قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة يوسف عليه السلام (الحلقة الأولى)
 مقدمة قصيرة
 قصّة «يوسف» هي القصّة الطويلة الوحيدة التي تمحّضت لها سورة كاملة وهي سورة مكّية، وظيفتها كأخواتها زرع الإيمان وتثبيت آخر نبيّ عليه السّلام ومن معه من أعضاء الجمعيّة التّأسيسية الأولى لأمّة الإسلام، إذ أنّ طبيعة التّحديات وجنس الإبتلاءات واحدة ولكن تتعدّد الصّور وتختلف الأشكال. هو يوسف إبن يعقوب ـ وهو إسرائيل ـ إبن إسحاق إبن إبراهيم عليهم السّلام جميعا وكان آخر نبيّ عليه السّلام يقول عنه : «هو الكريم إبن الكريم إبن الكريم إبن الكريم». شجرة نبوّة مغداقة أنبتها سبحانه لتكون ظلاّ وارفا  لبني إسرائيل الذين خصّهم بكلّ الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم عدا صالحًا وهودًا وشعيباً ويونس ومحمدًا عليهم السّلام جميعا ولكنّهم آثروا الفسوق غالبا. 
عنوان القصة هو : ما خُلق الإنسان إلاّ لأجل عمارة الأرض بالخير والحقّ ودونه ودون ذلك عراقيل وعقابيل من كلّ صوب وحدب، منها ما يوصم بالخير كالحكم في هذه القصّة، ومنها ما يوصم بالشر كما سيرد هنا إن شاء الله. فإذا كان ذلك كذلك فإن يوسف الكريم على ربه لم يكن لينجو من ضريبة الإبتلاء وإختراق الصعوبات فإما أن يصمد في مختلف الجولات فيصطفى ويكون مثالا حيا نابضا للإنسان من بعده وإما أن يخفق فيكون المثل السيئ. 
تلك هي حكمة القصة العظمى : الإنسان محط إبتلاء وحقل إمتحان لأنه يعدّ للآخرة فلا يلج الآخرة إلا وهو يحمل جواز سفره إليها موقعا بيديه بعد أن يكون قد تأهل إما للجنة بعمله أو للنار بعمله ومظلة الرحمان من فوقه تسيّره حيث شاء هو
يوسف في إمتحان الحسد العائلي
ليوسف عليه السلام أحد عشر أخا واحد منهم فحسب هو شقيقه شقة كاملة وهو ـ أي يوسف ـ أصغرهم سنا وعادة ما يكون من في مكانه أدنى إلى قلب أبيه لإجتماع السببين : غياب الأم وصغر السّن وربّما كانت فيه صفات أخرى جعلته كذلك. والإنسان لا يملك قلبه ليكون علبة فارغة يملأها بما يريد ويفرغها ممّا يريد ولكن يملك تصريف عاطفة قلبه تصريفا حسنا أو سيئا والعدل المطلق قلبا وقالبا في هذه الدنيا أحلام شعراء، ولكن هناك للتوازن مجال وهذا نفسه محط إبتلاء. 
بدأت القصة برواية رؤيا. والرؤيا من جنس الحيلة ـ وهما معا من جنس إسم بطل القصّة ـ ومن المؤكد أن يجمع هذا في آخر حلقات هذه القصّة بإذنه سبحانه. هي سورة الحيل و الرّؤى ولندع هذا إلى مكانه. هذه المكانة التي إحتلها «يوسف» غنما على رغم غياب الأمّ وصغر السّن حفّرت في صدور الإخوة أخاديد الحسد الذي أخبر عنه عليه السّلام أنّه يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب. والحسد أجود مثال على أولوية القلب على الجارحة في فقه التّدين. حسد وصل إلى حدّ التّآمر بالقتل على أخ لا جريرة له عدا ما اختارت له الأقدار من يتم وصغر. وعندما يحتلّ الحسد البغيض فؤادا إلى هذا الحدّ فإنّ الشّيطان يكون مثل مهاجم سديد سريع، تخلّص من ربقة الدّفاع في الفريق المنافس وأهديت له الكرة، فكان وجها لوجه مع الحارس المنافس في منطقة الخطر. فهو الهدف المحقّق. وجد الأخ الشّقيق ليوسف نفسه وحيدا في خصومة مع عشرة من الأخوة الذين صمّموا على قتل يوسف بعدما نجحوا في مراودة أبيهم عنه. 
