لغتنا العربية

بقلم
سامي الشعري
اللغة «العربية»، مداد المقدس وامتداد له
 اللّغة والرّمزي
إنّ العالم لا ينعطي للإنسان إلاّ عبر اللّغة، التي تقوم بفصل هذا الأخير عن الأشياء وتزرع القسمة داخل الأول . إنّ الانفتاح على الوجود يقتضي التخلّص من الانبهار الحيواني، وهو ما تقدر اللّغة وحدها على القيام به بفصل الكلمة عن الانفعال (إذ كلمة كلب مثلا لا تنبح). إنّ اللّغة وحدها تسمح بتحليل تفكيرنا، بجعله موضوعيّا وكلّيا. إنّه من الصّعب أن نتبيّن الى أيّ حدّ تهيكل عالمنا وتوحّده، تفتّحه على الزّمنيّة عبر الوعي بالموت، تحوله الى سرديّة، وتسمح بالتّالي بالاحتفاظ بذكراه وقسمة معناه. هذه المنزلة الإنسانيّة للغة تحقّقت على حساب بعدنا الحيواني. الانتباه للّغوي هو انتباه للرّمزي (حيث مكمن المعنى)، في حين أنّه  يقبر الآن  لصالح ما هو مباشر وحسّي ومادّي ومصلحي. إنّنا قليلا ما نظفر بنقطة التقاء، من حيث إنّنا الآن أمام مشهد «اختلاف»، ولكن اللّغة توفّر هذه «الفرصة»: إنّها تمثّل المخزون الرّمزي للمجتمعات.
لقد أبرز الفكر الكلاسيكي سلطة الخطاب، أي اللّغة كأداة تمثّل، اللّغة التي تسمّي وتقطع وتؤلف، وتربط وتفكك الاشياء، مطهّرة إيّاها في شفافيّة الكلمات. إنّها تقطع استمراريّة الكائنات الى خصائص، وعن طريقها تتجمع الأشياء وتتمفصل.
إنّ الاشتغال على اللّغة هو في نفس الوقت «وقوف»، وليس الأمر مجرّد «محطّة» نقف عنده لنغادرها، وإنّما للبقاء فيها، أي الانتباه إلى كونها موطن صنع المعنى، إنّها نقطة أو «إحداثية» ننظّم بها الأشياء، حيث تتشتّت بين الحوادث والأفعال والانفعالات والاستهلاك والحشود. لعبة اللّغة هي «لعبة» السّيطرة على الأشياء، حيث تكون الأسماء لا شكلا خارجيّا للمناداة أو للتّصنيف، وإنّما لنحت «الماهية». إنّها خلق ثان للاعيان قد تغيّر معالم الخلق الأول.
لكنّنا مع ذلك «نمارس» اللّغة، وهي بالضّرورة تقال وتكتب. إنّها إذا لغة تستعمل، وما كان هذا الاستعمال مطابقا بالضّرورة «للمثال»، محقّقا للفكرة بامتلاء. استعمالاتها تحوّلت إلى كيانات إجرائية، دون ماهية، دون روية، دون تأسيس، أي تحوّلت إلى أمر في ذاته. ها نحن نتكلّم، ولكن لم يتحوّل «الدّال» إلى وسيلة  للمعنى، إلى المدلول. «نورمال»، «c’est comme ca» ولا نحتاج إلى أن نسأل لماذا، فذلك مضيعة للوقت، ومجلبة للثّرثرة، «المهم أن نصطاد الفأر سواء كان القط أسودَ أو أبيضَ» كما قال بعضهم. هكذا يتحوّل ما هو رمزي بامتياز إلى «شيء في ذاته»، عاطل أخرس، سلبت منه خصوصيته و تفرده لصالح أداتيته. في أحد المكتبات، طلب من أحدهم أن يشغّل المروحة، وقيل له أن يضعها على رقم 1 ، فقلت : «1» هذه في العادة، في العدّ الرّياضي تفيد الدّرجة الدّنيا بعد الصّفر، ولكنّها سياقيّا، أي هنا تقنيّا، تفيد العكس، أي الدّرجة القصوى في الاشتغال»، فكان ردّ الحاضرين: «ما يهمناش، المهم تخدم». إنّ الاتيان باللّغة على «سرير»التّحليل (وهو ايحاء بالحالة المرضيّة التي انتهى إليها استعمالها) هو إخراجها من هذا الوضع الأداتي «العاطل».
