قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
فصل عجيب
 (1)
يأتي الصيف ضيفا كل عام فيكون ثقيلا على البعض خفيفا على البعض الآخر. من يجد للّهو والدّعة والرّاحة سبيلا يقول عن الصّيف نعم الضّيف، ومن لا يستطيع مكابدة طقسه الحار ومصاريفه الباهظة يثقل عليه الفصل ويعدّ أيامه عدّا.
في الصّيف تموت السّياسة أو تكاد، فلا تجد للنّاس اهتماما بالشّأن العام، وقد اعتادت الأنظمة المستبدة أن تستغلّ فصل الصّيف لتمرير القرارات والسّياسات التى تخشى من تمريرها في فصل آخر، كالزّيادة في الأسعار أو إجراء الانتخابات أو غيرها ممّا لا تأمن معه ردّ الفعل الغاضب أو المدمّر أحيانا.
وليس لموت السّياسة في فصل الصّيف من تفسير منطقي، إذ المفترض أنّ الشّأن العام مدار للاهتمام الدّائم ما دام شأنا يهمّ النّاس في حياتهم، وبعض هذا الشّأن من الأهمّية بمكان. وقد يكون السّبب في ذلك هو انصراف النّاس إلى الاهتمام بالشّأن الخاصّ كالزّفاف وإقامة الحفلات، أو السهر والفسحة، أو السّفر والتّرحال بغاية الزّيارة والتّرفيه عن النفس، أو غير ذلك من الشّؤون التى لا تستقيم إلاّ في الصّيف. وقد يكون السّبب هو الملل من الانصراف إلى شأن كان مدار اهتمام دائم طوال بقيّة الفصول حتّى أصبح مملاّ باعثا على التّأفف واللاّمبالاة خاصّة مع الصّعوبات البالغة التى تعيشها مجتمعاتنا فى كلّ المجالات، فهل ستظلّ هذه الظّاهرة متزامنة مع فصل الصّيف تأتي معه إذا أتي أم أنّها ظاهرة عابرة سرعان ما تنتهي حين تعود للنّاس ثقتهم في السّياسة والسياسيين ويدركون أنّ الشّأن العام إنّما هو شأنهم لا يغنيهم عنه أيّ شأن خاصّ مهما كانت أهمّيته.
(2)
فصل الصّيف هو فصل الأفراح والمسرّات، وفي هذا الفصل يقيم النّاس حفلات الزّواج كلّ حسب قدرته في الإنفاق، فمنهم من يقيم الولائم ويذبح الذّبائح ويأتي بالمغنّيين والموسيقيين من كلّ لون ويسعي فوق طاقته لإقامة حفل للزّواج يكون مدار إعجاب ومثالا في الحي أو القرية أو المدينة، ومنهم من يذهب في الاحتفال مذهبا في الزّهد والتّقشف، فيكون احتفاله بسيطا في حدّه الأدني . ولقد كان الصّيف حقّا فصلا للفرح والمسرّة، فهل ما زال هذا الفصل كما كان أم تغيّر الأمر؟
لا شكّ أنّ الأمر تغيّر فما عادت إقامة الزّيجات أمرا هيّنا وإنّما صارت مجلبة للغمّ من كثرة ما اصبحت تقتضيه من مصاريف باهضة تزداد من عام لآخر. لقد تغيّرت العادات وأنماط الاحتفال وطرقه ودخلت على العادات القديمة أخرى جديدة ليست من تقاليدنا ولكنّها فُرضت علينا بعد أن تغيّرنمط حياتنا الشّرقي إلى آخر غربي فى الأكل واللّباس والمراسم وغيرذلك من مقتضيات الاحتفال. « الوليمة ولو بشاة» و«التماس خاتم من حديد» و«الظّفر بذات الدّين» و«من نرضى خلقه ودينه»، لم تعد كما كانت من قبل من أوليّاتنا وإنّما استبدلناها بالتّفاخر في شكل الاحتفال ومظهر العروسين ومكان الحفل وقيمة الوليمة وزينة الحفل وغير ذلك ممّا أثقلنا به على أنفسنا وزدنا به الأمر شدّة على شدّة حتّى أصبح الزّواج عسيرا أيّما عسر وقلّ بذلك عدد المتزوّجين ولم يعد فصل الصيف فصل أفراح وإنّما صار فصل إنهاك للجيوب والقلوب. 
