الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
السماء بناء (2 من 2)
 ما هو الكون؟
يتّفق العلماء اليوم على أنّ الكون هو بالتّعريف كلّ ما يوجد ونعرفه الآن أو سنتعرّف عليه مستقبلا. وللتّدقيق فإنّ ما يعتبر موجودا عند العلماء هو ذلك الذي يمكن أن يكون موضوعا للمنهج العلمي وحتّى إن عجزوا على إخضاعه للمقاربة العلميّة، فسيظلّ الجهد النّظري (بناء النّظريات التّفسيرية) والتّقني (بناء الأجهزة القادرة على إخضاع الظّاهرة للقيس) لهؤلاء العلماء منصبّا لأجل ذلك لأنّ أساس العلم الحديث هو البرهان التّجريبي. لا يعني هذا أنّ كل ما لا يكون قابلا للدّراسة العلميّة هو غير موجود، بلى ولكن عند تكوين صورة للكون فإنّنا لا نجد له موقعا فيه.  
الكون طاقة-مادّة وزمن وفضاء فارغ يعجّ بالطّاقة. ربّما يستغرب القارئ من مصطلح فضاء فارغ وملآن بالطّاقة في آن. إنّ الاستغراب في محلّه فصبرا جميلا حتّى تتّضح الصّورة في آخر المقال. وفقا للمعادلة الشّهيرة لاينشتين فإنّ الكتلة والطّاقة وجهان لعملة واحدة. أي يمكن لأيّ جسم أن يتحوّل إلى طاقة محضة وهو ما جرب فعلا وللأسف في جرائم إبادة جماعيّة في «هيروشيما» و«ناكازاكي» المشهورتين. تتوزّع الطّاقة الجملية للكون في ثلاثة أنواع وهي (أ) المادّة العادية، (ب) المادّة المظلمة أو السّوداء و(ج) الطّاقة السّوداء. 
أمّا المّادة العادية فهي التي تتكوّن منها الأجسام التي حولنا ويتكوّن منها جسمنا والأجرام السّماوية مثل الكواكب والنّجوم والسّدم الغازية وغيرها ومعها أيضا، ومن نفس النّوع، الإشعاعات الكهرمغنطيسيّة مثل الضّوء وأشعة الرّاديو وغيرها. النّوع الثّاني هو المادّة السّوداء وهي مادّة غريبة لا تُعرف طبيعتها لكن بفضلها تتماسك المجرّات أي مئات المليارات من النّجوم (كتل نارية متوسّط أقطارها مليون كم ومتوسّط المسافة بينها سنتان ضوئيّتان) وتشكّل بنية ضخمة قطرها يقاس بمئات الآلاف من السّنين الضّوئية. تشترك المادّة السّوداء والمادّة العادية في خاصّية التّجاذب ألثّقالي. فالأجسام المتكوّنة من المادّة العادية (ذرّات) أو السّوداء تتجاذب لبعضها البعض وفق قانون كوني ولا يمكن لها أن تتحرّر منه. ولولا تلك الطّاقة لما أمكن مثلا للمجرّات وهي اللّبنات الأساسيّة للبناء الكوني أن تتماسك. 
ثالث أنواع الطّاقة في الكون اكتشف في آخر القرن الماضي وأطلق عليه اسم الطّاقة السّوداء. لا يعرف العلماء ما طبيعتها لكن أثرها هو الدّال عليها وأثرها هو ممّا لا سبيل لأحاسيسنا وتجاربنا اليوميّة إليه. إنّه تمدّد الفضاء أو توسّع الفضاء وهو مفهوم صعب الإدراك في المطلق وسنعود إليه حتما في إطار مفاهيمي ميّسر لاستيعابه، خاصّة لصلته الممكنة بوضع الميزان. يقدّر العلماء نسب الأنواع الثّلاثة بـ 4.65 %  للمادّة العادية و 23.3 % للمادّة المظلمة و 72.1 % للطّاقة المظلمة. أي أنّ 95 % من طاقة الكون مجهولة الطّبيعة.