اللّغة تواصل 
إنّ أول كلمة تنطق «تقول» التواصل ذاته كما يقول «لوفيناس». اللغة موقف وليس مجرد الة، فإنّني عندما أعبّر مباشرة التقي وأتواصل. لسنا بذلك نكتشف الماء الدّافئ، وإنّما صرنا الآن نتعامل مع اللّغة باعتبارها حاضرة ضمن المجال البين-ذاتي. اللّغوي في استعماله «يموضع» نمط العقلنة السّائدة. إنّها ليست مجرّد حركة لمقولات أو مبادئ ما قبلية، لفكرة محضة، وإنّما هي بالأساس استعمال لها، بما يحويه ذلك من نمط وأدوات ومرجعيّات وقوى ورهانات الاستعمال. فإن نتعقّل هذا المخزون الرّمزي هو أن نفكّك نمط حضوره العملي بين النّاس، أي بعده التّداولي، ليس فقط تركيبيته أو بعده الدّلالي. إنّ ذلك هو الذي يمضي بنا –أو على الأقل يساعدنا -على أشكلة اللّغة باعتبارها موطنا ومشهدا لمازق ما. لعلّ ذلك هو الذي يشكّل بعضا من وجاهة تنظيم التّظاهرة: لا يخلو المشهد الثّقافي (جمعياتيّا كان أو جامعيّا) من «معالجات» لهذه المسألة، ولكن راهنيّة المسألة، أي نمط حضورها الواقعي هو الذي «دفع بها إلينا». إنها تتموضع في فضاء ما، وضمن علاقة ليست هي علاقة «العقول»، ولا حتّى «المتواصلين»، وإنّما فضاء آخر يهزّه الصراع.
اللّغة ولعبة القوى
اختزال الفعل اللّغوي في الحدّ التّواصلي يضفي المشروعيّة على كلّ الوسائل التّعبيريّة (إذ يبقى المنشود في إرساء علاقة اتصاليّة بين الباثّ والمتقبّل)، ولكن لا تظهر عبر هذه المقاربة المقاصد القيميّة والنّظريّة والتّربويّة والايديولوجيّة والسّياسيّة والاستطيقيّة... كلّ خطاب يظهر ليخفي ويظهر ليخفي. إنّنا نقف –في لحظة أولى-على عدم حياد مؤسّسة اللّغة بوصفها إما ترجمة لمكبوت ما قد يكون عقائديّا أو ثقافيا أو سياسيّا، أو استراتيجية تأطيريّة قصديّة على نحو مباشر وآني أو قاصدة على مدى بعيد. لم تعد اللّغة تفهم بمرجعيّة التّواصل وإنّما باعتبارها «ألعاب لغة»(jeux de langage)،  اذ هي وسيلة للمغالبة مثل أي نشاط ذهنيّ أو عمليّ إنسانيّ. إنّ معالجة مشكل اللّغة ضمن نظريّة التّواصل فقط تنسينا أنّ «الرّسائل»مزوّدة بأشكال وآثار متفرّقة، قد تكون، كما أشار إلى ذلك «جاكبسن»،«إفصاحية انفعالية»،«تأثيريّة»، «تقويميّة»، «شعرية إنشائيّة» … إنّها لا تقوم بوظيفتها فقط باعتبار أنّها توصّل معلومات. اللّغة لعبة ورهانات وليس فقط نظاما للتّواصل، إنّها «ضربات» كما يقول «ليوتار»، علاقات قوّة، وفضاء مهيأ لقوله: ليس هو نفس القول في المسجد، وفي المحاضرة، ومع الأبناء، ومع التّلاميذ. هناك ما يسمح به وما لا يسمح به ضمنا. أن نقول هذا ولا نقول ذاك، أن تتخاطب مع رئيسك في الجيش ولكن لا تعارضه، أن تناقش أستاذك ولكن لا تتجاوز الفاصل المعنوي، أن تنصت لخطبة الجمعة «انصتوا رحمكم الله...».