هي سورة المراودات والحيل. كلّ طرف يتوسّل إلى وطره هنا بالحيلة، فهي حرب ذكاء حامية الوطيس كما مرّ بنا في قصّة بلقيس مع سليمان عليه السّلام. الذّئب بطل فيها والقميص كذلك. ذلك القميص الذي سيغطي القصّة كلّها من أوّل جولة مؤلمة فيها حتّى آخر جولة ملؤها اليسر. قميص نشأ ملوّثا بدم كذب ثم كاد أن يتلوّث بمنيّ كذب وظلّ القميص حيّا ـ في رمزيّته وليس في عينه ـ حتّى تحوّل إلى بشارة تلقح بها الرّياح مآقي أعمتها السّنون العجاف الطويلة لوالد كبير أدهش الصبر وغالب مسلسل الحيل والمراودات التي تهيمن على قصّة إبنه الصّغير المحسود. لكلّ أولئك الأبطال في القصّة مكان في هذه السّلسلة بحوله سبحانه.
العبرة الأولى:
للحسد البغيض بديل إسمه العمل
غريزة الحسد فينا لا بدّ منها لإكتمال مشهد الإبتلاء، إذ لولاها لصارت الحياة رتيبة وللرّتابة ضناء لا يحتمل. نحن نضجر من الإبتلاء بالشّر ولو علمنا أنّ الإبتلاء هو المادّة الرّئيسة الوحيدة في رحلة الحياة وامتحان الدّنيا، لواجهنا الإبتلاء بما يناسبه. بل دعني أستعير كلمات الرّجال الذين فقهوا بحقّ عقيدة القضاء والقدر بدءا من الفاروق حتّى محمد إقبال مرورا بعبد القادر الجيلاني وإبن القيم، إذ تواضعوا بصيغ متقاربة على أنّ لله أقدارا سيئة نحاربها ـ هكذا كتبوا بالحرف ـ بأقدار حسنة. 
لا بدّ من غريزة الحسد فينا لأنّها تدفعنا إلى العمل ولكن على طريق العمل يتفرّق النّاس : فمنهم من يحجزه الحسد عن العمل فينكص ويكيل في صدره البغضاء والكراهية للنّاجح المحسود حتّى ينفجر صدره كمن يفجّر نفسه اليوم خارج الأرض الفلسطينيّة المحتلة، فهو لا أرضَ قطعَ ولا ظهرَ أبقى. والحسد المنكور قنبلة حارقة تعتمل في الصدور تؤجّجها النّيران، فإمّا أن تنفجر عملا نافعا صالحا وإمّا أن ينفجر بها الصّدر الحاسد نكاية . ومنهم من يفقه أنّ الحسد الذي دفعه إلى العمل سمّاه سيّد النّاس ـ محمد عليه السّلام ـ حسدا نافعا إيجابيّا، فصاحبه يحسد العمل وليس يحسد العامل ومن يحسد العمل يعمل مثله ومن يحسد العامل يموت كمدا وغيظا. ألم يقل عليه السّلام: «لا حسد إلاّ في إثنتين : رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه سرّا وجهرا» الحسد إذن غريزة ضرورية للحياة بقانونها الأعظم أي قانون الإبتــلاء والتّمحيص ولكن يختلف النّاس في تصريف الحسد. هل يتوجّهون به إلى العمل أو إلى العامل. عندما يثمر الحسد تنافسا ومسارعة ومسابقة فهو حسد إسلامي مقبول وحركات التّنافس والمسارعة والمسابقة حفل بها الكتاب العظيم.
العبرة الثانية:
عند تعذر التّغيير الجذري فإنّ التّغيير الجزئي مطلوب
 كلّما أوغلت في دراسة  القرآن إلاّ ظفرت بأنّ  أكثر دروسه وعبره في قصصه أوّلا. وأنّها منتظمة في عقد واحد تتكرّر في سياقات مختلفة ثانيا. وأنها تلامس فقه الحياة موازنة بين المصالح بعضها مع بعض أو بين المفاسد بعضها مع بعض ثالثا. شقيق يوسف عمل على إثناء إخوته عن قتله فلمّا فشل في عمله ـ وحقّ له وهو وحيد في مواجهة عشرة منهم تربطهم عصبة الأخوة الأشقّاء ـ لم يستسلم بإسم كاذب نبرّر به نحن اليوم هزائمنا ( القضاء والقدر) بل تحيّز إلى خطّة أخرى تحول دون القتل ولكن لا تصادم الخطّة الجماعية بالكلّية. ولذلك اقترح عليهم أن يستبدلوا تغييبه في جبّ بقتله. معلوم أنّ المقتول لن يعود وما دون القتل يمكن جبره. ولذلك يبدو أنّه لم ينبّه أباه إلى الخطّة من بعدما إطمأن إلى أنّ الإخوة الأعداء رحّبوا بفكرته أي التّغييب بدل القتل. 
