تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
سي بوراوي والموجة
 توقّف الرّجل، طويل القامة ونحيل الجسم، تبدو ثيابه نظيفة ومتناسقة وتمّ كيّها بعناية شخص ما. يده معلّقة إلى أذنه تحمل هاتفا جوّالا لم يكد يظهر في كفّه من فرط صغر حجمه. بان شيب صدغه وانتشر على خصلات الشّعر التي انسدلت طويلة ملتوية الأطراف. لمّا كانت يده المنشغلة بالهاتف ثابتة خلف جدار الشّيب، كانت الأخرى كثيرة الحركة مضطربة تسأل وتجيب، تتوسّل وتتهدّد وأحيانا تثور، فتضرب الهواء تارة بعنف فتدير الرّجل حول نفسه من فرط تدحرجها واليد الأخرى بما فيها لا تتزحزح عن مكانها حتّى لا تقطع حبل التّواصل مع المخاطب. كان يحاوره بل يعنّفه بغلظة وكلام بذيء يعلو ولا ينخفض. تراجع الرّجل الآتي من طرف الرّصيف النّائي في اتجاه بهو المحطّة يتكاثر نحوه تدريجيّا عدد المسافرين والمسافرات المنتظرين حلول القطار. لمّا اكتشف الرّجل نفسه يقترب من النّاس توقّف واستدار ليواصل مشيه وترنّحه في الاتجاه المعاكس. التقطت منه أنا، من كان أكثر النّاس تطرّفا بعيدا عن ضوضاء البهو، كلّ ما قاله تقريبا من سبّ لنفسه وجلد لذاته، وكم مرّة أعاد لمخاطبه «أنا ما ادعيت الرّجولة. أنا لم أعد رجلا» وأكثر من ذلك بكثير كان يسبّ الآخر عبر الذّبذبات بأبشع النّعوت وأخزى الصّفات وبأقبح الكلام . 
هل يستحقّ من كان على الخطّ كلّ هذا السّخط الذي أنزله عليه؟ وما أصبره على مثل هذه المهانة؟ أ لِنذالة لا يعلمها إلاّ الرّجل أو لأنّه ينتظر خيرا فاستحقّ منه سخطا على قدر طمعه في الخير. ويبدو في كلتا الحالتين ودون شكّ، أنّ الرّجل أكثر من الشّرب لينال من محدّثه ويصيبه برماح خفيّة لا يشحذها إلّا السّكر ويمزّقه بأنياب حادّة وقويّة نسيت خلف ستاري الحشمة والحياء. 
اكتشفت أنّي لا أعرف جيّدا «سي بوراوي» رغم جيرتي له عن قرب منذ أكثر من عقد وتقارب أعمارنا إضافة إلى مجالستي له في عديد المناسبات . كنت لا أراه إلاّ أنيقا وبشوشا يردّ التّحية بأحسن منها منضبطا في عمله الذي يقصده باكرا ولا يعود منه إلاّ بعد الغروب وبعد الثّلث الأوّل من ليل الشّتاء، كما لم أسمعه قبل اليوم ساخطا. لم أتعرّف عليه لمّا كان بعيدا في الطّرف الآخر من الرّصيف، ربّما لأنّني لم أتوقّع المرّة «سي بوراوي» على غير ما عوّدني عليه. ولمّا اقترب منّي لم يستشعر وجودي لانشغاله عن من حوله بالإنصات لسمّاعة الهاتف أو ربّما لنجاحي في تجنّبه لاعتقادي الرّاسخ أنّه قد ينزعج إذا ما رآني على ما هو عليه. وراودني منذ تلك اللّحظة سؤال وتملكتني حيرة. ما الذي دفع بـ «سي بوراوي» الرّجل الرّصين إلى هذا المستوى من الغضب؟ وربّما «سي بوراوي» يعيش انفصاما وازدواجا في شخصيّته وحرص على أن لا يكشف لأحد إلاّ الوجه الذي يستحقّ.
الرّجل على ما أعرفه في العقد الرّابع من عمره مستقيم ومحترم لا يسيء إلى أحد. أتى منذ مدّة ليشغل المسكن المجاور لعطريّة الحيّ أقامه صاحبه على ركن اقتطعه من منشر معصرة الزّيتون بعد أن زال منه النّفع منذ تألية وعصرنة معدّاتها. لمّا حلّ بالمنزل كان يتبعه ابنان حديثا التّمدرس وبنت في حضن أمّها حديثة الفطام مازالت حينها تمصّ إبهامها بشره تواصل لسنوات.