كيف تتوزّع الطاّقة في الكون؟ 
تتكّون المادّة العادية من جسيمات أوّليّة تتفاعل مع بعضها لتنتج ذرّات. ترتبط الذّرات لتشكّل جزيئات وتتّحد الجزيئات لتعطي كلّ الأجسام التي نراها سواء على الأرض أو خارجها وهي النّجوم أساسا والسّدم الغازية. تنتظم الأجرام في بُنى متعدّدة. فهناك عدد كبير من النّجوم يشكّل كلّ نجم منه منظومة من الأجسام تدور حوله كالمجموعة الشّمسية مثلا. تتوزّع النّجوم في شكل مجموعات من مئات المليارات تسمّى كل مجموعة مجرّة. ترتبط المجرّات بالعشرات والمئات لتعطي أكداسا عملاقة من المجرّات. تتوزّع الأكداس العملاقة والتي تسمّى أيضا «عناقيد مجرية» في شكل خيوط رقيقة مشكّلة شبكة كونيّة. تتكوّن مادّة الخيوط من المادّة السّوداء التي تلعب دور الحبال التي تربط تلك العناقيد. تحيط خيوط الشّبكة الكونيّة بفراغات هائلة حيث لا يمثل الفضاء الذي تحتلّه المادّة قياسا بالفضاء الكوني شيئا تقريبا.
في بداية القرن العشرين لم يكن الإنسان يعرف أنّ هناك مجرّات خارج مجرّتنا. كما أنّه كان يعتقد أنّ تلك الأعداد الهائلة من المجرّات التي تشكّل النّسيج الكوني تسبح في فضاء أزلي لانهائي. لكن وفي نهاية الثّلاثينات من القرن الماضي اكتشف الإنسان أنّ الفضاء بين الخيوط المجريّة يتمدّد وأنّه بالرّجوع إلى الوراء فإنّ الحسابات تبيّن وبمعاضدة الأرصاد أنّ الكون كان قبل 13,8 مليار سنة نقطة لا حجم لها. 
ومع تراكم البيانات الرّصديّة وتفسيرها بالأدوات الحسابية وبالاستعانة بالحواسيب العملاقة توصّل العقل الحديث إلى تكوين  صورة متكاملة تقريبا عن الكون منذ نشأته إلى الآن نوجزها كما يلي.
 نشأ كوننا من حالة ساخنة ومكثّفة بحجم يقلّ عن حجم ذرّة حيث يعتقد أنّه انبثق من العدم، وفي ظرف ميلي ثوان (جزء من ألف جزء من الثّانية) تضخّم بشكل هائل.  برزت المادّة المظلمة خلال الثّانية الأولى في شكل خيوط ممتدة على مسافات تفوق الخيال. ظهرت المادّة العادية في الدّقائق الثّلاث الأولى وما لبثت أن تجمّعت حول تلك الخيوط مشكلة المجرّات بعد أن سحبتها إليها بفعل جاذبيتها الثّقالية. تلعب المادّة المظلمة دور السّقالة للبناء الكوني حيث مكّنت النّجوم من التّكتل في مجرّات، والمجرّات في عناقيد على مسافات تتمدّد لمليارات السّنين الضّوئية. وتظهر صور المحاكاة كيف تتوزّع المادّة على هيئة عناقيد عملاقة من المجرّات في جزء ضئيل جدّا من الفضاء حيث تمثّل النّقاط السّاطعة المجرّات وقد ارتبطت بخيوط خفيّة من المادّة المعتمة (انظر الصّورة التي تمثّل خلفيّة عنوان المقال). كان الكون يتمدّد منذ خلقه وكان في نفس الوقت وبحكم المادّة العادية والمعتمة يميل إلى الانهيار على ذاته وابتلاع نفسه والعودة إلى العدم باعتبار قوّة الجذب التي تمارسها المادّة على بعضها البعض. ولكن وخلال مليارات السّنين نجحت الطّاقة التي مكّنت المادّة والفضاء أي الكون من الانبثاق في  توسيع الفضاء وكانت خلال تلك الفترة وتيرة التمدّد تتباطأ بتأثير من المادّة. وعندما بلغ الكون من العمر حوالي 8 مليار سنة عاد إلى تسارعه من جديد بسبب قوّة طاردة غامضة سمّيت الطّاقة المظلمة إذ بدأت تضادّ جاذبيّة المادّة.  يعتقد العلماء أنّ الكون متمادّ في تمدّده الآن نحو مستقبل غير معلوم. 
يتمثّل خلق الكون حسب النّظرة العلميّة السّائدة في انبثاق طاقتين من العدم، طاقة المحتوى المادّي (مادّة عادية ومادّة معتّمة) وتبدو وكأنّها مقاومة للخروج إلى الوجود، إذ أنّ خاصّيتها الجوهريّة تتمثّل في جاذبيتها الثّقالية والتي تتجسّد في ميلها الذّاتي للانضغاط إلى ما لا نهاية وتحوّلها مع الفضاء الذي يحتويها إلى نقطة لا حجم لها وذلك حسب ما تخبرنا به النّسبية العامّة، وطاقة معاكسة لذلك الميل  للعودة إلى العدم وهي التي بحكم تغلّبها على الجاذبيّة الثّقاليّة مكّنت الكون من الانبثاق من عدم وهي الطّاقة التي أوحت بمصطلح «الانفجار العظيم». ظهر الكون إذا ولم يكن شيئا أي من لا شيء وكان حجمه غاية في الصّغر وكانت حرارته وكثافته لانهائيّتين ثمّ تمدّد إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن وتلك الصّورة تسمّى النّموذج المعياري أي نموذج «الانفجار العظيم».
عودة إلى الآيات
ما هو حظّ المصطلحات القرآنيّة من كلّ هذا؟ أين البناء وكيف رفع وهل يتوسّع؟ وأين الميزان؟ ألم يعطف الله تعالى وضع الميزان عل رفع السّماء؟ فما العلاقة بين رفع السّماء ووضع الميزان؟ هل يمكن أن تستعمل تلك المصطلحات مثل «بنى» و«رفع» و«أوسع» و«وضع الميزان» للتّعبير عن وصف دقيق للبناء الكوني وهل للكون بناء أصلا؟ 
نعم إنّ للكون بناء بل هو البناء ذاته واللّبنة الأساسيّة التي يتعامل معها العلماء لدراسته هي المجرّة. فالكون بناء كما يبدو جليّا في بيانات الأرصاد وصور المحاكاة، وله سقالة أيضا حيث يربط «اسمنت» الجذب ألثقالي لمادّتها اللّبنات ويجمعها لتشكّل جدران الصّرح السّماوي. فماذا يمكن أن يسمّى الشّيء الذي تقام جدرانه بتجميع لبناته وفق مثال معين إن لم يكن بناء بالتّعبير الحرفي للكلمة؟. ربّما يفرض السّؤال التالي نفسه قبل أن تلحّ أسئلة أخرى على الطّرح وهو «وهل السّماء تعني الكون»؟ الإجابة تكون بالرّكون مباشرة إلى اللّغة. فسماء كلّ شيء أعلاه. 
القرآن الكريم يخاطب إنسانا على الأرض والأرض كروّية الشّكل. فأينما يكون الإنسان على الأرض  فهناك سماء. إذن السّماء هو كلّ ما يحيط بالأرض وليس في المعنى الأصلي الذي وضعت من أجله لفظة سماء ما يوحي أنّها تتضمن بأنّ هناك حدّا للسّماء. إنّ حجم الأرض قياسا بالكون نقطة. والنّقطة توجد في فضاء كما نعلم من الرّياضيات وهي جزء منه. فالأرض نقطة من الفضاء والفضاء هو الكون بالتّعريف، فماذا عسى أن يكون معنى كلمة السّماء في الآيات التي نحن بصدد تدبّر معانيها، إن لم يكن الكون بالمعنى العلمي القائل بأنّه كلّ شيء موجود؟. 
وممّا يدعّم ما ذهبنا إليه بأنّ السّماء هي الفضاء الكوني نعود إلى اللّغة ونذكر بتعريف الفضاء الكوني أي الكون بتتّبع الصّورة التي تمثّلها الإنسان عن الكون. فقبل الميلاد بعدّة قرون الى القرن الخامس عشر سادت الصّورة التي ترى بأنّ الأرض مركز الكون وأنّ الأجرام الفضائيّة تدور حولها في الفراغ . ثم احتلت الشّمس المركز الكوني في فضاء لا متناه وزمان لا متناه وأن لا شأن للفضاء ولا للزّمن بحركة الأجرام التي تخضع في صيرورتها الأبديّة إلى قانون الجذب ألثّقالي. 
وفي النّصف الأول من القرن العشرين حصلت ثورة مفهوميّة جاءت متزامنة مع المكتشفات الفلكيّة لتغير جذريا تصوّرنا للكون. فللكون بداية ونهاية. ليس لهذا الكون مركز بل كل نقطة منه مركز. والكون هو فضاء فارغ تقريبا ومتناه ولكن لا حدّ له. والأهمّ من كلّ هذا هو التّعريف الجديد للفضاء. فالفضاء من قبل كان مسرحا ساكنا تتبادل خلاله الأجرام السّماوية قوّة الجذب ألثقالي فيما بينها مثل تبادل الأرض والقمر وبشكل آني قوّة جذب ثقالي تجعل منهما منظومة متماسكة.أمّا في التّصور الجديد فإنّه لا وجود لقوّة بل للأرض حقل جاذبية حولها ولكلّ جرم حقل جاذبية ثقالي حوله بل لكلّ جسيم مادي أو حتّى من الطّاقة (المادّة والطّاقة متكافئان) حقل ثقالي ممّا يعنى أنّ الفضاء نفسه هو حقل ثقاليّ لتصبح هويته الفيزيائيّة تتحدّد بالثّقالة. 
لم يعد الحقل ألثّقالي موجودا في الفضاء بل صار هو الفضاء نفسه. أي أنّ الكون هو موجود تمثّل ظاهرة الجذب ألثّقالي إحدى خصائصه الجوهريّة. وهذا يحيلنا مباشرة إلى لفظ السّماء. فأصل الكلمة يعني كلّ ما علا. والعلوّ يتحدّد بالجاذبيّة الثّقالية أي أنّ السّماء لفظ يدل على شيء لا يمكن تعريفه إلاّ من خلال الجذب ألثقالي. الكون بالتّعريف هو حقل ثقالي والسّماء هو اسم لكائن لا يتحدّد إلاّ بالثّقالة. ألا يعني ذلك أن السّماء مصطلح قرآني يعرف بدقّة تقتضيها النّسبية العامّة ما يطلق عليه الآن اسم «الزّمكان» حيث لا وجود لرابط سحريّ يعطي للسّماء بناءها بل هو حقل ثقالي (أي ميل الطّاقة في كلّ نقطة فيه لجذب كلّ ما حولها)، تتحرّك خلاله المادّة متّبعة التّضاريس التي تنشأ عن وجودها فيه.
خلصنا إلى نتيجة هامّة مفادها أنّ السّماء هي الكون المرئي وأنّ هذا الكون المرئي هو بناء حقيقيّ لبنته الأساسيّة المجرّة واسمنته وسقالته المادّة السّوداء. فهل رفع البناء من وجهة نظر علميّة كما تخبر بذلك الآيات القرآنية ؟ ومرّة أخرى نتساءل ما هو الرّفع لغة؟ في مقاييس اللّغة الرّاء والفاء والعين أصل واحد، يدلّ على خلاف الوضع. وفي معجم المعاني الجامع رفع الشّيء أعلاه. 
حسنا ما هي التّجربة العمليّة التي عندما نقوم بها نستعمل كلمة رفع؟ إنّها ببساطة التّجربة التي تتمثّل في تسليط قوّة عضليّة على جسم فوق الأرض لإبعاده عنها. فالرّفع أصلا وبالمنطق العلمي يعني تسليط قوّة لفصل جسمين يتجاذبان بالثّقالة. هذا لغة، فلنعد إلى الخيوط السّماوية التي تتكدّس عليها المجرّات ونتساءل ماذا يوجد بين تلك الخيوط؟ 
تحيط الخيوط بفضاء شاسع وهذا الفضاء يتمدّد. ولو يتوقف تمدّد الفضاء فستجذب الخيوط بعضها البعض وينهار البناء على ذاته من كلّ الاتجاهات فتنضغط السّماء (الكون) بمادّتها وطاقتها وفضائها في حيز فضائي أصغر فأصغر إلى العدم. هذا ليس خيالا علميّا بل هو ما يؤول إليه أمر السّماء حتما لو توقّف التّمدّد. فماذا نسمي فعل هذا التّمدّد وأثره على الخيوط التي تتوزّع فيها المجرّات؟ أليس رفعا بالتّعبير الحرفي للكلمة. ألا يفصل التمدّد المجرّات وهي التي تميل إلى السّقوط على بعضها البعض؟ ألا يمنع التمدّد التحام الخيوط (وهي مادّة متكدّسة) ويبعدها بل ويستمر في إبعادها عن بعضها البعض منذ لحظه الخلق؟ أليس الإبعاد بهذا المعنى رفعا؟ وان لم يكن رفعا فماذا عسى أن يكون؟ ألا نبعد الجسم عن الأرض عندما نرفعه؟ فماذا نفعل للقيام بالرّفع ؟ ألا نسلّط قوّة معاكسة للجذب ألثقالي بين الأرض والجسم المرفوع؟ أليس هذا فعلا ما يحدث للمجرّات التي يبعدها التمدّد لكي لا تسقط على بعضها بفعل الجذب ألثقالي؟ والرّفع هذا بدا مع لحظة الخلق وربّما هو متواصل الآن لكن الأكيد أن بفضله نحن موجودون والبناء قائم مرفوع؟ 
إنّ قوّة الرّفع هي طاقة التّمدّد، إنّها قوّة جبارة؟ ألا تستحق المصطلح القرآني أييد؟ فالسّماء بناها الله بأييد وهي في توسّع والآية تقول «وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ». هنا أيضا اللّغة هي التي تحسم أمر المعنى في مسألة «لَموسعون».  فموسعون اسم فاعل من أوسع، والسَّعة هي امتداد مساحة المكان ضدّ الضّيق. ألا يقول لنا العلم أنّ الكون يتوسّع؟ ألا يعني أنّه يزداد حجما؟ فهل الكلمة القرآنيّة تخبر عن حقيقة توصّلنا إليها بعد مئات السّنين من الوحي أم يكفي أن نقول بأنّه استعير معنى «موسعون» للدّلالة على الوفرة في الأشياء كما فسّر الأقدمون وكما يحلو للبعض أن يؤبّد ذلك التّأويل. فالله تعالى رفع البناء وطلب منّا البحث في كيفية الرّفع وها قد عرفنا. 
لقد عرفنا البناء ولبناته واسمنته وعرفنا آليّة رفعه وهي ذاتها آليّة توسّعه، فماذا عن الميزان الذي عطفه تعالى على السّماء التي رفعها؟ كان العلماء يعتقدون أنّ وتيرة التمدّد تتقلّص بتأثير الجذب ألثقالي الذي تمارسه مادّة الكون على ذاتها ساعية إلى ابتلاع نفسها وتحوّل السّماء إلى عدم. اكتشف العلماء خطأ المعتقد وتبيّن أنّ وتيرة التمدّد أخذت في التّسارع عندما بلغ عمر الكون ثلثي عمره الحالي. بيّنت الحسابات أنّ في الفراغ الهائل بين المجرّات طاقة مجهولة الطّبيعة وهي المتسبّبة في تمدّد الكون وتعمل بعكس الجاذبيّة. أطلق العلماء على تلك الطّاقة «الطّاقة السّوداء» وهناك من يرى أنّها ربّما تكون هي «الثّابت الكوني» وهو الحدّ الذي أضافه «اينشتين» إلى معادلته التي تصف الكون لكي يجعله كونا ساكنا سرمديّا. ورغم أنّ قيمته أكبر لغز حيّر العلماء لكن الحسابات بيّنت أنّ مقدار هذه القيمة العدديّة يوجد ضمن نطاق ضيّق بمعنى أنّ أيّة إضافة أو نقصان في قيمته بجزء من 10120جزء يؤدّي إلى عدم وجود الكون بالصّورة التي نراها. إنّ البناء  السّماوي  لم يكن ليكتمل تشييده وليعمّر 13.8 مليار سنة لو لم يكن هناك توازن دقيق بين القوّة التي تعمل على توسيع الكون والقوّة التي تميل إلى سحقه في نقطة لا حجم لها أي أن تعيده إلى العدم. إنّ رفع البناء السّماوي (التمدّد) متزامن مع انبثاق المادّة-الطّاقة فلا إمكان، حسب ما يقوله العلم الحديث، لرفع السّماء أي لخلق الكون بدون وضع ميزان دقيق بين طاقتين إحداهما تجعل البناء يميل إلى الانهيار والأخرى تمنعه من ذلك بل وتوفّر له الزّمن اللاّزم ليتطوّر بالوتيرة الضّرورية لنشأة الحياة وظهور الإنسان.