منّا اليوم أناس يصدعون الرّؤوس بالتّغيير الجذري والإصلاح الكلّي وإعلان الحرب على كلّ أحد وكلّ شيء وكأنّ الأرض إرث لهم وليس فيها سواهم وهم أضعف من الضّعف. يغرون بهذا الكلام الذي يستقبله الغرّ جذلان الشّباب الذين لا تجربة لهم في الحياة وعندما تنداح الحرّية لمثل هذا الكلام فلا رقيب عليــه، يجد أهل العقل أنفسهم شبه محشورين في زاوية يشار إليهم ببنان الخيانة وارتعاش الأيدي. ولو كان الأغرار في مكانهم من معالجة موازين منخرمة على كل الصّعد وإرث نهكه الفساد نهكا لما وقفوا في غير موقفهم. 
أمّا آن لنا أن نعلم ـ ثم نعمل بهذا العلم ـ أنّ سياسة الثّورة غير سياسة الدّولة وأنّ إدارة المعارضة غير إدارة الحكم وأنّ من خلق هذا الكون بثّ فيه سننا ونواميس وقوانين صارمة مطردة لا ترحم من يخالفها أدنى رحمة بل تقذف به في أتون المواجهات غير مأمونة العواقب أو في الموات في دياجير السلبيّة وهوامش التاريخ والجغرافيا.
العبرة الثالثة:
أكاذيب اللسان الحريرية أضعف من إلهامات الروح الفطرية
كم من واحد حدثك ـ بلسانه أو قلمه أو حركة جسده ـ بما لم يبرح شفاهه وتأبت روحك عن قبوله؟ الإنسان مركّب متعدّد الأبعاد ومنها الأبعاد الرّوحية التي نشعر بها ولا نلمس لها أثرا. منّا من يبالغ في هذا ويحكّمه ليكون الإلهام الرّوحي مصدرا تشريعيّا لعلّه ينسخ التّشريع المحكم وهو ما تورّطت فيه الصّوفية المنحرفة، وليس كلّ الصّوفية منحرفة بل منها مدارس عظيمة في التزكية الرّوحية والتّطهير النفسي سوى أن نشدان الخلاص الفردي عنوان مسيحي لا علاقة له بالإسلام. ومنّا من يعدّ الإلهامات الرّوحية ضربا من ضروب الهرطقة العقليّة أو الزّندقة الفكريّة. وكلاهما شاذّ. 
يعقوب عليه السّلام بسبب من نبوّته علم أنّ رؤيا إبنه الصّغير  لها ما بعدها ولذلك نهاه أن يرويها لإخوته أن يجرّهم الحسد إلى قتله بغير جريرة، فيندمون كما نــدم إبن آدم القاتل لأخيه ولات ساعة مندم. ذلك الرّصيد الإلهامي الرّوحي ليعقوب هو الذي جعله لا يصدّق روايــة الذئب وأنّى لــه أن يصدّق وهو الذي علم قبل ذلك أنّ إبنه هذا سيكون له شأن في هذه الحيــــاة بل أنّى له أن يصدّق والكذبــة الحســدة لم يحكموا نسج الرّوايــة بما يجعلها تصمد. ولا وجود لذئب يفترس غلاما صغيرا يافعا دون أن يمزّق القميــص تمزيقـــا. تلك هي النّفس الأمارة بالسّوء عندما ترســـم الجرائم ظانّة أنّ أجهزة الرّقابة الإلهيّة في غفلة عنهــا لا ترصد لها أثرا ولا تسمع لها ركزا. تلك هي النّفـس البشريّـة عندما تتعالى بذكائها الأحمق ظانّة أنّ ما تغزلـه الألسنة من أحاديث حريريّة منمّقة فيها البكاء وأدوات التّمثيل المسرحـي يمكن أن ينفـــذ إلى الأفئدة. 
في واقعنا اليومي المعيش تمطر بوابل موبول من التّصريحات والأعمال يقوم بها السّياسيون والإعلاميّون ونشطاء الحقل العام، فيمتلئ فؤادك أسى أنّ النّاس يصدّقون ما أنت تكذّبه وليس لك عليه حجّة عدا إلهاما ينبع من رحم قلبك، يطرق عليه طرقا أنّ ما تقرؤه أو تسمعه دونه ودون تلك الأرحام أبواب موصدة. 
لا تخش على النّاس، فما لا تصدّقه أنت لا يصدّقه النّاس ولكنّها دورات الحيــاة تظلّ تتراكم وتترسّب حتّى يؤذن يوما بإنفجارها. هذا هـــو معنى قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إستفت قلبك ولو أفتاك المفتون». هل تظنّ أنّ فتاوى رهبان الخليج وأحبار الكنانة محلّ تصديق عند النّاس؟ أبدا. ولكن لا يخرّ السّقف عليهم حتّى تكتمل شروط المشهد وأركان الخيانة وإنّ غدا لناظره قريب كما قالت العرب.