هذه الحادثة لم تبق يتيمة ولا مثلما كنت أعتقد أنّي أتفرّد بمعرفة خفاياها رغم حرصي على كتمانها، بل انتشرت على كلّ من يعرف «سي بوراوي» الذي يبدو أنّ الأزمة التي يعيشها تغلّبت عليه رغم صبره وعدم استسلامه وأنّ المتاعب تفاقمت عليه وأصبح غير قادر على مواصلة التّكتم في معالجتها وأضحى صياحه يبلغنا أحيانا معلنا معاناته، فيرقّ القلب لحاله. 
عشر سنوات منذ أن قدم إلينا «سي بوراوي» وجاورنا. هل هي بالكثرة ما غيّر من طبعه؟ أم هي بالقلّة ما جعلنا لا نعرف حقيقة الطبع الذي لا يتغير؟. هذه تساؤلات كنت أطرحها على نفسي لعليّ أجد لجاري عذرا حفاظا على ماء وجهه ولإنقاذه ممّا أصبح عليه من رذيلة. أو ربّما بدافع الفضول وجدتني أتقرّب إليه وأجالسه كلّما سنحت الفرصة ولا أفوّت مناسبة لمخاطبة أحد أبنيه الذيْن أصبحا شابّين في مقتبل العمر وانشغلا بتغير حال والدهما. وطالت مطاردتي له أشهر حتّى استأنس بي وارتاحت نفسه إليّ. وفي عشيّة حول قوارير بعد أصابع اليد، أسهب صديقي في الحديث عن نفسه دون تكتم وتركت له العنان فلم أقاطعه وأنصتّ إليه يقول: 
«وجدتني منذ زمن قديم في حيّ قديم مثله. فتحت عينيّ على هذه الدّنيا بين جيران تعوّدوا عليّ كما تعوّدت على القريب منهم وعلى الجار الأربعين. لا أحد اختار مولده، فلم اخترهم ولم يختاروني جارا لهم بل ورث كلّ منّا ما غرسه فينا آباؤنا والكلّ من إناء أمّه يغرف. ولكنّ الحقيقة أنّني اليوم لا أملك من إرث أجدادي إلاّ حجرا ومفتاحا على أمل عودتي مع الذين هجرونا قبل أن أهجر أنا نفسي مدينتي. وكم يذكّرني هذا المفتاح بالقضيّة وما يرمز إليه من انتماء فيثير فيّ الشّعور بالغربة بين أناس لم أعرفهم وبقيت لا يعرفونني. المفتاح أعزّ علي ممّا أملك. 
اليوم أعود من بعيد. ويا لهول ما لقيت لمّا كنت على شفا جرف وعلى حرف كدّت أهوي منه في واد سحيق لا قاع له، لولا زوجتي التي لم يفتر عزمها وتشبّثت بي حتّى أخرجتني ممّا كاد يسحقني. لله درّها كم صبرت، والله أشهد كم أحببتها. وأنا اليوم بفضلها أجد نفسي أكثر أمنا وأقرب للاستقرار بعد تيه طويل، كنت كلّما خلصت ساق من وحل الجماعة الأولى غرقت الأخرى في مستنقع الجماعة الثّانية» - توقّف عن الحديث وتفحّص وجهي، فوجدني مشدودا إليه مشدوها. وقرأ في عيني حيرة وكأنّني أسأله عن أيّ جماعة يتحدّث؟ فواصل حديثه بعد أن أحسّ بالاطمئنان لما وجده من اهتمام -«وقعت في تواصل بجماعة أولى عرفوا كيف يجذبونني إليهم وقد ساعدتْهم في ذلك عزلتي التي لا مثلها سقم. استدرجوني بالكلام اللّين وبطاعة الله ورسوله وبالمواظبة على الصّلاة في أوّل الصّفوف، وقرعوا طبلة حسّي أشهر حتّى تيقّنوا أنّني تيقّنت أنّ كل من حولي فاسد ولا نفاذ ولا صلاح إلاّ في ما تراه الجماعة. وكدت والله لولا زوجتي التي كنت أعيد عليها كلّ ما تعرّضت له من دروس وتلقين لجلبها إلى صفّي واستدراجها لإرضاء الجماعة. وكنت أشدّد عليها دون عنف وكانت في كلّ مرّة تهدم في كياني جزءا ممّا بنوا وتبني بيني وبين أبناءها جدارا لم أسطع له نقبا. وكنت أعود إليهم (الجماعة) في كلّ مرّة من حيث انتهينا وعدت إليهم في المرّة الأخيرة من نقطة البداية وانفصلت عنهم ولم يكن الانفصال سهلا حيث لم يقطع حبل المشيمة وأصبحت مهدّدا والكلّ يتوعّدني. فلم يكن لي من بدّ إلاّ أن ألتجئ إلى جماعة أخرى وجدت لديهم عربون حماية مقابل عربون ودّ والتزام بقواعد السّهرة. 
هذه الجماعة الثّانية تخشى الله الذي ابتلى أفرادها بالمعصية، على لسان أحدهم، فلا يبدأ أحدهم الشّرب إلا بالبسملة وإذا شبع وارتوى حمد الله وإذا تجشّأ استغفره. فصرت إليهم أختفي بينهم وأحتمي بهم حتّى يجعل الله لي أمرا. فتلّقيت من معاشرتهم قبيح الكلام وأصبحت مثلهم وأزيد عنهم حتّى أبعد ما بيني وبين الجماعة الأولى.»
ثم سرعان ما استدرك وأضاف «أما اليوم وقد وجدتكم حولي سأحتمي بكم أهلا وعشيرة».
ذكرني كلام «سي بوراوي» بسؤال بسيط وعفوي استوقفني في قصة شيّقة بعنوان «الموجة» للكاتب الأمريكي «تود ستراسير» كما استوقفني الآن وشغلني عن «سي بوراوي» الذي بقي ينتظر منّي تعليقا. هذا السّؤال الذي جاء على لسان أحد الطّلبة وتبنّاه جميع من في الفصل «كيف تغافل الألمان عن جرائم النّازية وكأنّ لا عين رأت ولا أذن سمعت حتّى حصلت الكارثة؟ أزعج هذا السّؤال الأستاذ كما يزعجنا جميعا إذا أسقطنا النّازية على ما حولنا والواقع الذي نعيشه. فالأستاذ الذي عرف في القصّة المذكورة بالجدّية والتّحرّر جعل من هذا السّؤال تحدّيا ليبرز لطلبته الأسباب الحقيقيّة التي خذلت الألمان. وبذكاء أجرى مع طلبته تجربة نجحت في صنع العنف بين جميعهم حتّى تجاوز إطار الفصل لينتقل إلى موجة عارمة شملت كلّ طلبة المعهد وخارجه بل بلغ حدّ الخّروج عن السّيطرة بانسياق الجميع في حركة الموجة بما فيهم الأستاذ نفسه الذي انصهر في الدّور ليصبح قائدا بهلوانا يحرّك بخيوط رفيعة ميليشيات تحوّل رغبته أمرا. صنع الأستاذ من نفسه دكتاتورا ومن حوله مريدين وأزلام التزموا بالانضباط فدفعهم دون أمر إلى الالتزام بنظام خاصّ داخل القسم وفرض التّحية المتّفق عليها داخله وخارج واستقطاب أعضاء جدد ثمّ الالتزام بارتداء الزّي الموحد الخاصّ بالموجة وأخيرا العداء لكلّ من خالف النّظام ومعاقبة. كلّ هذا تمّ دون أن يصدر الأستاذ أوامر بل بوضع قواعد ومدونة سلوك، كان يستسيغها في شكل شعارات أذكر منها ثلاث : قوّة الموجة في قوة الانضباط و قوة الموجة في قوة الجماعة ثم قوة الموجة في قوة الفعل. 
كادت التّجربة تخرج عن السّيطرة لولا الشّابة «لوري» التي بنفس عزم زوجة «سي بوراوي» حذّرت صديقها ووقفت ضدّ التّيار وضدّ أهداف الموجة إلى حدّ تعرّضها للمضايقة والتّهديد ثمّ نجحت في مساعدة الأستاذ في إيقافها والإحاطة بنتائج التّجربة والاستفادة منها في مواجهة الاستبداد. 
هكذا كنت أفكّر وأخذني الكتاب بعيدا عن «سي بوراوي» الذي على استغراب شديد وجدّته منتبها ممسكا بخيوط أفكاري. وليقطع ذهولي تابع يقول : «ليتني كنت أقرأ بما يكفي. وهل يكفي كلّ ما يقرأه مثقفونا؟  مجتمعنا عربي إسلامي لا يتعاط بما يكفي مع الأدب الذي يدين النّازية حتّى لا يؤاخذ بالتّعاطف مع اليهود. ولمّا المجتمعات الغربيّة قرأت جيدا التّاريخ واتّعظت من الدّروس واستبقت لمواجهة الاستبداد، مازالت دولنا تعاني من المجموعات المتطرّفة التي تتوّحد في أساليب الموجة والنّازية.
وهنا، اندهشت أكثر لمّا اكتشفت أني كنت أفكّر بصوت عال. فلم أكترث طالما انشرح وجه «سي بوراوي».