لعلّ هذه الزّاوية هي التي تبيّن قصور «المعالجات» (وهي لا يمكن أن تكون كذلك حيث أنّها لم تراهن على تبيّن المرض أو الخلل)، التي توغّل في خطاب نظري تجريدي دون «إعادة» اللّغة إلى «عالمها»، إلى «عالمنا». اللّغة هي خط lignee حسب «دولوز» في تحديد الاستراتيجيّات المحركة لـ«خارطة» الصّراعات، منها يتمّ إعادة تشكيل التّقابلات. إنّها ما ستعيد رسم المواقع، ولكن هذه المرّة على أسس واضحة، حيث تضطرّ الجميع إلى أن «ينطق»، أن يتكلّم من موقعه. اللّغة تحدث قطعا Une coupe في هذا الامتداد، ونعني به الفضاء الذي لا انثناءات ولا انحناءات ولا تعرّجات فيه (أنّه مبسّط، بسيط، تافه، خال من المعنى). اللّغة هي الحركة داخل «مسطّح» تشتغل فيه علاقات قوى. لذلك فإنّ الانتباه للّغة يقتضي الانتباه إلى القوى التي تستعملها وتوظّفها وتكيّفها وتعرض عليها نواميسها.
إنّ ذلك الاستعمال (الذي رأينا أنّه لا ينفصل عن «ماهية اللّغوي) والذي اعتبر طويلا أنّه «عادي»، في ذاته ولذاته، هذا «النورمال» هو «نسيان» للصّيرورة. إنّه تغافل عن أنّ السّائد هو سيادة وتسيّد، أي أمرا ما حصل (كحصيلة) بعد اشتغال عيني عليه، واعتباره في مقابل ذلك أمرا معطى وجاهزا وبديهيّا.
ترسم اللّغة بهذا جغرافيّا ثقافيّة سياسيّة: إنّها ما به تتحدّد المرجعيّة الثّقافية للقائل، للنّاطق، حيث يكون –حتّى رغما عن أنفه- مثلا فرنسي المنبت والمنشأ والتّربية والتّعليم ومن ثمّ الانتماء، أو يكون عربيّا أو ألمانيّا... اللّغة اذا ترسم أرضا «جغرافية» للخصوصيّة والهويّة الثقافيّة، وهي ترسم المجال السّياسي الذي يعتبر فيه القائل أنّه وطنه أو دولته أو أمته  
اللّغة «العربيّة»، مداد المقدّس وامتداد له
ماذا يعني أن يتعلّق مبحثنا بـ«اللّغة العربية»؟ دعنا نشير أولا  أنّه يجدر بنا أن نتحدّث لا عن«لغة عربية» وإنّما عن «لسان» عربي، بحكم أنّ اللّغة نظام تواصل بين بني الإنسان باختلاف أنظمتهم الرّمزيّة والثقافيّة، وهو بالتّالي لا يمكن أن يكون –تركيبيّا- ضمن علاقة إضافة لمضاف إليه يكون عربيّا أو فرنسيّا...لا نقصد بذلك فقط -وإن كان ذلك مقصودا-تصحيحا لتصحيف لغوي، وإنّما إعادة الكلمة إلى مفعولها، إلى اشتغالها الرّمزي.
لا ندّعي أنّنا الأوّلون  الذين يسائلون « هذا اللّسان»، ولا الأخيرون  الذين أتوا بما لم يأت به الأولون، هناك من سبقنا من الجمعيّات والمعاهد والمؤسّسات، واشتغالنا هو من باب قوله تعالى «مصدّقا لما بين يديه ومهيمنا عليه». إنّه استعادة لأمر نخشى كما ذكرنا الى أن يتحوّل إلى مجرّد حيازة ذهنيّة أو مناسبة للاحتفاليّة. «العربيّة»، إذا هي بيننا قد تحوّلت الى «حدث»، والحديث عنه ليس مجرّد حنين لـ «هوية»: إنّها قد تبدو في الخطاب السّائد أو العالم كذلك، ولكنّها تتحوّل إلى هويّة  دون تاريخ، دون حضور وفعل، هويّة مماثلة لنفسها، أي «الوجود الذي يقرّب من العدم»، بلا انثناءات ومآزق وشروخ تعلن عن حياتها وتثبتها.
