تأملات

بقلم
عادل دمّق
مدارات المحبة
 بسم الله الرحمن الرحيم:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ» (165). سورة البقرة.
 
نتخيل في خريطة الحبّ أنّ هناك خطّا رئيسيّا للحبّ بجانبه خطوط أصغر متوازية وحوله خطوط متفرّعة أو متقاطعة. وتتوزّع موضوعات الحبّ على هذه الخطوط، فبعضها يدخل على الخطّ الرّئيسي والبعض الآخر يتوزّع على الخطوط الموازية أو المتفرّعة أو المتقاطعة. والإنسان –في حالة كونه ناضجا– يستطيع أن يستقبل موضوعات متعدّدة للحبّ على هذه الخطوط مع الاحتفاظ باختلافاتها الكمّية والنّوعية، ويستطيع أن يجعلها تعمل في تناسق وتناغم دون أن يلغى بعضها البعض، ولكن غير النّاضج لا يقدر على ذلك فنجده يختزل خطوط الحبّ في خطّ واحد يبتلعه بالكامل ويفقد القدرة على السّيطرة عليه.
ولكلّ منّا خريطته التي يوزّع عليها موضوعات حبّه، وتشكّل بالتّالي تفضيلاته وتوجهاته بنسبها المختلفة، ولكن تبقى الأهمّية الكبرى للموضوع الذي يشغل الخطّ الرّئيسي لأنّ هذا الخطّ يؤثّر على حركة بقيّة الخطوط وأحيانا يلغيها وأحيانا يدعّمها. والخطّ الرّئيسي قد يشغله حبّ الله، وقد يشغله حبّ المال أو حبّ النّساء أو حبّ المخدّرات أو حبّ الشّهرة أو حبّ المناصب، وهنا نجد أنّ الشّخصيّة تتوجّه بكلّ ملكاتها وقدراتها نحو المحبوب الذي شغل الخطّ الرئيسي، وقد تضمر بقية الخطوط أو تتلاشى لحساب الخطّ الرّئيسي وقد تبقى ولكنّها تتأثّر حتما بالخطّ الرّئيسي وبالمحبوب الذي شغله.
والوضع الأمثل والأقرب للصّحة النّفسية هو أنّ يخصّص الخطّ الرّئيسي لحبّ الله ثمّ توزّع المحبوبات الأخرى على بقيّة الخطوط الفرّعية، فهذا التّوزيع يضمن للإنسان التّوازن والانسجام، وهذا ليس تعصّبا لفكرة دينيّة بقدر ما هو رؤية موضوعيّة لضمان عوامل الثّبات والاستقرار، فالله هو المحبوب الوحيد المطلق الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يحول ولا يزول، أمّا غيره من المحبوبات فإنّها جميعا نسبيّة وقابلة للزّوال والتّغيير لا محالة، إمّا بالموت أو الضّياع أو الهجر، ولهذا تهتزّ التّركيبة النّفسية وتتزلزل حين تفقد أحد هذه المحبوبات القابلة للفناء أو الضّياع أو التّحول إذا كان أحد هذه المحبوبات يحتلّ الخطّ الرّئيسي للحبّ، والذي هو مخصّص في الأساس لحبّ الله المطلق والدّائم.
ومن هنا كان الصّالحون والزهّاد يتحدّثون عن قطع العلائق الدّنيوية، وهو يعنى إخلاء الخطّ الرّئيسي لمحبّة الله وعدم التّورط في محبوبات زائلة تشغل هذا الخطّ الهامّ ثمّ تزول أو تتحوّل في لحظة فتترك الإنسان عبارة عن حطام، لأنّ هذا الخطّ الرّئيسي للحبّ هو صمّام الأمان وعامل التّوازن للشّخصيــة. والأمثلــة في حياتنا كثيرة حين نرى أشخاصا يتعلّقــون بأشخــاص آخريــن أو بأشياء دنيويّــة أخرى إلى حــدّ العبـــادة (كما يصفون ذلك في أشعارهم وأغانيهم) وحين يفتقدون هذه التّعلقات (وهذا لابدّ وأن يحدث بالضّرورة للأشخاص والأشياء) يسقطون صرعى للإحباط والضّياع، وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (الكهف: 104)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عش ما شئت فإنّك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه».
والتّوحيد في معناه النّفسي يعنى إفراد الله سبحانه وتعالى بالحبّ (على الخط الرّئيسي الذي لا يلغى أنواعا أخرى من الحبّ المحمود على خطوط تابعة أو فرعية- يفرد الله كلمة الودّ للتّعبير عن عاطفة الحبّ التي تربط البشر -)، والشرك هو أن يزاحم حبَّ الله حبٌّ لغيره على الخطّ الرئيسي للحبّ. وهكذا تبدو أهمّية خريطة الحبّ كوسيلة للسّعادة والنّجاة في الدّنيا والآخرة، حتّى لا تبتلعنا محبوبات زائلة تشقينا وتستنزف قوّانا وتستعبدنا ثم تتركنا في لحظة غدر أو هجر فنقع في هاوية الضّياع .
أقول هذا وأنا أرى كلّ يوم أعمارا تضيع في تعلقات زائلة، وإخلاص شديد لمحبوبات تافهة أو عابرة أو خادعة، وإعلان صريح عن العشق الذي يصل لدرجة العبادة لتلك المحبوبات والذّهول في نفس الوقت عن المحبوب الأكبر والأعلى والأهدى - «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» 
ضميمة :نص بديع لابن الجوزي
« لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد. 
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته، وصنفت في ذلك كتابًا سمّيته بـ «ذمّ الهوى»، وذكرت فيه عن الحكماء أنّهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة، وأنّهم اختلفوا: فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلاّ لظراف النّاس، وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق.
إلاّ أنّه خطر لي بعد ذلك مَعْنًى عجيب، أشرحه ها هنا، وهو أنّه لا يتمكّن العشق إلاّ مع واقف جامد، فأمّا أرباب صعود الهمم، فإنّها كلّما تخايلت ما توجبه المحبّة، فلاحت عيوبه لها -إمّا بالفكر فيه، أو بالمخالطة له-، تسلّت أنفسهم، وتعلّقت بمطلوب آخر. فلا يقف على درجة العشق، الموجب للتّمسك بتلك الصورة عن عيوبها، إلاّ جامد واقف.
وأمّا أرباب الأنفة من النّقائص؛ فإنّهم أبدًا في التّرقي، لا يصدّهم صادّ، فإذا علقت الطّباع محبّة شخص، لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربّما مالوا ميلًا شديدًا، إمّا في البداية لقلّة التفكير، أو لقلّة المخالطة والاطّلاع على العيوب، وإمّا لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنّفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين، كالظّريف مع الظّريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة، فأمّا العشق، فلا..
فهم أبدًا في السّير، فلا توقّف، وإبل الطّبع تتبع حادي الفهم، فإنّ للطبع متعلقًا لا تجده في الدّنيا؛ لأنّه يروم ما لا يصحّ وجوده من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر...
وأمّا متعلّق القلوب من محبة الخالق البارئ، فهو مانع لها من الوقوف مع سواه، وإن كانت محبته لا تجانس محبّة المخلوقين، غير أنّ أرباب المعرفة قد شغلهم حبّه عن حبّ غيره، وصارت الطّباع مستغرقة لقوّة معرفة القلوب ومحبتها». (كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي).