شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
البشير التركي عالم الذرّة المغبون في أهله
 هو أحد رجالات تونس في القرن العشرين ومهندس ودكتور من أكبر علماء الذرّة في العالم اختار العودة إلى بلده ليحاول المساعدة في بناء دولة ما بعد الاستقلال لكنّه وجد صدّا كبيرا وعراقيل جمّة. إنّه الدكتور العلّامة عالم الفيزياء النووية «البشير التركي» الذي وهب نصف قرن من عمره في إدارة مشاريع تنموية وفي الدراسات وخدمة البحث العلمي بالتأليف والإشراف عن المنشورات الفكرية والعلمية.
ولد «البشير» بن محمد بن مصطفى بن الحاج علي بن مصطفى التركي العجمي، في مدينة المهدية في 21 مارس 1931. تابع دراساته الثانوية في المدرسة الصادقية بتونس العاصمة وأحرز على شهادتها عام 1949 وعلى شهادة الباكالوريا عام 1950. ثمّ انتقل بعد ذلك إلى فرنسا حيث أحرز على إجازتين في الرياضيات والفيزياء من جامعة تولوز عام 1954 وعلى شهادة مهندس من المدرسة القومية للمهندسين بتولوز عام 1956، وعلى الدكتوراه في العلوم (فيزياء نووية) بجامعة باريس عام 1959. وقد تقلّد خلال الفترة ما بين 1956 و 1959 عدّة مناصب منها منصب المساعد لرئيس المؤسسة الفرنسية للطاقة الذرية وعمل في المعهد القومي للبحوث النووية في صاكلي بفرنسا وفي المركز الأوروبي للبحوث النووية في جنيف.
لم تخل تونس من جموع غفيرة من المهندسين والعلماء والبحاثين الذين اختاروا بحسرة البقاء في الخارج وعدم العودة إلى تونس لكنّ الدكتور البشير خيّر في أكتوبر 1959 العودة طوعا بسرعة إلى البلاد التي كانت تفتقد إلى مؤسسات بحثية وعلميّة جامعيّة لتقديم الإضافة، فكان من المؤسسين للجامعة التونسية وأوّل من درّس فيها غير أنه سرعان ما فصل من عمله بدون سبب ظاهر. ورغم ذلك كان يطالب بانشاء اكاديمية تونسية للعلوم تكون قاطرة لتنمية البلاد وتطويرها وتلبية احتياجاتها لكنّ بدون جدوى. فغادر التركي البلاد في اتجاه النمسا ليلتحق بالوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا سنة 1962، ثم عاد إلى تونس بطلب من رئاسة الجمهوريّة  ليقوم بتكوين المؤسسة التونسية للطاقة الذرية ومركز تونس قرطاج للبحوث النووية السلمية، وتقديم مشروع متكامل لمولد للطاقة الذرية في تونس يتم استغلاله في عملية تحلية للمياه المالحة للحصول على 150 ألف متر مكعب من المياه العذبة يوميا وتوفير طاقة بواسطة المفاعل النووي بقوة 75 ميجاوات وقد تقدّم بالملف إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شهر مارس 1963 قصد مساعدته في إنشاء هذا المشروع السلمي الإنساني لكنه قوبل بالمماطلة فرجع إلى الوطن ثم اتجه للسوفيت في جوان 1963 وقد قابله المسؤولون (منهم رئيس مجلس الدوما ومدير الوكالة السوفيتية للطاقة الذرية إيميليانوف) بالترحاب وبتمويل المشروع برمّته مجانا بغية اكتساب المهندسين السوفيت الخبرة في هذا الميدان وبسبب العراقيل السياسية من طرف بعض الفاعلين في الساحة التونسية المرتبطة بالخارج أجهض مشروع بناء المفاعل في تونس برمّته. . وفي العام 1963 انتخب التركي بالإجماع رئيسا لمركز تطبيق النظائر المشعة للدول العربية في الدقي بالقاهرة، ودرّس فيه لطلبة وافدين من مختلف الدول العربية. وساهم في تأسيس مركز تِرْياست للفيزياء النظرية بإيطاليا..
انتخب الدكتور التركي سنة 1966 نائبا لرئيس مجلس المحافظين بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفي عام 1968 أسندت إليه رئاسة المؤتمر العالمي بمدريد لإصلاح الماء بالطاقة الذرية. وتوّج مساره في عام 1969 بانتخابه رئيسا للوكالة الدولية للطاقة الذرية رغم معارضة ممثلي تونس. وفي أكتوبر من نفس السنة تم فصل الدكتور البشير التركي بتونس عن نشاطه العلمي وفوجئ بإلغاء مشروع مركز البحوث النووية وإبعاد خبراء المركز وتفريقهم في مصالح أخرى مع حرق ملفات المركز ومعداته الالكترونية، وهو ما اعتبره في تعليق له بالكتاب الذي ألّفه موثقا لتلك الفترة بـ «حرب إبادة للبحث العلمي نشبت بالبلاد» . 
اتجه مسار الدكتور بشير التركي العلمي في السبعينات والثمانينات إلى البعد العربي، حيث عُيّن رئيسا مديرا عاما للمؤسسة الليبية للطاقة الذرية ليؤسس مركز «تاجورة» للبحوث النووية سنة 1973. وفي سنة 1976 أسس مخبريْ الطاقة النووية والطاقة الشمسية في جامعة عنابة بالجزائر، كما شارك سنة 1981 في إنشاء الدكتوراه في الطاقة في جامعة قسنطينة بالجزائر، إضافة إلى تدخله لدى الخارجية الفرنسية لبيع العراق المفاعل النووي السلمي الفرنسي «أوزيريس».
عانى الدكتور من الظلم والتضييق في عهد بورقيبة وتعرض لمحاولات اغتيال عديدة بالخارج وإلى اقتحام منزله في تونس أكثر من مرّة، ورشه بغاز منوّم، وتخريبه ومحاولة إحراقه. بالإضافة إلى فصله عن عمله عدة مرات بدون سبب. 
عرف البشير التركي بايمانه الديني العميق والنقي وكان مولعا بتطوير الفكر الديني حتّى يتلاءم مع الاكتشافات العلمية ومن هذا المنطلق اسس سنة 1960 رفقة ثلة من زملائه مجلة «التجديد» وتولى أمانة مالها. ثمّ مجلّة «العلم والإيمان» التي أصدر منها حوالي 100 عدد.  ونشر الدكتور «التركي» حوالي 100 دراسة علمية و كتاب علمي من بينها: «آدم» و«لله العلم» و«طاقة الأرض الحرارية» و« الطاقة الخضراء» و«الجهاد لتحرير البلاد وتشريف العباد». وفي هذا الكتاب تحدث «التركي» عن أسرار هامة بخصوص مشاريع نووية تم إجهاضها في العهد البورقيبي، كما وجه الاتهام إلى مسؤولين سابقين بالقيام بأعمال إجرامية ضد الدولة وضد الإنسانية، فقد منعوا حسب قوله أن يُرفع علم تونس في المحافل الدولية، ونسفوا المؤسسات العلمية واعتدوا على العلماء والخبراء بفصلهم ظلما من عملهم، وأحرقوا الملفات والمعدات. 
بعد سيرة زاخرة بالأمجاد والإبداعات العلميّة توفّي الدكتور البشير بالمهدية يوم 14 أوت 2009 ورحل إلى الرفيق الأعلى لكنّ قصّته بقيت شاهدا حيّا على معاناة العلماء والمتعلمين في أمّة «إقرأ».