(3)
ليس من العسير رصد بعض الظّواهر التي تهدّد المجتمع فى العمق، إذ أصبح بعضها يُلاحَظ بيسر ودون الحاجة إلى إحصائيّات رسميّة أو دراسات ميدانيّة، ولعلّ من أبرز هذه الظّواهر ظاهرتي العنوسة عند النّساء وتأخّر سنّ الزّواج عند الرّجال. لم تعد هاتان الظّاهرتان خافيتان بل صارتا حقّا تهدّدان المجتمع أيّما تهديد، فظاهرة العنوسة مثلا تكاد تصل إلى أرقام مفزعة إذ تتجاوز نسبتها في بعض المجتمعات نسبة السّتين في المائة وهي نسبة تهدّد المجتمع في نسيجه الاجتماعي والنفسي وحتّى الأخلاقي. 
إنّ حاجة المجتمعات للتّجدّد لا تتمّ إلاّ من خلال بناء أسر جديدة وإنجاب أطفال بالعدد الذي يضمن تجدّدها بين حين وحين في دورة طبيعية، فاذا أصبح أكثر من نصف النّساء مهدّدا بالبقاء دون زواج، فإنّ دورة الخصوبة داخل هذا المجتمع سوف تكون في حدّها الأدني خاصّة مع تأخّر سنّ الزّواج عند الرّجال والغلوّ فى تحديد النّسل بدل تنظيمه. 
إن ظاهرة العنوسة لا تتعلّق فقط بحرمان المرأة من حقّها الطبيعي فى الزّواج والمتعة الجنسيّة وإنجاب الأطفال والتمتع بإحساس الأمومة والمشاركة الطبيعيّة في تجديد المجتمع بالتّوازي التّام مع الدّورة الطبيعيّة لحياة أي فرد من النّشأة إلى الفناء. إنّ هذه الظّاهرة تلامس وجدان المرأة وكيانها النفسي، ولذلك فإنّه كلّما تقدّم العمر بأيّ امرأة ولم تتزوّج، كلّما كانت وطأة الحرمان النفسي والجنسي أشدّ على نفسها، إنّها ستشعر حتما مع تقدّم العمر بنوع من الذّبول والتّلاشي تستوي معه الحياة مع عدمها ممّا يهدّد كيانها النّفسي والعصبي بأمراض كثيرة لعلّ أهمها الاكتآب  وانفصام الشّخصية والخوف المرضي.
كلّما حل فصل الصّيف كلّما أثار في نفوس الباقين بلا زواج شجونا كثيرة، ولا يختلف فى ذلك الذّكور عن الإناث، بل إنّ الإحساس بالغبن وضياع الفرص وقلّة الحيل سيكون هو نفسه عند الطرفين. وثمّة مجتمعات لا تعير هذه الظّواهر أي اهتمام ولا تعمل على معالجتها لا صيفا ولا شتاء، بل إنّ بعضها يذهب مذهبا فى الغلوّ فلا يعدّها مدعاة للاهتمام، فهي عنده أشدّ التصاقا بمجتمعات الشّرق من مجتمعات الغرب وبثقافة المسلمين ودينهم  وما يدعو إليه من كبت وهي بالتالي أمر شخصيّ يرتبط ارتباطا وثيقا بالثّقافة وليس بالاجتماع.
الصّيف ضيف ولكنّه يميت السّياسة ويحفر عميقا فى النّفوس، فيكاد يقتل بعضها كمدا، فياله من فصل عجيب.