إنّ «العربيّة» كذلك مناسبة لنا للحديث عن المشكل دون رهان منفعي (وهو الانموس الدّارج الآن في  التّعامل مع المعرفة باعتبارها مصلحة لا قيمة لها في ذاتها، وإنّما بما ستدرّه من مصلحة و مغنم)، وحتّى بعض الذين يتحدّثون عن العربيّة فمن باب الاختصاص المهني بعيدا عن أيّ انهمام باللّغة بما هي كذلك. لابدّ اذا أن نعلن الضّمني المحرّك لعملنا: إنّنا معنيّون بالعربيّة، لا استرزاقا، بل انخراطا وهمّا وانهماما، ولكن كذلك توجّسا.  لقد مررت منذ فترة –ومازلت  لحدّ الآن أفعل ذلك-على «الفتوحات المكّية» لابن عربي، وهالني الفرق الشاسع الذي فصل بيننا وبين هذا الذي ينطق بلساننا. أي منحدر وصلنا اليه في تعاملنا مع هذا اللّسان؟ هذا المخزون الدّلالي الهائل الذي يحوي أكثر من 6 ملايين ونصف كلمة (حيث لا تحوي الفرنسية أكثر من 350 ألف كلمة)، صار يختصر في «عبارات» جنسيّة مقرفة، أو عبارات جاهزة تشير إلى نفاذ هذا المخزون «الاستراتيجي» لصالح التّفاهة والرّداءة («طيّارة»، «يهبّل»، «الواحد متاع الوحود»، «كونكتي»..).
هل علينا أن نذكّر أنّ «العربيّة» ليست مجرّد خصوصيّة محليّة أو وطنيّة أو قوميّة، وإنّما هي «لسان»المقدّس الذي حايثت معانيه كلماتها. لقد «تنزل» القرآن في صورته كوحي متجسّدا بـ/ في «العربيّة» «بلسان عربي مبين». ليس المقام هنا مجرّد أداة اتّخذها النّص ليعبّر بها عن المعنى (وكان يمكن أن يتّخذ له أيّ وعاء آخر)، وإنّما توحّد الدّال والمدلول بحيث لا تقبل «تلاوته» والتّعبد والذّكر والدّعاء إلاّ به في صورته اللّغويّة العربيّة. هذا الأمر يشي بأنّ للعربيّة إذا وضع أنطولوجي خاصّ لا يمكن أن يكون مجرّد علامة سيميائيّة أو لسانيّة كوسيلة لابلاغ مضمون، وإنّما وجب أن يوقّر مقام الدّال ذاته باعتباره المسكن الأزلي «للمدلول» طبقا لإرادة الرّب نفسه. 
قد يصير الأمر إلى استعلاء ثقافويّ كثيرا ما استثمر لتبرير خطاب شوفيني مغلق، ولكن الانحراف لا يغني عن إقامة الفواصل والتّمييزات، واذا بنا أمام «العربيّة»من حيث هي كذلك، التي صارت تتعلّق هذه المرّة بالامتداد العقائدي لا بالمنغلق العنصري. يصير إذا «التّداول» حول العربيّة لا شأنا خصوصيّا مقيتا، ولا استثمارا مهنيّا ضيّقا، وإنّما التقاء مع «الوحي» من حيث أنّه إرادة السّماء في إعطاء وجاهة «غير عاديّة» لهذا اللّسان. لقد فرض الموضوع علينا بهذا نمط معالجته، من حيث مقامه الذي صار من الآن (أقصد في هذه المرحلة من التّحليل) الاهيّا، حيث يحدّد المتعامل معه بدءا موقفه من هذا المقام ، وليس مجرّد معالجة تركيبيّة أو دلاليّة لهذا اللّسان.
لقد عبئ «العربيّ»بمعنى استهجاني، بما أنّه يمثّل الهمجيّة والجهل في مقابل التّنوير والحداثة، وصار الاقتراب منه مبعث ريبة وتوجّس. إنّ الذي يجيد التّعبير بالفصحى صار «يتكلّم بالفقهي» (أي عبارات غامضة ملتبسة لا تؤدّي مهمّتها التّواصلية)، وصار مدارسة المسألة خطابا «هوويّا» ينمّ عن انعدام الحسّ التّاريخي ووعي متكلّس يستنجد بمومياء محنّطة غادرتها الحياة منذ مدّة بعيدة. 
إنّنا حتّى ولو أقررنا بجمود ما مسّ هذا اللّسان بحكم عوامل متظافرة ليس هذا موطن تعدادها، فإنّنا نقدر أنّ استعادتها بهذه الطّريقة الاستهجانيّة هي في الحقيقة استثمارا خبيثا لهذا الوضع وبالتاّلي إرادة تأبيد لهذه الحالة. حتّى على افتراض أنّ الالتجاء إلى الهويّة هو قتل للحياة بما هي حركة، فإنّ هناك سمكا مادّيا لها بموجب ما تتعرّض/ نتعرض له من استهداف وعمليّات اقتلاع. عندها سيفرض علينا فضاء هو بالضرورة لا فقط «حيز»، بل وكذلك «متحيّز».