثمارها من جديد هي المرجعية الدّينية كونها تنبني على الوحي. فكيف يمكننا الاستفادة من تجربة الوحي الأولى؟ كيف يمكننا أن نتنازل بسهولة عن الخوض في غمار تجربة رقي روحي بالاكتفاء بتجربة الوحي الأولى؟ هل أنّ انقطاع الوحي بعد ختم النّبوة يعني اكتمال الفكر الإنساني وعدم حاجته للوحي؟ 
في غمار الصّراع الاجتماعي والتّقدم المدني وغياب الأسس الإنسانية للحضارة العالميّة التي يؤسّس لها من حولنا دون استشارة أحد والتي تلقي بظلالها الرّهيبة على البعد الإنساني للحضارة وللعولمة، لا بدّ لنا نحن المسلمين والعرب أن نعيد النظر في تجربة الوحي الذي كان له الدور الرّيادي في صياغة ماضينا واندفع رغما عنّا في صياغة حاضرنا وربّما مستقبلنا. لأنّ التجربة الرّوحية في جوهرها تجربة انفتاح الأنا على المعنى الباطني للوجود كلّه ولأن هذا الانفتاح مرهون بالقدرة على التواصل بين الأنا والكون الذي تعتبر التجربة جزء منه، فمن الطبيعي أن تمثل التّجربة الرّوحية تجربة موازية لتجربة الوحي النّبوي. الفارق بين تجربة النّبي وتجربة العارف الباحث عن الأنسنة أنّ التّجربة الأولى تتضمّن الإتيان بتشريع جديد بينما يكون فهم الوحي النّبوي بالاتّصال بنفس المصدر هو مهمّة العارف في التّجربة الرّوحية الإنسانية. هذا التشابه بين التّجربتين يؤسّس تشابها لغويا. فكلام الله الموحى للرّسل يكشف ويصرح عن أشياء من ناحية ويومئ ويخفي من ناحية أخرى. إنّه يكشف ويصرّح بما هو خطاب للناس كافة وذلك بحكم تفاوت مستويات عقول الناس وافها مهم. لكنه يومئ ويعرض بما هو خطاب قابل دائما لانفتاح المعنى في الزمان والمكان.  فما هو مفهوم الكلام الالهي جوهر الوحي؟ لعلّ هذا الكلام يمثلّ في حدّ ذاته لغزا محيّرا للعقول والإفهام : 
تمكّن الأشاعرة من صياغة فهم ايجابي لكلام الله عندما ميّزوا في بنية الخطاب الإلهي بين الكلام الأزلي القديم أو الكلام النفسي الذي هو صفة الذّات الإلهية وبين «التلاوة الإنسانية للوحي» التي تتّصف بالحدوث. ثمّ قام الفلاسفة المتصوّفون بتطوير هذا المفهوم فميّزوا بين البعد الإلهي للغة الخطاب الإلهي وبين بعدها الإنساني. تتجلّى اللّغة الإلهية عند هؤلاء في الوجود كلّه بدون استثناء، فهي ليست محصورة في إطار النصّ القرآني. إنّها تتجلّى في الوجود برمّته لأنّ هذا الوجود هو كلمات الله المسطورة في الآفاق : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1) بينما يكون القرآن هو كلمات الله المسطورة في المصحف بين دفتي كتاب. وكما أنّ كلمات الله الوجودية لا يمكن حصرها ولا تنفد «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» (2) فكلمات القرآن المعدودة والمحصاة في ذاتها تشير إلى معاني ودلالات وجودية لا تنفد أيضا. وهكذا تكون تأويلات المتصوّفة للقرآن نابعة من فهمهم للإشارات المتضمّنة في العبارات. ومن هنا تكون تجربة العارف الباحث عن الحقيقة متمثّلة في قدرته على النفاذ من «ظاهر» اللّغة الوضعيّة إلى «باطن» اللّغة الإلهيّة في بنية الخطاب. أمّا الفقهاء وأهل الرّسوم والشّريعة، فيعجزون عن فهم ذلك بسبب عكوفهم وانحباسهم في مستوى التّجربة الدّينية العادية واستغراقهم في مستوى الدّلالة الظّاهرة والوضعيّة للغة البشريّة دون الولوج إلى باطن وعمق الدّلالات والمعاني الكامنة في بطون اللّغة ضمن تجربة الكشف الصّوفي والمعراج الإنساني.
لا بدّ لنا اليوم من اٍعادة استثمار تجربة الوحي أكثر من استثمار الوحي ذاته ككلمات قد لا نفهم معناها وقد نسقط في أحابيل الصّراع حول تأويلاتها بينما تكون تجربة الوحي تجربة ثريّة تستحقّ عناء المرور بها ضمن مشروع أنسي يقحم الأمّة في الفعل الحضاري ويخرج بها من سباتها العميق الذي طال قرونا من أجل تأسيس حياة جديدة نابعة من الوحي كمعاني ومقاصد لا كألفاظ فضفاضة لا نتقن جوهر معانيها. 
يجدر بأمة الوحي أن تتصالح مع الوحي باٍعادة صياغة تجربة روحية انسانيّة لا تتصارع مع الواقع بل تتصالح معه وتعيد تصريف معاني الوحي الشّاملة والإنسانية والخيّرة المتضمّنة في معانيه الرّاقية فيكون بذلك عصرا جديدا يدخل فيه الوحي داخل التّاريخ وتتجدّد معانيه بالتّجربة الرّوحية الإنسانيّة للعارف الباحث عن الحقيقة لا المتخمّر في ديباجة الشّريعة. 
الهوامش
(1) سورة فصّلت - الآية 53
(2) سورة الكهف - الآية 109